دمشق: من برزخ التردد إلى القرار
عادل سمارة
قد لا يخالف بعضنا بعضاً الرأي بأن خصوصية كل بنية قُطرية عربية قد أعلنت في حراكها عن اختلاف ما عن الأخرى، ثورة، حراك، ثورة مضادة، عدوان عرب على الأمة،وخليط منهنَّ جميعاً. وكأننا بالحالة السورية هي الأكثر فرادة بين مختلف الحالات.
في نقاش أعقب هروب بن علي من تونس وقبيل اي تحرك في سوريا، دار نقاش بيننا في مقهى بشأن سوريا وإيران، وكنت ممن رأوا أنهما حالتان مختلفتان. وأن إسقاط نظاميهما في هذه المرحلة سيكون لصالح الثورة المضادة سواء دول المركز أو الدين السياسي وبالطبع الكيان. هذا رغم إدراكنا أن النظامين هناك يقفان في موضعين لا يخلوان من تناقض داخلي كبير، فهما:
· قوى مقاومة وممانعة
· وانظمة غير ديمقراطية، إيران ديمقراطية الدين السياسي ونظام وطني داعم للمقاومة في لبنان ومضاد للإمبريالية ولكن طامعاً في العراق، وسوريا نظام ممانع متراكب على ديمقراطية لصالح الحزب الواحد والأجهزة الأمنية والنومنكلاتورا.
وحينما بدأ الحراك في سوريا أسعفنا التفكير المسبق لنحدد موقفاً نقدياً للنظام ومدافعاً عن سوريا الوطن بما هو المستهدف. ولم يكن من الصعب التمييز بين المعارضة الوطنية والاجتماعية والطبقية في سوريا وبين المعارضة المرتبطة بالخارج سواء المركز الراسمالي المعولم أو قُطريات الريع النفطية وقُطريات غير نفطية، وكل ذلك بقيادة المركز والكيان الصهيوني الإشكنازي وباستخدامهم جميعاً لمختلف الأدوات بما فيها “تطوير” أداة الهيمنة الثالثة[1].
ولم يكن صعباً تلمُّس ومن ثم الرؤية الواضحة، لأثر وفعالية الاختراق في سوريا كغيرها من بقاع هذا الوطن كما هي في الوطن العربي. بل لم يكن لأي حديث عن الفوضى الخلاقة أن يحصل لولا حضور الاختراق وتمكُّنه من تجنيد جيوش عديدة من مثقفي اللبرالية حيث “التفخيخ الذهني والثقافي” إلى مثقفي الدين السياسي حيث “التفخيخ الجسدي”، إلى مثقفي الأنجزة حيث “التفخيخ المالي” إلى مثقفي الأكاديميا والمنح حيث “التفخيخ الجاسوسي والبحثي”. لم يكن يلزم لرؤية واضحة سوى معيار واحد، سلاح واحد : هو الانتماء الوطني/القومي المزود بمحاولة الوعي.
نحن الذين وقفنا إلى جانب سوريا الوطن والشعب قبل أول حراك تعرضنا بسبب ذلك ولا زلنا لمشكلتين:
الأولى: مفعول التفخيخ (الديني والثقافي والأكاديمي والإعلامي والتمويلي والبحثي) في اختراق وعي كثير من المواطنين العرب حيث فوجئوا واستغربوا كيف يدافع عرب لهم رؤية وحضور عن نظام قمعي وأمني دون أنظمة أخرى (نظامي مصر وتونس). وبدا كما لو كنا في حالة فصام.
والثانية: هجمة هائلة من معسكر الثورة المضادة سواء مثقفي أنظمة الكمبرادور ومثقفي التهصين العربي والفلسطيني، وأدوات الأنجزة، ومثقفي القطرية والإقليمية والدين السياسي، ومثقفي الارتداد الشيوعي…الخ.
