عبداللطيف مهنا
على الهاتف، إنهمرت أسئلتي على صديقي المصري في القاهرة، وبالطبع وفي مثل هذه الأيام بالذات، كان جل حديثنا يتعلق بآخر التطورات الجارية في المحروسة، ومحاولة إستشراف خبايا ما هو كامن وراء صخب التجاذبات في معترك شجون وشؤون الراهن المصري المحتدم. قال لي الإعلامي والناشط السياسي والمرابط العنيد أكثر الوقت في ميدان التحرير، وقد عكست أسئلتي مدى قلقي ازاء مختلف الإحتمالات التي تواجه مسارالحلم المصري الذي جسَّدته دماء مصريو 25 يناير، مطمئنا :
لا تقلقوا علينا، ولا على مستقبل مصر، فمهما حلكت أيامنا الراهنة وتعقدت، واختلط حابل عسكرنا بنابل قوانا السياسية المتهافتة لأخذ نصيبها من السلطة الموعودة، فغدنا الآتي لا ريب يلوح لنا وحتام سيشرق. تأكدوا، إنها إنما مسالة وقت لا أكثر، فالأمور لن تتجه في سائر الاحوال أو في منتهى المطاف إلا فقط لصالح شعبكم المصري.
قلت له، وقد راقني تفاؤله وادهشتني ثقته الزائدة والتي بدت لي بعض المبالغ فيها، وماذا عن العسكر ؟!
قال، لا، هؤلاء كل ما باتوا يناورون ويداورون من أجله الآن، أو الكامن من وراء بادي تعنتهم وتصعيد لهجتهم واستعراض قبضتهم هو للحصول على الضمانات التي يريدونها تحسباً لما هو آت بعد تسليمهم السلطة للمدنيين.
قلت، وما هي ؟
قال، إنها لا تعدو ثلاثاً، أولاها، ضمان بقاء ما كانت قد خُصت به المؤسسة العسكريه من مميزات ومكتسبات ولا بأس من زيادتها، وثانيها، الحفاظ على امبراطوريتهم الإقتصادية، ثم سرية الموازنة العسكرية إن أمكن، والثالثة والأهم، عدم محاسبتهم في قادم الأيام على خطاياهم الكثيرة التي إرتكبوها خلال عام الثورة الأول الذي أهدروه والذي يقترب الآن من نهايته.
قلت، والأخرين ؟!
قال، ومن هم ؟
أجبته، ومن هم سوى الأمريكان وإسرائيلهم وغربهم، وعربهم، وقائم نظام كامب ديفيد الراحل الباقي بذيوله وفلوله. والإنتهازية السياسية و قوى ركوب موجة الثورة ومن ثم الإرتداد عليها… هل تظنون أنهم سوف يتركون مصر وحالها يوماً ؟!
طال الحوار وغدا يقترب من الجدل، وكان آخر ما حرصت على قوله له، إنتبهوا، إنكم تخوضون معركة أمة بكاملها وليس مصر فحسب، لأن الصراع على مصر، بالأمس واليوم وغداً، ومع كل هؤلاء “الأخرين”، هو الصراع على مصر الدور في سياق صراع أمتها المديد معهم، لذا فإن المقلق بحق هو غياب مثل هذا البعد، أو عدم وضوحه كما يفترض، في شعارات ميادين مصر الثورية… وافقني، وقال : لكن عليكم أن تصبروا علينا، لا تحملونا ما لا طاقة لنا به الآن، لدينا أولوياتنا التي فرضتها التركة الثقيلة التي حمَّلونا أوزارها، أما مصرالغد، الدور، ما تنتظره أمتها منها، فهو قدرها ومصيرها شائت مصرام أبت، الم يقل لنا هذا جمال حمدان ؟!
أنتهت المكالمة وشعرت أن فاتورة الهاتف سوف تأتيني وقد زادت عن الحد، فانشغلت عنها بمصر جمال حمدان… جمال حمدان المفكر العربي المصري الفذ، الذي رحل غيلةً وفق المرجح على أيدي أعداء مصر والعرب، أو من كنت قد دعوتهم آنفاً بالآخرين، ولغز رحيله معروف ولم يُحلَّ بعد وقيل فيه الكثير، والذي كان في العام 1993، وحيث تمر في العادة ذكراه السنوية على عجل ووجل ودونما أن يلتفت لها إلا قليل القوم… يقول عبقري مصرفي كتابه الشهير “شخصية مصر.. دراسة في عبقرية المكان” :
“ومصر بالذات محكوم عليها بالعروبة والزعامة، ولكن أيضاً بتحرير فلسطين، وإلا فبالإعدام. فمصر لا تستطيع أن أن تنسحب من عروبتها أو تنضوها عن نفسها حتى لو أرادت – كيف ؟ وهي إذا نكصت عن إسترداد فلسطين كاملة من النهر إلى البحر وهادت وهادنت وخانت وحكمت عليها بالضياع، فقد حكمت أيضاً على نفسها بالإعدام، بالإنتحار، وسوف تخسر نفسها ورصيدها، الماضي، المستقبل، التاريخ والجغرافيا “… مبكراً، حاكم جمال حمدان بمقولته هذه كامل حقبة مصر نظام كامب ديفد وحتى اللحظة، حكم عليها سلفاً بما حكمت عليها لاحقاً ثورة 25 يناير، أوما قد تصادق عليه مصر الما بعد تسلم مدنييها للسلطة من عسكرييها، إذا ما تحققت رؤية صاحبي المتفائل في القاهرة، ونحن نميل لمشاركته تفاؤله وأن بدرجة أكثر تواضعاً ولا تخلو من توجُّس ولا يبارحها القلق… إستعاد لنا جمال حمدان في محكمته التاريخ فاعطى الجغرافيا حقها، فاستحضر صلاح الدين، والظاهربيبرس، وسيف الدين قطز، ومحمد علي، وجمال عبدالناصر، ليدلنا على عبقرية المكان وصاحبته، دورها، مكانتها، وقدرها… قال ما لم تقله لنا مصر ميدان التحرير بعد، أو ما أجَّلته إلى حين أولويات هذه المرحلة:
“لن تصبح مصر قط دولة حرة قوية عزيزة متقدمة يسكنها شعب أبي كريم متطور إلا بعد أن تُصفِّي وجود العدو الإسرائيلي من كل فلسطين. فبهذا وبه وحده، تنتقم لنفسها من كل سلبياتها وتاريخها وعار حاضرها”… ما قاله فقيدنا جمال حمدان ليس وصيته لمصره وحدها، وإنما كان يقوله لإمته جمعاء ومن محيطها إلى خليجها، وإذا ما إتضحت لهما، مصر والأمة، ذات الرؤية إتضاحها عنده، فحينها وحينها فحسب، يمكننا القول بثقة باننا فعلا في إنتظار مصر جمال حمدان… وأمة جمال حمدان.