عبداللطيف مهنا
على ضوء ما يجري و ماجرى في الإيام القليلة الماضية في مصر، لابد من وقفة تفكُّر… ماجرى في ميدان التحرير، وقبله في شارع محمد محمود، ثم ماكان من إرتكابات بحق المتظاهرين سُطّرت دماً مسفوحاً في شارع الشيخ ريحان وعلى أرصفة مقر مجلس الوزراء ولاحقاً سحلاً للنساء في ميدان التحرير، وتعريجاً على يوميات مستشفى القصر العيني الدامية وما يدور من حوله، وما سيكون من حال الأيام القادمة ومصر لا يفصلها اكثر من شهر عن قدوم الذكرى الأولى لثورة 25 يناير، التي، وبإجماع أغلب المصريين، لم يتحقق من أهدافها أكثر من إسقاط رأس النظام مع بقاء بقايا جدثه وذيوله وفلوله… بيانات المجلس العسكري الإخيرة التصعيدية اللهجة، الأنتخابات وإنقسامات القوى السياسية وانشغالها بأنقساماتها وحساباتها على ضوئها، خساراتها ومغانمها، التناقص المتوالي في عديد الألاف الآمة لميدان التحرىر، وارتفاع الأصوات المطالبة مداورةً بالإكتفاء بنصف ثورة، وصولاً الى الإنقسام الشعبي، ليس على الثورة، وإنما بين من هم مع التصعيد الثوري حتى تحقيق كامل اهداف الثورة ووفاءً لشهدائها ومن ينشدون إستقراراً يخفف بعضاً من معاناتهم أو خوفاً منهم من مجهول ينتظر البلد… كل شؤون وشجون الصراع الدائر والمحتدم الآن بين المِصرين، مصر ميدان التحرير، شباب الثورة، ومصر الأمس، أو ظل الغائب الحاضر، الراحل المقيم، أو من أسقطت رأسه الثورة… على ضوء كل هذا، وما قد يجيزه لنا حرصنا على مصر العرب من قلقٍ مشروعٍ، نجد أنفسنا مع المصريين نطرح على أنفسنا مثل هذا السؤال : ترى هل تخلت مصر، أو هل من الممكن تصوّر أنها قد تتخلى عن ثوارها ؟!
عندما نقول ثوارها، نعني بهم تحديداً هؤلاء المعروفين الآن في مصر بشباب الثورة، أو شباب ميادين التحرير المصرّون على المرابطة في ساحاتها حتى تحقيق كامل اهداف الثورة… الثورة التي هم مفجروها ومن رووا شعلتها المجيدة بدمائهم الزكية، ومن وبدوا الآن، في خضّم بازارات التجاذب بين القوى السياسية والحزبية المتصدرة راهناً للمشهد السياسي المصري والمجلس العسكري الحاكم، وكأنهم المعزولون بعد أن إنفضّ أكثر راكبي تضحياتهم من السياسيين الذين كانوا يركضون من خلفهم من حولهم، أو باتوا وكأنما هم قد أصبحوا خارج حسابات كل من الشرعيتين المتساومتين، شرعية الوصاية العسكرية والشرعية الإنتخاببة الحزبية المتحفزة، وبعضها المتهالكة، لاستلام زمام السلطة أو نيل نصيبها منها، أو هذا المنتظر الموعود من الأولى والعاضه عليه حتى الآن بالنواجذ…
… ونحن إذ نضطر مكرهين لطرح مثل هذا السؤال، ولسنا وحدنا من يطرحه الآن، فالمُطمّئِن اننا لا نجد ثمة ما يمنعنا من أن نسارع للأجابة عليه، فنقول جازمين، إن الصيرورة التغييريه العربية الراهنة، التي تعيش مصر الأن أهم تجلياتها بل وأخطرها، ثم طبيعة مسارات التحولات ذات السمة المصيرية الحاملة للأبعاد الإستراتيجية والغالية الأثمان والأكثر تعقيداً دائماً، لاسيما منها هذه التي يرفدها عميق التوق الشعبي إلى الحرية والكرامة والعدالة ونشدان الإنعتاق من كل من كان هو النقيض لهذه التطلعات ولا يزال، واستناداً إلى منطق الثورة الشعبية، واستجابة لما نمت باسقةً في ميادينها من آمال وأحلام منذ إندلاعها في الخامس والعشرين من يناير، والتي سقتها الدماء ورعت نبتها المعاناة المديدة وتعهدها صغب الجوعى وغضب المهمشين… نسارع فنقول، لا، لم ولن تتخلى مصر الشعب عن ثوارها الشباب، لأنه ليس في إمكانها الركون إلى نصف ثورة… وليس من الممكن تصور إمكانية تخليها عن ما بعثته فيها ثورتها الضرورة من روح بعد موات، وما منحتها من ثقة بعد مدلهم إحباط، مهما تطلب منها ذلك من دفع لباهظ الأثمان أوتوجَّب عليها ازاءه من غال التضحيات.