لكننا لم نسقط في برزج الخوف او التجمُّد رغم معرفتنا بقوة آلة الإعلام والمال التي بيد الثورة المضادة وحتى قوة الطعن الشخصي الفردي (عملاء للنظام السوري، أدعياء الديمقراطية والحرية، ذوو مكيالين، قوميون متعصبون شيوعيون تقادم عليهم الزمن، أصحاب لغة قديمة، لا يتقنوا نحت لغة جديدة…الخ) لكننا كنا وسنبقى عرباً. كانت ولا تزال تشدنا الرؤية والموقف العروبي والاشتراكي دون مواربة ودون أن تهزهما ريح صرصر العاتية تلك. فلم ولن نتقرب من نظام حكم أو حزب حاكم لا في سوريا ولا العراق ولا ليبيا. وكذلك لم نتبع لأية قوة أو حزب يتحدث يساراً ويلعب لا وطنيا ولا يساريا ولا قومياً.
خلال تلك الشهور الصعبة كانت بذور الرؤية الدقيقة تُطل ببطء بارد ولئيم كبطء التاريخ، ذلك البطء اللئيم الذي لا يصبر عليه حتى مجيئه سوى إيمان عميق. أخذ الوضوح طريقه إلى القطاعات الشعبية، وهذا الأهم، وبدأ الناس بالاستفاقة على دور فضائيات العرب (الجزيرة والعربية) والعجم (بي بي سي، والجزيرة بالإنجليزية) وفضائيات خبيثة كثيرة في الوطن العربي، ناهيك عن الصحف والصفحات الإلكترونية …الخ. وكانت مجزرة اغتصاب ليبيا درساً مرئيا بوضوح لتحالف الدين السياسي والقاعدة واللبراليين والعالميات الثلاثة[2] بقيادة إمبريالية صهيونية، وهو ما ساعد على اتضاح الصورة.
ولم يكن لنا لنصمد في هذا الامتحان المذيب للأعصاب لولا الرؤية ونظافة اليد. هذا ما لم يتعوده المثقف المرتبط بنظام حكم حتى لو شريفاً ولا المثقف الذي يرى الوطن والتاريخ من خلال شخصه فيبدو شاتماً لكل شيء، لا منتمياً لأي شيىء! ولن يكون كذلك بالطبع! فهو مجرد متفذلك يجيد تصفيف الكلمات ونحتها كأقراط في اذنيه وهو بمأمن ايا كان نظام الحكم. لا يتخيل هؤلاء أن أحدا يعمل لوجه الله والوطن. يا لها من شخوص شبحية تثير الضحك حتى تبين النواجذ او تطير من الفم.
التفخيخ وفك البرزخ الحالي
لو انتظرت بغداد قليلاً لتفجرت مع الفيحاء! ربما ليس سوى خطىء فني أو استعجال مريض بالألغام كي لا يُكشف. لكن تفجيرات دمشق مفصلية، وليس هذا بمفهوم إقناع من لم يقتنع. فهذا الحديث ليس موجهاً إليه بل ضده. وليست هذه التفجيرات آخر الأسلحة للعدو المتعدد. لم ينجح تفكيك الجيش للانقلاب ولا تحريك الشارع ليفيض ضد النظام ولا التدريب السري لعملاء تسللوا للقتل ولا التحويلات المالية ولا شراك “اتحاد المخابرات العربية”، فكان لا بد من الانتحار، هو الملاذ الأخير لمن قطع مسافة العودة إلى الشعب أو جرى اختراقه وإسقاطه بما لا يسمح له إلا بالانتحار.
ليس هذا آخر الدم في دمشق مع أن الإرهاب لا ينهي الشعوب ولنا في الإرهاب الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني عبرة واضحة وممتدة. ، ولكنه بالتأكيد مؤشر نهاية مشروع الإرهاب. عندما يُهدَّد المواطن بحياته وليس بوطنه فقط يدرك أن عليه الانخراط في الاشتباك وهو انخراط قائم على وضوح الرؤية وضرورة المشاركة في التصدي. أخرجت هذه التفجيرات النظام من برزخ الوقوف طويلاً بين الدفاع الأمني وإثبات حسن النية ومراعاة مشاعر الأصدقاء وبين التقدم بمشروعه الذي لا مندوحة عنه.
