الانقلاب على “سيدي وحبيبي”
كلاديس مطر
ليس الواقع العربي قطعة موسيقية من دون نشاز. كما انه ليس ” قماشة” ذات خيوط متجانسة ولا حتى لوحة – مع الاسف – يمكن للمتفرج من ان يفهم في الحال مشهديتها. ولا يكفي عقلية المحلل السياسي للاحداث اليومية لفهم “ما يحصل في هذا الواقع” ولا تلك التي للمراسل الحربي الذي ينقل وقائع الصراع وعلى رأسه خوذه بينما يلهج بأكثر التعابير توتيرا عن بيئة لا نعرف ما يجري فيها بدقة.
وسائل الاعلام !!!؟؟
دع عنك كل هذا “الاجتهاد الاستعراضي” الذي يمد جذوره الى عمق مصالح ومالكي هذه الوسائل.
واذا، كيف نقرأ ما يحدث او كيف نفهم ما يحدث بعيدا عن متابعة وقائع ” الصراع ” اليومية؟ ومن هذا الذي يملك أدوات الفهم و التغلغل الى المشهد ” الفعلي ” للحقيقة وليس الظاهر الذي نراه يتحرك امامنا على “الشاشات المهتزة” التي تغص بالغاضبين واللافتات التي امتلأت بعبارات عن اسقاط الانظمة؟
اول الطريق الفهم
الحق، هناك مستوى آخر لفهم (صراع النظام العالمي مع ذاته ومع الاجسام المضادة له في مناطق نفوذه) ” يتجاوز” بكثير مجرد القراءة التقريرية للحدث. انه المستوى الربما الارفع للفهم والتحليل والقراءة – وقد يكون الاكثر واقعية – الا وهو المستوى الرمزي ؛ اي التطلع الى ميكانيزم مشهد هذا الصراع من فوق أو من على بعد وليس التغلغل فيه، ثم فهم المآل التي تتجه اليه الاحداث والغاية من هذا التوجه.
والفهم الرمزي يعني أيضا متابعة حركة صعود وأفول القوى المطلقة لهذا النظام العالمي وفهم الآليات الخاصة المرتبطة بدورة حياتها ثم فهم العقلية ” الاستشراقية ” بكل ادبياتها التي تدير من خلالها الصراع مع القضايا والدول والشعوب العربية خصوصا بغية الحفاظ على بقاء هذه القوى ” على قيد الحياة ” وليس من اجل اي سبب آخر معلن.
إن هذه الصراعات الفرعية الصغيرة (او ما يسمى اليوم بالحراك الشعبي العربي المسمى الربيع العربي) والتي تديرها هذه القوى المركزانية المطلقة التي تختزل النظام العالمي – والتي حدثت نتيجة لامتطاء هذه القوى الظرف المحلي الخاص المساعد على هذا الحراك – تندرج في خانة ” التفاصيل الصغيرة التي تتأتى عن الصراع الأساسي والاكبر ” اي صراع بقاء القوى الاحادية المطلقة فوق قمة مركزانيتها والذي هو الصراع الكبير والوحيد في العالم،اي صراع النظام العالمي مع ذاته والاجسام المضادة له.
اذا هناك عاملان كما أرى قيد الحراك الان في المشهد العربي الكبير اليوم:
1- صراع هذه القوى ذات الاستقطاب الاحادي من اجل البقاء و ما يترتب على هذا البقاء من دمار في بقية اجزاء من الوطن العربي والعالم (من بينها القضاء على القوى الكبرى المُهددة مثل روسيا والصين التي هي ايضا من القوى العملاقة التي لها ميكانيزمها التوسعي الخاص سواء كان سياسيا معلنا او اقتصاديا بفعل عملية نموها الطبيعي).
2- العقلية التي يدير من خلالها النظام العالمي الصراع من اجل بقائه، وهي عقلية ترى انه نظام يمثل الخير كله الذي يستحق من اجله ان يكون هناك ضحايا في الطرف الاخر المعادي و ذلك لانه الطرف الذي وجه اليه الضربة (التي بدأت عمليا في انهيار البرجين ؛ الرمز الاكثر معنى لجبروت النظام العالمي) اي الشر. انها عقلية العقاب – الله – المشرع الاوحد.