إنه ليس من الصعب على متابع في هذه الأيام، ألتي تلت بدء الإنتخابات وتعقيداتها وانشغال القوى والأحزاب بوقائعها وتوقعاتها وحساباتها لما قد يتبعها أو ما بعدها، ملاحظة تصاعد حملة التشهير الجارية والمتوازية مع شن حملات القمع العنيف إستهدافاً لشباب الثورة في ميادينها واستفراداً بهم، بدءاً بإتهامهم بانعدام الخبرة السياسية، والتسبب زوراً، من خلال التظاهرات والإعتصامات، باستفحال الأزمة الإقتصادية، التي يجري تضخيمها والمبالغة فيه، والتي لاناقة ولا جمل لهم بها، وحتى محاولات تلفيق تهمة البلطجة بأنبل ما أنجبتهم مصر عبر دس العناصر المشبوهة بين صفوفهم، وسائر مثل هذه المزاعم والافتراءات والأحابيل، التي على الرغم أنه من السهل على المُستهدَفين بها تفنيدها وفضحها، ونضرب هنا مثلاً هو حكاية شهادات الأطفال المصوّرة والذي ثبت أنهم كانوا معتقلين لدى السلطات قبل حدوث ماطلب منهم أن يشهدوا بشأنه. إلا أنه، ومن أسف، قد تلق هذه الحملات وتجد استهدافاتها قبولاً ما لدى شرائح شعبية واسعة، هى من تلك التي إما ينقصها الوعي، او تقع لبساطتها بسهولة تحت طائلة التضليل المبرمج، أو من تلك التي أصلاً لاترى لها مصلحة في الثورة… ومع كل هذا نقول : إن عجلة التغيير في أم الدنيا قد دارت، ومصر العرب التي هشّم شبابها ومعهم كامل من لهم مصلحة في التغييرمن جماهيرها العريضة قمقم الإستكانة وحطموا آسار النظام البائد، لن تتخلى عن مفجري ثورتها الضروره وستحميهم…. نقول هذا على الرغم مما نشهده من إستشراسٍ متصاعدٍ للإمتدادات المباركية المتحكمة حتى اللحظة في دفة المسار الرسمي الإنتقالي المتباطىء والمتخبط وغير المتضح، بالتوازي مع سفور وفجور مظاهر هجمة تحالف جبهة اطراف الثورة المضاده، وجاري رفدها البائن والخفي وغير المحدود من قبل خارجٍ مخادع متآمرٍ يظل الداعمٍ، إن لم يكن الراعي والمُوَّجِه، لكل من يتطوَّع لخدمه وتحقيق سياساته المعادية في الداخل، بقصد أو من دونه، بوضع عصاً في دولاب التغيير محاولةً منه لإعاقة دوران هذا التحول الثوري الدائر في أرض الكنانة، أو تأخير إنطلاق السفينة المصرية أو محاولة إعاقة وصولها المرجو والآمن إلى ضفة غدها المنشود ما استطاع هذا الخارج الى ذلك سبيلا… هذا الغد، الذي، وكما كانت مصر الفرعونية بالأمس تقدم صباياها قرابين لفيضانات نيلها المتدفق العظيم، تقدم مصر الأمة اليوم بسخاء دماء شبابها وشاباتها الزكية الطهورة شهداءً أبراراً إنتظاراً منها لقدومه المحتوم.