في هذا اليوم، وضع الإرهاب حمله الدموي، تماماً مع وكما وضعت الجامعة العربية حملها الخبيث. هل العلاقة شرطية هنا؟ ربما، بل ولِمَ لا؟ في هذا اليوم أعلن الإرهاب بأوضح أسلوب أميركي رفضه للإصلاح. وهذا يجعل يد النظام طليقة أكثر في تصفية بؤر الإرهاب، إلا أن هذا لا يكفي، بل لا بد من الهجوم الذي يستثمر موقف الشارع السوري والجيش السوري والشارع العربي والدول الصديقة والشعوب والنظمة الضد للإمبريالية الراسمالية الغربية.
لا بد من عودة أوسع وأعمق من النظام إلى الشعب، فهي اللحظة التي يمنكه فيها البناء المختلف، هي لحظة تسمح للنظام بأن يغادر بعض تحالفاته الداخلية (مع النومكلاتورا واللبرالية الجديدة واوساخ السوق وخرائب الفساد). صار النظام مطالباً بالانتقال من الدفاع الأمني الناجح إلى الهجوم السياسي الديمقراطي الشعبي والقومي. فمقابل محاولات المركز الراسمالي الغربي استصدار قرار تدخل في سوريا، وقرار الجامعة العربية المشابه، وإرسال مراقبين من هذه الجامعة، صار من الواجب على النظام أن يرد بمواقف يتصدى بها للهجمات هذه سواء خفت حدتها في شكل وزادت شدتها في آخر كما نعتقد أم لا.
إن على النظام في سوريا أن يعلن تشكيل حكومة وحدة وطنية يتم فيها تمثيل مختلف القوى الفاعلة إيجابيا في سوريا، القوى السياسية والقطاعات الشعبية والطبقية رجالا ونساء. إن شعور النظام بأنه يمسك بالأمور يجب أن يدفعه إلى هذا القرار أكثر مما لو كان لا يشعر بقوته الذاتية.
ومقابل المراقبين من الجامعة العربية والجامعة نفسها، لماذا لا تقوم القوى السياسية العربية والمؤسسات والاتحادات لتشكيل جامعة شعبية عربية تجعل من دمشق والجزائر مقرها وبحيث يكون دورها العمل على دمقرطة هذين النظامين والتشاور معهما والطلب إليهما القيام بما يعزز التماسك الشعبي العربي والاستماع لراي الأمة. والعمل على تقوية التماسك الشعبي العربي في مواجهة التفكيك والتفتيت القطريين. أي لا بد ان يصبح تجسيد اي شكل وحدوي على راس الأجندة وباي ثمن. لا يحصل هذا في لحظة لكنه يُنجز إذا ما بُدء به.
لا بد من تشكيل منظومة سياسية ثقافية عربية تكون مثابة برلمان فكري عربي يتابع ما يدور في الوطن ويعطي رأيه ونصائحه وتوجيهاته بدل أن يبقى كل مثقف أو مفكر مجرد ناصح من بعيد، فلا بد من كتلة ضغط جماعية لتصحيح المسارات.
إن نجاح سوريا في مشروع دمقرطة واضحة سواء بخطوتها الأولى في تشكيل وزارة وحدة وطنية والإعلان عن انتخابات قريبة لا تتعدى ثلاثة اشهر وتضمين القوانين الحزبية والانتخابية محددات وطنية وقومية مثل رفض الاعتراف بالكيان وعدم إخضاعه للتصويت ورفض أحزاب الدين السياسي ورفض الانفتاح المنفلت على الغرب الراسمالي…الخ هذا النجاح هو الرد الناجع الناجح.
[1] أوضح تدمير ليبيا أن الهيمنة الثالثة شكل من سيطرة المركز على الوطن العربي يتطور عبر تقسيم عمل يكون للمركز دور العدوان الجوي بينما تقوم مجموعات عربية مُخترقة بتخريب الوطن وإسقاط الأنظمة القومية مسلحة من المركز وممولة من أنظمة الريع ومدربة منهما ومن أنظمة عربية تابعة أخرى مع حضور الكيان الصهيوني في كل جزئية من هذا.
[2] العالميات الثلاثة هي القوى أو المنظومات ذات الاتجاه العالمي والتي تقف جميعاً ضد الأمة والقومية العربية وهي الدين السياسي (الإسلام التركي والأميركي والوهابي…الخ) والراسمالية العالمية في المركز الغربي والشيوعية المخترقة صهيونيا وإمبريالياً.