حماة النظام العالمي
اذا ما كان هناك اي اعداء للنظام العالمي – هكذا يحلل حماته ومريدوه – فلأن الاخرين غيارى من نموذجه الفريد غير القابل على الاحتذاء ولهذا فانهم يرون في العدو حاقدا و غيورا و في نهاية المطاف ارهابيا يريد ان يقضي على نظام هو اصلا – برايهم – من صنع الله. والحديث عن القيم الغربية بهذه الروح اللاهوتية لدى مفكري الغرب الابيض تشي بهذه القناعة الدفينة من ان عقلية الشعب المختار لربما تسربت اليهم ايضا مع بدايات دخول الفكر البروتستانتي المتطرف الى الارض الجديدة.
وعندما تفرض اميركا مثلا قيمها على الاخرين بالقوة فلان قناعتها ان الخير الذي تمثله هي انما يبرر وسائلها “المفرطة في شرها” ويكفي ان تصبح ضحية في وقت ما (مثل اعتداءات ايلول مثلا) لكي تمسك بطرف الخيط المؤدي الى هلاكها حيث يغدو النظام العالمي الذي تمثله خاليا من عقد الذنب تجاه الشر الذي يحدثه كل يوم في العالم. اما مقاتلو القاعدة والارهابيون وحتى الاسلام فليسوا في الواقع سوى الخنجر الذي طعن به هذا النظام نفسه في القلب. الموت مقابل الموت، الشر مقابل الشر، والارهاب مقابل الارهاب…جدلية قاتلة، حلقة مفرغة لا نهاية لها بل ليس لها علاقة بالمطلق ( بعناوين ) الصراع اليوم الذي هو في الحقيقة هوس هذا النظام العالمي لكي يستمر فوق قمة هرمه وانهياره في نفس الوقت حال وصوله الى هذه القمة. وهكذا، من اخترع الارهاب هو تماما من يحاربه اليوم.
وما يزيد من حدة القوة المفرطة للنظام العالمي تجاه الاجسام التي تعارضه هي الصورة المبهمة غير الواقعية لهذه الاجسام او بمعنى ادق التصور المشوه لهذا النظام عن كل جسم مضاد يحاربه. والحق، أن الصورة المشوشة الضبابية عن الآخر هي بالضبط ما يسهل مهمة النظام العالمي في ضرب الطرف المعادي ولهذا نجد من المؤلم بالنسبة لاميركا مثلا أن تصدق ان هناك مجموعات مسلحة في سوريا تعمل على تقويض النظام بمساعدتها هي بالذات وتكتفي باستعمال تعابير مبهمة تشبه فهمها للامر فتستعمل عناوين كبرى كأن تقول ” قوى الشر متمثلة بالنظام السوري هي من يقتل المدنيين” التي لا تجد اي منهم يحمل سلاحا موجها الى الدولة ومنشآتها. هي تعرف ولكنها ترفض التصديق وهذا الرفض لقبول الواقع يشي بمجموعة القيم الاخلاقية للنظام العالمي التي تتناغم وتنسجم بشكل ما مع قوته المفرطة وحدة مركزانيته.
هذه هي اميركا الغبية في عزلتها، المنفصلة بقوة عن واقع الباقي من العالم والتي لا تستطيع تقبل اي نوع من انواع المنافسة مهما كانت ؛ موقف غبي يصل الى حدود الاختلال العقلي لان هذا النهج هو تماما ما يرصف طريقها باتجاه النهاية و الزوال، مع ان غباءها لا يلغي مسؤوليتها عما تسببه من دمار منظم في العالم.
اميركا، قلب النظام العالمي، لا يمكن ان تحتمل ولو لثانية واحدة مبدأ الديمقراطية لا مطبقا ضمن حدودها ولا مطبقا ضمن حدود الدول الاخرى لانه يعجل في موتها القادم. وحين لا تقبل الديمقراطية فانها لا تقبل كل ملحقاتها من الحرية وقبول الاخر وهذه التوليفة الجميلة من القيم التي تحاول تصديرها بطرقها الملتوية الى دول الشرق الاوسط من اجل تقويضها. فالغريق في محاولته التشبث بالاخر قد يغرقه معه بدلا من ان ينقذ نفسه.
