عادل سمارة
كتب موشي شاريت (شرتوك) أول رئيس لدولة الكيان في مذكراته الشخصية ما يلي:
“… في تفكير بن غوريون والضباط بأن ليس لدى اسرائيل موانع لا دولية ولا اقتصادية، لا وجود لمسألة السلام. ما حدث في المنطقة والعالم ليس ذي علاقة بنا. فحسب رؤيتهم، إن على الدولة ان ترى الحرب على انها مبدأ وربما تعني فقط زيادة الرفاه والحفاظ على التوتر المعنوي… إن عمليات الانتقام هي إكسير الحياة… فهي التي تسمح لنا بالإبقاء على التوتر العسكري والمدني. فبدونها، لن تكون لدينا امة محاربة، ولولا أننا نظام محارب لكنا ضعنا…ومن اجل هذا الغرض، بوسعنا اختراع المخاطر ، وفي الحقيقة فإننا مجبرين على ذلك. هيىء لنا حربا مع البلدان العربية كي تنتهي جميع مشاكلنا… فبن غوريون نفسه قال ذات مرة ان علينا اخذ عربي وإعطائه مليون ليرة ليقوم في النهاية بشن حرب.(شاريت، 1978، مجلد 3 ص ص 1021-2).[1]
هكذا كان يفكر المؤسس الحقيقي لدولة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. وهو الذي شغل منصب رئيس وزرائها لفترة طويلة. كيان يعيش على حد السيف، وإذا لم يُشهر عليه السيف فهو جاهز للدفع لمن يشهره لأن في ذلك إكسير حياة هذا الكيان.
لا شك أن المناخ السياسي في تلك الفترة كان يساعد الكيان على تعميق هذه القناعة، والتي لم يكن من المبالغة بمكان وصفها بأنها فترة حروب الكلفة الشكلية. بل هي الفترة التي على اساسها قيل في الشارع الصهيوني عن حرب 1967: “دخلت الدولة الحرب وخرجت منها دون أن ندري“.
كان ذلك في فترة اتسمت بسمات لم تعد قائمة اليوم، على الأقل كما كانت سابقاً. في تلك الفترة، كان شعار “خلق اليهودي الجديد” في أوجه من حماسة استعمارية استيطانية وشعور بالتفوق المدعوم بكل قوى الاستعمار الراسمالي الغربي، واختراق السوفييت بصهاينة “يساريين”.
في تلك الفترة كان شعار “دولة للجميع“[2] ما زالت له هيمنته على فقراء الكيان بمعنى اعتقادهم بأنها دولة مختلف الطبقات والإثنيات (طبعا بمعزل عن العرب الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم). والشعور بأنها دولة الجميع كان حافز توتر معنوي عدواني بجهوزية عالية.
في تلك الفترة كانت المقاومة الفلسطينية والعربية محدودة الفاعلية ومحاصرة تماماً من الأنظمة العربية المحيطة بالكيان والتي ساهمت في بناء هذا الكيان، باستثناء فترة وحدة مصر وسوريا حينما بدأت الأنشطة الفدائية بقيادة عبد الحميد السراج من سوريا والشهيد مصطفى حافظ من مصر عبر قطاع غزة. وهي الأعمال التي اسماها بن غوريون الانتقامية قبل أن يخترعوا لها تسمية المخربين، والتي ربما كانت اساساً نحتاً أميركيا ضد الثوار الفيتناميين.
المقاومة قلبت الموازين:
لو كان بن غوريون ما زال حيا لربما تواضع في تفكيره وقراراته. فالمعروف ان الكيان كان دائماً يشن هجمات وعدوانات على دول الطوق العربية. ومن يبحث في أرشيف الأمم المتحدة قد يجد ملف الشكاوى العربية من الاعتداءات الصهيونية هو الأثخن في تلك المؤسسة.
