عادل سمارة
قد لا تكون فركة الأذن لمنظمات الأنجزة في مصر بريئة تماماً، وقد لا تختلف عن ما فعله نظام مبارك مع سعد الدين إبراهيم الذي كان “أنجوزاً” بامتياز، فهو سوسيولوج أكاديمي من جهة وأمريكي الثقافة من جهة ثانية ولبرالي المعتقد من جهة ثالثة.
ليوم واحد تجرأت سلطة المشير طنطاوي لتفتش مقرات 17 منظمة أنجزة وتصادر بعض محتوياتها، وخلال ساعات كانت الولايات المتحدة وألمانيا والغرب كله على الأبواب تهدد بفرض العقوبات، وربما كشف الأسرار. وبالمقابل فإن غضب العرب في مصر لم يثنِ المشير العجوز عن قتل العشرات وجرح المئات في ميدان التحرير!
يؤكد هذا أن فورد فاونديشن، و يو اس إيد، و أن إي دي…الخ الأميركية وفريديريش إيبرت، وجوتة واخواتها الألمانية والمجلس الثقافي البريطاني والفرنسي ومنظمة فافو النرويجية وسيدا السويدية وكثيلات لم نراها هي خطوط حمراء.
كان هذا الانصياع مفهوماً في فترة ما قبل طنطاوي. أما أن تبقى كذلك اليوم، فهذا أمر يثير أسئلة عدة عن المرحلة وعن ما قد أُنجز على الأقل تجاه الاختراق الغربي الراسمالي. هذا دون أن نغفل حقيقتين:
- أن قيادة الجيش المصري تتحكم (حسب بعض المصادر) ب 25-40 بالمئة من اقتصاد البلاد
- وأن الولايات المتحدة تقدم 1.3 مليار دولار “مساعدات” لهذه المؤسسة/الشركة العسكرية الكبرى!
وهذا يطرح سؤالاً رهيباً: ما هي مؤسسات الأنجزة هذه التي من أجلها تفرمل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطاني…الخ قرار المؤسسة/ الشركة العسكرية هذه حماية لها ؟
قد تكون الأصدق والأدق هي إجابة الوهلة الأولى: إن مؤسسات الأنجزة هي شبكة اختراقات. فهذه وحدها الخدمة التي تفوق خدمة قيادة العساكر.
المهم أن مصر مرحلة يقف فيها من يُسائل هؤلاء ولو لطرفة عين فماذا عن الأرض المحتلة؟
قبل اي حديث، لنتذكر أن مصر كبيرة ومتعددة وأن المصريين على أرضهم باستثناء سيناء، بمعنى أن ضياع مصر ليس على اية أجندة، بل على الأجندة، رغم الثورة المضادة والصراع معها، عودة مصر رغم خنوع قيادة العسكر لأميركا ولألمانيا ولغيرهما.
وإذا صح أن ما دُفع لمنظمات الأنجزة في مصر هو 40-60 مليون دولار، فإن هذا رقم تافه بمعنيين:
الأول: لأن تخريب مصر يتطب أكثر من هذا، بل ربما رفع كل مليون إلى مليار، على الرغم من تدني شراء قوة عمل المخروقين.
والثاني: إن منظمة أنجزة واحدة في رام الله نسوية او ذكورية، يسارية أو يمينية، علمانية أو دينية قد حصلت على هذا المبلغ!
وإذا كان هناك من الأميركيين والألمان من ألقى جزافاً بتقدير أل 40-60 مليون دولار، فمن الذي يستطيع تقدير ما تدفق إلى الأرض المحتلة منذ عام 1975 على الأقل؟. هناك لمنظمات الأنجزة، أقصد لكبار مدرائها/مديراتها أطيان وخاصة في الأغوار عقارات ومحطات تلفزة ورخص فضائيات تنتظر موافقة سلطة الحكم الذاتي التي تحجب الترخيص خوفاً من المنافسة على رئاسة السلطة نفسها. هناك منظمات أنجزة تملك مكاتب كأبنية بقيمة مئات آلاف الدولارات وتصدر نشرات بإخراج باذخ لم تصله نشرات الاتحاد الأوروبي، وبلا محتوى، أو بمحتوى يتناسب مع المرحلة. وهناك منح، ودورات ونفقات تغار منها وزارات سلطة الحكم الذاتي التي هي أكبر أنجزة.
من الذي بوسعه مسائلة هؤلاء؟ من يجرؤ؟ حتى لو وُجد طنطاوي هنا، لن يجرؤ على فعل اي شيء من هذا؟ وليس هذا لخُلو البلد من الأيدي النظيفة ولكن لأن تنظيفها من الأنجزة اصعب من تنظيف اسطبلات اوجياس من الروث المؤبد.
الأنجزة في الأرض المحتلة هي الوجه العملي للتطبيع بأنواعه وفضاءاته المعتمة بالطبع. هل هناك فضاءات معتمة؟ نعم، وإلا ما معنى الثورة المضادة والتطبيع!
ليس التطبيع مع الكيان الصهيوني وحده، بل ربما ليس هذا التطبيع هو الأخطر. فأخطر منه التطبيع مع الأنظمة والأكاديميا الغربية الراسمالية والتطبيع مع الأنظمة العربية وكل هؤلاء في خدمة الكيان.