المشهد – الفرجة
يشعر المتأمل للعروض الفنية الاميركية او للأبنية الضخمة المخصصة للتسالي او الادارة او العدل والمسارح…الخ ان هذا العقل الغربي انما يسعى لخلق نوع من ” فرجة مثيرة شديدة الاتساع ” تبهر المشاهد وتدفعه الى القاء ” سلاح” النقد والاكتفاء بالتفرج بذهول. فالاستعراض المبهر هو جزء من العقلية الغربية الاميركية التي تسعى الى ان تسيطر على المتفرج من خلال المؤثرات الاكثر تعقيدا وزخرفة. انها تفعل ذلك لكي تسعى الى المركز الاول اقتصاديا وليس مشهديا او فنيا فحسب. انها تريد ان تكون الاولى والافضل والاكثر تأثيرا لأنها تريد ان تكون الاكثر ربحا. والربح – السلطة المطلقة المُسيطرة هي باب ومحراب الحراك الغربي كله.
وهكذا، حين نتطلع على المشهد الكلي لما يحدث من عل ِ، وهو مشهد تحافظ فيه هذه القوى المركزانية على ذاتها في صراع مستميت من اجل البقاء، نجد ان استعراضها الاوركسترالي – سواء كان عسكريا ام استخباراتيا – انما هو مفرط الاتساع والحركة. انه استعراض “البقاء الاخير” حيث الاوراق كلها مطروحة على الطاولة و تحتها. اما الدول التي تُحرك فيها تلك القوى ادواتها التخريبية (والمشهد اليوم يحتل بعض دول الشرق الاوسط او الوطن العربي تحديدا) انما تشعر بانها امام خصم “ليس له شكل محدد” سوى دليل الدم والقتل والتظاهر اليومي المسلح. انها ترى اصابع خفية كثيرة مجازية ـ افتراضية تخرج من رحم التقارير الكثيرة اليومية والرسائل السرية والاجتماعات التي يُكشف عنها لاحقا، اصابع لا دليل عليها عمليا الا نتائجها المتبدية في الدم المهدور يوميا على مذبح العقائد المستأجرة المتصارعة. اما شعوب تلك الدول فهي، ونتيجة لتعسف حكوماتها الطويل، تؤخذ بقوة بأدبيات حقوق الانسان التي عرفت جيدا كيف تروج لها مؤسسات الانجزة وتصريحات الناطقين باسم الادارات و الحكومات والدول الغربية ومشتقاتها من مؤسسات تدعي رعاية الحقوق و البنى الديمقراطية للشعوب وحماية السلم الدولي من الارهاب الذي عنون عربيا، بينما الهدف الكبير الذي اصبح معلنا هو النفط ( الخامات ) ومصادر الطاقة والثروة في العالم كله و ليس فقط الدول العربية.
مشكلة سوريا في موقعها الجيوسياسي وبكونه نقطة ترانزيت مهمة للاردن باتجاه اوروبا ولتركيا باتجاه الخليج وضرورة لها لكي تصبح نقطة لتجميع انابيب الغاز من بحر قزوين وتصديره الى اوروبا ( وهذا يعني مليارات من الارباح ) اما لبنان فيكفي ان نعرف ان اكثر من 80 % من حدوده هي مع سوريا علاوة على الاتفاقيات الامنية والسياسية وتاريخ طويل مشترك ومتشابك. اما روسيا الداعمة ظاهريا لسوريا انما فهي واحدة من القوى الكبرى التي يتصارع معها النظام العالمي من اجل بقائه متمثلا بالولايات المتحدة الاميركية. فروسيا تعتبر سوريا – بالنسبة لمصالحها – المعقل الاخير لها في حوض المتوسط (قاعدة طرطوس) علاوة على احساسها بالتهديد المتأتي من نشر رادارات الدرع الصاروخي في تركيا وبولندا وخروجها خالية الوفاض من اغلب الحراك الشعبي الانقلابي في كل من ليبيا ومصر وتونس واليمن. ولهذا فمن المستبعد جدا ان تتنازل روسيا في هذا الصراع المستميت عن مصالحها الاقتصادية وحقل المغتاطيس الجيوسياسي الخاص بها.