لم يعد هذا الفلتان المتفاخر موجوداً. هذا وإن كان لهذا الفلتان جذرا آخر يغذيه هو اعتقاد اليهود بأنهم لا يمكنهم التعايش مع بعضهم دون صراع داخلي أي كالسماد كما يقولون “إن لم يختلط بشيىء حرق نفسه ذاتياً” وهذا ما استدعى تصدير الحرب إلى الدول المحيطة حتى لو لم تقم هي بذلك.
بعد عدوان 1967 وبروز المقاومة الفلسطينية بكل تنوعاتها، بقي العدوان الصهيوني ولكن ليس فقط بمبادرة جيش الكيان وإنما ردا على المقاومة. أي لم يعد الكيان بحاجة لدفع فلوس لعربي كي يشن الحرب.
كما جرت مياه جديدة في النهر، فظهرت التفارقات الطبقية الواسعة في بنية الكيان. صحيح انها لم تتصاعد إلى صراع طبقي (هذا إن كان للصراع الطبقي مكاناً في تشكيلة استيطانية عنصرية)، ولكن اندغام هذا الكيان الذي حاول خلال حكم حزب العمل أن يبدو بأنه نظام لكل الناس، وجد نفسه مع الانخراط في بنية النظام الراسمالي وخاصة في حقبة العولمة، وجد نفسه وقد احتوى على جيل من الشباب الباحث عن حياة الرفاهية تقليدا للشباب الأوروبي. جيل ليس معنياً بالجندية ودخول الحروب.
كما ادرك الكيان منذ حرب اكتوبر 1973 ولاحقا حرب لبنان 1982 أن بوسع العرب المبادرة بحرب وأن الحرب مكلفة. أما حرب 2006 وعدوان 2009 فقد اكدتا للكيان أن “حرب النزهة” قد انتهت، وأن إلحاق خسائر مادية وبشرية بالعرب لا تعني توقفهم عن المقاومة بل يعني خسائر للكيان ومبيت الملايين في الملاجىء.
ولكن، ربما لهذا السبب بالذات يفكر قادة الكيان اليوم بالعدوان على غزة وعلى لبنان وعلى إيران وهم لا شك الآن يمارسون العدوان على سوريا. لم يعد بن غوريون بحاجة لرشوة عميل عربي كي يصطنع حرباً على الكيان، كي يقوم بإجهاض اي تطور مقاوم عربي، هناك عرب يقومون بذلك. كما لم يعد بحاجة أن يثبت للولايات المتحدة أن الكيان ضروري، فهناك عرب يقومون بما عليه القيام به من تدمير للأمة العربية. وهنا قد يبرز مثقف ذكي ويقول: ارأيتم: ها هو دور أنظمة ومثقفين وأحزاب عربية في تدمير الوطن العربي يؤكد إمكانية استغناء الغرب عن الكيان، فاتبعوا أميركا إذن ولا تترددوا! قد يفكر البعض هكذا، فهذا زمن الفتاوى المفارقة.
لم تخرج غزة من الدمار، وغزة لا تطالب التريليونات النفطية بأن تمنح الناس بيوتاً وقصوراً، كل ما تطلبه أن يقوم أحباء صهيون من حكام الخليج ببناء البيوت المدمرة، وهذا ليس في نطاق الصدقات. هي تطلب أن يتمنى وكلاء النفط على سادتهم الصهاينة بأن يسمحوا لغزة بشراء حاجياتها من فوق سطح الأرض لا من تجارة الأنفاق كبديل ضروري. هل يجرؤ هؤلاء الحكام؟ بالطبع لا. بل حتى لا يحبون.
لم يبق أحد لم يشاهد صور حاكم قطر ووزير خارجيته مع بيرس وليفني وربما مع قاتلي الشهيد محمود المبحوح كما يُقال اليوم، وإذا كانت هذه الصور المعلنة فمن يدري عن العلاقات السرية مع كل الحكام هناك وفي غير هناك. ولكن لماذا لا ننقد سوى قطر، ألم تحدد قطر خريطة لفلسطين هي اصغر من خرم الإبرة؟ ولم يعترض لا رئيس دولة رام الله ولا رئيس دولة غزة، وكلاهما يزور قطر للعرفان بالجميل! نعم لك الله يا غزة.