أليس الدفاع، بل حتى عدم الهجوم المفتوح ضد قطر هو تطبيع؟ ألا يسكت عن قطر كثيرون لأسباب غير أنهم ينالون منها حظوة؟ وماذا عن السعودية والإمارات وسلسلة أخل الربع النفطي؟ إذا كانت قطر ترشي دولاً، فلماذا لا ترشي مبتدئين في الثقافة؟ هي شلنات قليلة و”يستقيم” القلم باتجاه مكة المكرمة!
الأنجزة هي التي تقود التطبيع الأكاديمي في الأرض المحتلة، حيث يتزاوج المطبعون بالأكاديميا. حين تكتشف أن في اثينا مركزاً متقدماً للولايات المتحدة في شؤون الهجرات وحتى الزيارات إلى هناك، يجب أن لا تفاجأ ان الجامعة الأميركية في القاهرة هي التي توزع منح طلبة (هن/هم) الدكتوراة من الوطن العربي على جامعات العالم بحساب ودقة وتخصصات تفرض على الطالب/ة المكان وموضوع البحث!!. وهي التي تنسِّب من عليه الالتزام بدورات تدريب على أعمال الأنجزة وربما على غيرها.
هناك دوائر جامعية بأكملها تديرها دول غربية، وهناك محاضرون في هذه الدوائر يديرون مؤسسات أنجزة تعنى ب : تعليم والتدريب ونشر “الديمقراطية” وحقوق الإنسان، والنوع الاجتماعي وتملك هذه المؤسسات المركَّبة ميزانيات هائلة للأبحاث ومنح الماجستير والدكتوراة (أحياناً تحصل هي أو هو على منحتين ماليتين معاً، فاي إغداق ولماذا). ومن هذا نجد سلسلة ثلاثية:
- دائرة في الجامعة تشغل محاضرين
- منظمة أنجزة للأبحاث والديمقراطية تشغل باحثين
- ثم شبكة مختلطة من المحاضرين وغير المحاضرين في منظمة الأنجزة يديرون ابحاثاً ملفتة للنظر وبإغداق ملحوظ ، كما تقوم هذه المنظمة بالتقاط المحاضرين التقدميين حيث تطويهم بالمال فيتحولوا إلى لبراليين يأسفون على ما فات!
فقط منظمات الأنجزة هي التي تنتقد سلطة الحكم الذاتي وتفعل ما هو أفظع، وتنتقد التمويل المسموم وتتغذى منه زاعمة أن بها مناعة ضد هذه السموم[1]، وتنادي العالم بمقاطعة جامعات الكيان ويقوم مدراؤها وناشطوها بالدراسة في نفس جامعات الكيان زاعمين بانهم “الإئمة المعصومين في بلد ليس شيعياً”! فمن اين كل هذا ولماذا؟
لن يكون طنطاوي في الأرض المحتلة. ولكن، يوماً ما سياتي. فالشعب الذي ولد من رحمه الانتفاضة سيولد من رحمه من يقول: من اين لك هذا؟ كم قبضت، وعلى ماذا وقَّعت خلال اللقاءات الفردية مع المانح (للتنمية أو للدراسة أو للبحث) ، وعن اي قطاع أو تنظيم أو بلد عربي كتبت تقاريراً، ولماذا؟ ما هو لون الاختراق الذي عايشت؟ وهل ترددت قبل الركوع؟ وهل أخطات وتراجعت…الخ
أسئلة كثيرة لا يضطلع بها لا شاويش ولا جنرال ولا حزبي يساري كفر بالجوع فإذا به يكفر بالفكر، انتقل من الفكر إلى الكفر، ولا مٌريد خان شيخه، ولا متقاعد وطني ألقى عصا الترحال الكفاحي. اسئلة تتطلب حالة وطنية مكتملة قد نسميها ذات يوم: المسائلة بالحماية الشعبية. وعندها يكفي من سقط وصمه بالعار. فالذي منع الغناء الصهيوني برام الله قبل ايام، سوف يسأل ذات يوم كل مطبِّعٍ عن الصفقة التي فعل، وطوبى لمن يعترف للشعب سلفاً وطوعاً.
فوجئت وأنا اسمع فضائية عربية قبل ايام: أن الفرنسيين أعدموا بعد خروج النازي 20 الف عميلاً فرنسيا. قد يكون في هذا نقاش، لا سيما بعد حالتين:
- عدم قيام حزب الله بالانتقام بعد تحرير الجنوب
- وعكس ذلك تعايش الفلسطينيين بعد أوسلو مع فيالق من العملاء!!!
ولكن ما لا نقاش فيه، أن الفرنسيين حتى الآن لا يغفرون لأحفاد العملاء جرائم أجدادهم. قد يقول سَلَفي من جماعات الدين السياسي: أنظروا هذا العروبي الشيوعي، ها هو يستورد ثقافة من الكفار الغربيين! سيدي: أنت ضحية اختراق بالمعكوس أكثر من أولاد هيلاري وحريم الأنجزة.
[1] قامت مؤخرا منظمة روزا لكسميورغ بعرض فيلم ضد التمويل وهي نفسها منظمة أجنبية مولة من الحكومة الألمانية وليس فقط من حزب دي-لنكا كما يُشاع. وهاجم الفيلم التمويل الأجنبي. وكأني بالممولين يبتسمون ويقولون: ماشي، هل ستتوقفون عن بابنا في نهاية الشهر! لقد استمر سيلان المال.