اذا، ليس بيت القصيد لا سوريا ولا الشعب السوري ولا الاصلاحات فكل هذه تفاصيل فرعية في الصراع الاكبر للنظام العالمي باتجاه ذروته وانتحاره، ومقتله سيكون تماما في اللحظة التي يقضي فيها على القضية الفلسطينية كما هو مخطط من بين كل هذه الفوضى التي يحدثها وهو باتجاه حتفه.[1]
مع ذلك، لا نلقي باللائمة فقط هنا على هذا الميكانيزم التدميري الذي تتحرك وفقه بعض القوى الكبرى وانما ايضا على الانظمة العربية التي ما قامت الا باسم الحرية والديمقراطية لتنتهي في حالة من استعباد يفوق الوصف لشعوبها وطغيان مملح بالتسامح والبحبوحة بينما كان الاستئثار بالسلطة يطيح بكل حق آخر.
اذا عثرت تلك القوى المتصارعة على قوة دافعة لحركتها في عمق البؤس العربي الشعبي الذي بقي أسير حلقة الموت الضيقة التي رسمت دوائرها اسئلة على شاكلها: هل التسنن افضل أم التشيع؟؟ هل العورة في وجه المرأة ام في عقلها؟؟ واسئلة أخرى كثيرة على شاكلتها ما هي الا ذرات الغبار المتطاير في صراع القوى الكبرى الطاحن.
بعد اربعة عشر قرنا
بعد اربعة عشر قرنا على هذه الاسئلة تم فيه الاستنماء فوق سرير الدين ملايين المرات، ومصادرة العقل ظل العرب بعيدين بعد السماء عن الارض عن فهم الاشياء او قبولها كما سنتها الطبيعة او كما هي في الواقع، و بدلا من ذلك، تبنوا تفاسير لا يمكن ان تقدم حلولا اغلبها كان حصيلة النشوة الشاذة التي اوحى بها سرير الدين الوثير ـ فانهار فهمهم للاخلاق وتشوه وكذلك للمعاني الانسانية الكبرى.
واليوم عليهم ان يفهموا ان ما يحصل في بلدانهم ما هو الا قوة النظام العالمي التي تتقوض وتسعى لتدمير ذاتها – بعد ان وصلت الى ذروتها – بينما هي تحافظ على بقائها. فهذه المخيلة الارهابية التي تسعى الى الاحتلال والتهديد والقصف انما تسكن الجميع حتى الشعوب الأكثر عجزا وضعفا وحاجة وظلما.
اذا، يرتد الارهاب دائما على ذاته مثل كرة تُقذف باتجاه حائط فترتد. إن المقدرة الفانتازية العالية للانتقام لدى الفرد المظلوم انما هي بنفس الدرجة التي تعتمدها قوى النظام العالمي وذلك لانها تملك الدافع – تماما مثلها – من اجل البقاء. وفي كلا الحالتين فنحن نصطدم بشذوذية القتال في سبيل البقاء لانه يبتعد عن سياقه الاخلاقي كلية وهكذا فان الذي يحارب الارهاب انما يريده ويسعى اليه في نفس الوقت وبالتالي فإن لهذه الدورة سمتها الرمزية تماما والا فان اي حدث ارهابي او عمل مقاومة مضاد يبقى مجرد حادث اعتباطي خارج السياق و من دون اي معنى.
وهكذا، كلما تفاقمت القوة كلما بدت الرغبة أكبر في تدميرها مع إن هذه القوة المُسيطرة اللامتناهية انما هي من تدمر ذاتها في نهاية المطاف. فحين تعلن مثلا قوة مثل الولايات المتحدة الاميركية الحرب (مهما كان شكلها وطبيعتها) على سوريا مثلا فانه في نفس الوقت تعلنها على ذاتها وبنفس القدرة والمهارة والتصويب. ولهذا فان “الحرب على الاخرين” هي في الوقت عينه “حرب على الذي يقوم بشنها”. و الغرب الذي اخذ تماما مكان الله في التشريع والقدرة هو في احد وجوهه ” الارهابيين ” الذين يحاربهم.