هل يحق لأهل غزة أن يسألوا: طالما أنكم عرب ومسلمون فلماذا تستقبلون هؤلاء المجرمين؟ ولماذا على الأقل لا تجرؤون على إعمار ما دمروا؟
هل يجرؤ الشيخ القرضاوي على الإفتاء بتكفير من يستقبل الصهاينة؟ إذا كان لا يجرؤ فهل أهل سوريا في ضيق أكثر من أهل غزة، وهل كانت ليبيا على الجندة قبل فلسطين؟
هل يفكر الذين يندفعون لترويج فتاوى القرضاوي دون أن يتنبهوا لهذه الأمور المؤلمة في عمق أهميتها؟
لماذا ينشغل الشيخ القرضاوي ومروجو فتاواه في الأرض المحتلة في الترويج أن سوريا لم تحرر الجولان، ولا يسالونه ولا يسالون أنفسهم: وهل تحررت فلسطين على يد من اعترفوا بالكيان ومنحوه 78 بالمئة من فلسطين؟ هل يجوز للفلسطيني الاعتراف بالكيان وتسليم وطنه ولا يجوز لسوريا عدم القدرة على تحرير أرضها؟
القيادة الصهيونية اليوم تجهز للعدوان على غزة، وربما على غير غزة.
وهنا نسأل تلامذة القرضاوي ليسألوه ما رايه؟ ماذا سيقول؟ هل يجرؤ على قول شيىء ما؟ وهو الذي افتى قبل ايام قليلة: “إن على العرب ان يتعاملوا مع إسرائيل بالعقل والحكمة”. هل هذه فتاوى رجل دين أم شيخ السلطان، واي سلطان!!! ولكنها الطائرات والفسفور يا شيخ؟ ولكن، طالما لا يجرؤ على معارضة أولياء نعمته في خليج الدين السياسي كان عليه على الأقل أن يقول ما قاله جد الرسول الأكرم: “للبيت رب يحميه” فهذا ملاذ مبرر على الأقل. أم سيقول ما قاله حمد بن جاسم قبل عشر سنوات: “على الفلسيطنيين الاتجاه لأميركا، لأن العرب لن يحاربوا”.
نعرف أن هناك عربا لا يحاربون، وعرب على الرصيف، ولكن فليتوقفوا عن التآمر وعن دعم الكيان!
ولكن، لماذا يحارب عرب حمد وحمد والإمارات والقاعدة والسعودية وعرب أل سي آي إيه في ليبيا وسوريا واليمن، ويتجهزون للجزائر؟
كنا نقول قبل ما يجري في الوطن العربي، سنضع قدمنا على طريق التغيير حينما يكفر المواطن بالنظام وينفصل الشعبي عن الرسمي. وحين بدأ هذا كانت له الثورة المضادة بالمرصاد.
واليوم يتم جرف الناس باتجاه قيادات الدين السياسي لتنقلنا من عاش الملك وعاش الرئيس إلى عاش الشيخ. والشيخ يفتي بأن العلاقة بالكيان وباتفاقيات كامب ديفيد وأوسلو سوف تُعرض للاستفتاء. استفتاء الشعب على التنازل عن وطنه.
أما الكيان فيجهز نفسه لحروب لا لحرب واحدة! رغم كل رسائل التطمين هذه، يجهز للحرب، نعم لغزة رب يحميها، ولغزة أهلها. ما نتمناه أن لا يُباع هذا الصمود وهذا العذاب لرجال الكراسي والمال.
[1] مقتطف في كتاب:
The Global political Economy of Israel by Jonathan Nizan & Shimshon Bichler, Pluto papers, 2002, p. 102
[2] هذا الشعار الذي ترجمه عزمي بشارة غلى “دولة لكل مواطنيها” كي يدمج الفلسطينيون بالكيان الذي يرفضهم إلى أن انتهى في خلية الثورة المضادة في قطر مع حمد وحمد والقرضاوي وغليون، وجنود لا نراها، فأي Think Tank