اذا، النظام الغربي ( السيستام ) انما هو جزء من اللعبة ؛ لعبة قوته المتنامية ولعبة زوالها في آن لانها – كتشبية مجازي – بقدر ما تحمل من عناوين اخلاقية خلال حربها من اجل بقائها ( مثل حقوق الانسان والحرية والديمقراطية ومحاربة الارهاب )، متحركة ككاسحات الجليد امام العوائق التي تعترضها، بقدر ما هي قاتلة لها في الوقت نفسه تماما مثل الفيروسات المخربة لملايين الكومبيوترات التي تحمل اسماء في غاية الاثارة مثل: I love you, love me …etc
تأويل الارهاب
في حمأة هذه اللعبة فإن الحديث عن اية عقيدة او خطاب يمكن ان يكون ضربا من التضليل و ذلك لان القاعدة التي بنيت عليها اصول اللعبة لا يمكن ان “تحمل فكرا وراءها” مهما كان، لا اسلاميا ولا ليبراليا ولا حتى تحمل في تضاعيفها رائحة حقوق لانسان وانما هي اصول تنزع الى تكثيف مركزانية هذه القوى اكثر فأكثر واستقطابيتها ووحدانيتها عبر القوة البحتة.
ولأكون اكثر وضوحا أقول ان كل نظام استقطابي مركزاني يعيش على السيطرة والقوة انما يتراءى الارهاب كظل له يلحقه اينما حل وارتحل. و لهذا فان التحالف بين الولايات المتحدة الاميركية مُجسدة الغرب الراسمالي التوسعي وبين جماعة الاخوان المسلمين انما هو بالعمق محاولة لاستعطاف الظل (الارهاب) من اجل اطفائه فلا تتربص بالنظام الاستقطابي القوي لاميركا ؛ أي الالتفاف على السم المقيم في الدسم و هذا امر لا يمكن ان يحصل بل من المستحيل حدوثه.
بمعنى ادق، كل حركة اصولية يحاربها السيستم الغربي انما هي الخشبة التي يصلب عليها السيستم ذاته و هكذا فان استدراج القوى المتطرفة استرضاءا ليكون من ضمن اصول اللعبة – لعبة القوى الغربية للمحافظة على ذاتها انما يعتبر امرا عبثيا من دون طائل ! وذلك لان ( ضربة المعلم ) لا تكمن في الاحتفاظ بهذه الحركات الاصولية في الجيبة من اجل ضربها ببعضها لاحقا وانما في فهم عملية صعود هذه المقدرة اللامتناهية الاستقطاب والحد منها والا فان الانتحار مصيرها. وهذا درس برسم الولايات المتحدة الاميركية اليوم.
وهكذا فان الارهاب يتعدى بكثير الصراع بين اميركا والاسلام او بين اميركا والاجسام المضادة لعملية صعودها المطلق والاستقطابي، وإن حاول الجميع تقريبا حصره – اي الارهاب – في هذا الصراع، الا انه يتجاوزه بكثير ليتركز بالضبط في معركة النظام العالمي او العولمي مع ذاته اي مع ادواته.
والحرب القادمة ليست نمطية مثل الحروب الكلاسيكية الماضية وانما هي هذا النظام العالمي الذي يسعى حثيثيا لتقويض نفسه من خلال تدمير الاجسام المضادة حوله. وما هذا الغليان الشعبي وتلك الفتن والاقتتال هنا و هناك في مناطق نفوذ القوى كما يسمونها الا تحرك هذا النظام العالمي الاستفرادي باتجاه حتفه. اما انتصار النظام العالمي على الاجسام المضادة له او انتصارها عليه، في معركة، لا يعني البته زوال اي منهما، ولهذا حين تظن الولايات المتحدة الاميركية انه لا يجب ان يكون هناك قتلى في سوريا التي تحارب الارهاب في داخلها، فانها تعلن انها لا تفقه شيئا حقا لانه حينما تحارب هي الارهاب بعيدا عنها آلاف الكيلومترات ( في العراق مثلا كما ادعت ويكون هناك قتلى ) فانها تنكر ان الموت هو جزء لا يتجزأ من لعبة الصعود والافول، الموت المكرس بقوة في رمزيته ؛ اي أولئك الذين ( يقاتلون مقابل موتهم ) او الذين يقايضون بحياتهم في هذه اللعبة حيث يختفي اي خطاب وينتفي تماما ولا يعود له قيمة.
إن الارهاب معنى غير موجود في مكان محدد او ذا بعد مادي يقيم في مكان محدد. إنه حاضر في كل احتجاج سياسي على النظام المركزاني العالمي كما انه موجود في عملية صعود هذا النظام بالذات ماسحا في طريقه الى الاعلى كل ما يصادفه في طريقه. وهكذا فان هذا النظام الذي يسعى الى تقويض كل ما حوله لكي يبقى على قيد الحياة انما هو ليس وحيدا فهناك في المرآة ظله القوي الراسخ و المهيمن: ارهاب الذي يحاربونه بموتهم.
وهكذا لا يهم من قتل من في معركة البقاء، ومن الجهة التي ارتكبت القتل و تجاه اي جهة فهذه كلها تفاصيل مضللة امام رمزية الحدث القوي الذي يجري اليوم حيث المقايضة الكبرى بالموت المتبادل.
وفي مثال الاصغر عن الصراع اي صراع القيادة السورية مع المعارضة المسلحة في سوريا مثلا والتي تمارس العنف اليومي، ومن نفس زاوية الرؤية، نجد ان هناك تواطئا في نهاية المطاف بينها وبين هذه القيادة ولا أقصد تواطئا ماديا تحالفيا حدث بالفعل من تحت الطاولة و انما تحالف رمزي وقع بمجرد وجود احد الطرفين في منطقة الصراع وذلك لان الاول يخلق الثاني حكما والعكس صحيح.
اما بالنسبة لعدم التكافؤ بين القوى المتصارعة فاقول ان هذا امر حقيقي ولهذا فان عدم التكافؤ هذا يُدعم بالعمليات الاستخباراتية و الاعلامية المكملة و الحيل والتآمر من اجل حسم المعركة بين النظام العالمي التوسعي الاستقطابي القوة من جهة وبين الارهاب الموجه اليه من جهة اخرى، اوعلى مستوى اصغر او فرعي، بين القيادة في سوريا و العصابات المسلحة. وفي مثال سوريا فان النظام العالمي لا يحارب ارهابا يتهدده وانما مواقف تعيق صعوده الامر الذي استجلب هذه المقاومة العنيفة من قبل السوريين من اجل تماسك المركب الداخلي و اكمال الابحار بالسيادة الوطنية بشكل مستقل. لكن الابحار ايضا بحاجة الى رشة من الارهاب لكي يصبح ممكنا وهكذا فان العنف و العنف المضاد المبني على تبريرات عقائدية يعيد بعثرة الارهاب ليصبح في كل مكان وفي اللامكان في نفس الوقت.
واذا ما كان علينا ان نخترع “وحدة لقياس” الارهاب فانها حتما و بكل بساطة: الموت. لكن تأويله لا يقف عند مجرد حادثة الموت و ذلك لان النظام العالمي المتفرد بقوته يكرس هذا الموت في كل مرة يدينه فيه طالما هو باق فوق ذروة هيمنته. وهكذا فان هذا النظام الذي يدعي محاربة الارهاب، وكلما استفحلت ادواته التوسعية و ترسخ خطابه الاستعماري والاستئثاري قسريا فانه يهيء كل لحظة لحادثة الموت لكي تأخذ بعدها الاكثر رمزية وحضورا. و هكذا تنتشر ثقافات في العالم نتيجة لذلك: التعاطف مع القوى التي تضرب الارهاب و الابطال و رموز المقاومة لدى كلا الطرفين ؛ أي النظام العالمي و الاجسام المضادة التي تحارب هيمنته. وعبارة “سوريا الله حاميها” لها مقابلها على الدولار الاميركي: ” in god we trust “ حيث يدفع كلا الطرفين الى الاحساس والاعتقاد اكثر فأكثر بان هذا الصراع اصلا هو مجاز خفي مستتر لأمر تحركه قوة غير بشرية ونية الهية. وفي لحظة ما حين يتطلع الخصمان معا في المرآة فانهما يريان صورتهما متطابقة بشكل مخيف. ليس هذا معناه ان كل القيم و الدوافع متساوية وانما في لحظات الذروة من دون شك تلتقي الاضداد بشكل درامي مؤلم وتتطابق الصور لتبدأ من جديد لعبة اخرى وصراع آخر من اجل الصعود ثم الافول.
خاتمة
لقد كسب الارهاب الحرب عن جدارة اذ حول النظام العالمي الى نظام امني مسكون بهاجس الهجمات من قوى الشر المبهمة واربابها في العالم، يوما اثر يوم..هذا النظام الامني هو ما تدعي اميركا محاربته اليوم تماما في سوريا. انها تخاف على ” المدنيين السوريين ” منه، تصرخ ليل نهار بان قتل هذا الشعب على يد نظامه امر ” غير مقبول “. تُرى ما هو المقبول في هذا الصراع كله؟؟ ما هو المقبول وما هو المنطقي في هذا الجنون الفالت من عقاله بعد ان تم اختراق اغلب دول العالم عسكريا وسياسيا من قبل حكومات النظام العالمي؟؟؟ وهكذا فان على هذه الدول إما الالتحاق بهذا النظام وإما الى زوال. وكلما كانت الدول الواقعة في مناطق النفوذ ذات موقع استراتيجي او جيوسياسي متميز وهام كلما نزع النظام العالمي الى تجريدها من موقفها السيادي بسبب خطر موقع هذه الدول الطبيعي هذا على بقاء هذا النظام بالذات. وسوريا مثال على ذلك.
لكن المشكلة في سوريا وبعد عشرة اشهر على الازمة هي هذه المفاجأة – الصدمة التي خلفتها لدى دول النظام العالمي. فما حصل فيها لم يتطابق مع حسابات زعماء النظام الامني العالمي. لقد اربك عدم انكسارها الى هذه اللحظة المنظومة الاخلاقية الغربية الافتراضية التي رات في مجرد اختلافها ارهابا.
وبقدر ما كان تماسك سوريا امرا من الناحية العملية والتقنية مفرحا وانتصارا لبقاءها وبقاء موقفها بقدر ما كان سببا من جهة اخرى في استمرار (وجود) هذا النظام العالمي الذي لم ينهي (مهمته كما كان مقررا). فأن تستمر سوريا في العيش ضمن مجموعة قيمها الخاصة وبطريقتها الخاصة بنجاح وهدوء أمر لا يمكن ان يقبله هذا النظام العالمي (الحر والديمقراطي) وذلك لان الصيغة الوحيدة المقبوله بالنسبة له للعيش هي صيغته هو ؛ اي العته الذي يوحي لصاحبه بأنه اذكى من كل البشر.
ما يهزم الغرب ليس ضربات الارهابيين وانما الجنون الذي يوحي اليه انه ” كامل الاوصاف” وهذا تماما الطريق الحثيث لنهايته.
لقد حان الوقت للانقلاب على “سيدي وحبيبي” ؛ النظام العالمي.
[1] من الجدير بالذكر ان من اهم عناصر الصراع في النظام العالمي هو قضية فلسطين باعتبارها تشكل الاعاقة الكبرى امام صعود هذا النظام باتجاه ذروته؛ اي تكريس الكيان الصهيوني الى ابعد مدى استطياني يمكن ان يصل اليه و طمس الحقوق الشرعية للفسطينيين في ارضهم مرة واحدة والى الابد. وما يحصل اليوم من تدريب منظم للحقوقيين والناشطين العرب لكي يقلبوا انظمتهم ويعيثوا الفوضى في مجتمعاتهم من اجل ضربها وتقسيمها واضعافها ليس سوى محاولة اخرى من اجل اعادة التوزيع الديمغرافي والجغرافي والاصطفاف السياسي للمنطقة من اجل دق المسمار الاخير في نعش القضية الاكبر في التاريخ. وانتباه بسيط الى نشرات الاخبار على الفضائيات العربية نجد ان الكل ملته في المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات بينما لم نعد نجد متسعا لاخبار فلسطين الا في ذيل النشرة. ليس الامر مزحة ابدأ. فهذا “الربيع الدامي” هو شتاء اسود بالنسبة للقضية الاكثر رمزية في التاريخ والمحك الاول والاخير لوجدان الانسان العربي.