كل ميلاد وأنت حر

بسام الكعبي

رام الله المحتلة

كيف يتأمل عاصم اليوم الأول للعام الجديد على وقع عيد ميلاده، كيف تطل 34 سنة مسلحة بالتمرد من طاقة زنزانة في سجن “هداريم” ترقب بكبرياء بحر يافا المجاور؟ هل يكشف الفتى الثائر سر ميلاده، ويشي به لرفاق السلاح، لعله ينال خطفا تهنئة بعيده، رغم الأوضاع القاسية للرفاق الأسرى التي تجبرهم على تغييب مناسباتهم الخاصة، دفاعا عن تماسك روحهم الجماعية في وجه السجان. هل تستعيد ذاكرته في لحظات الصمت بعضا من وقائع احتفاء الأهل والأصدقاء بيوم ميلاده قبل أن يقع أسيرا في قبضة المحتل؟

فجر اليوم الأول للعام 1978 حررته والدتي من سجن بطنها وأدخلته معتقلا واسعا تحت حراب الاحتلال. كنتُ بكرها بعمر عشرين عاما وطالبا في السنة الثالثة في جامعة بغداد، سمعتُ بخبر ميلاده وتوقيته، ودققتُ بعشرين عاما تفصلني عنه، وقد ردم المسافة الزمنية بيننا ستة من الأشقاء والشقيقات. كنت ُ أظن أني لن أجد لغة مع آخر مواليد والدتي. خاب ظني عندما قابلته لأول مرة نهاية صيف 78 في عمان: كان يزحف بقوة على بطنه نحوي، ويحاول أن يقف على قدميه مستعينا بساعدي. ودعته بحب كبير عندما عاد إلى مخيم بلاطة بعد مغادرتي لاستكمال سنتي الرابعة في العاصمة العراقية. شاهدته في المرة الثانية أواخر صيف 1980 وكان يزحف واثقا نحو السنة الثالثة من عمره.

عاد نهاية أيار 1980 من الإبعاد القسري للاحتلال يحمل اسما جديدا؛ أبو جبر. عادت عائلته إلى مخيم بلاطة بعد أن أعلنت الإضراب عن الطعام لعدة أيام قبل أن تقضي أسبوعين بقرار عسكري للاحتلال في مخيم عقبة جبر، عقابا على نشاط نجل العائلة أحمد في المقاومة المسلحة. واظب الصغير على زيارة أول شقيق أسير في سجون الاحتلال طوال 12 سنة من الاعتقال، ثم المواظبة على زيارة أشقائه الأسرى بعد اعتقالهم عقب اندلاع الانتفاضة الأولى أواخر 1987. شاهدتُ عاصم للمرة الأولى زائرا على شبك زيارة سجن جنيد في نابلس عندما كان في العاشرة، ثم شاهدته للمرة الأولى أسيرا في سجن نفحة عام 2010 عندما كان في الثانية والثلاثين. طوال عشر سنوات سبقت انتفاضة القدس عام 2000، لم أتمكن من مشاهدته كثيرا في بيت العائلة. كان الفتى يسابق عمره في التمرد والاستقلالية والاعتماد على نفسه كشاب يمتلك براعة استقطاب الأصدقاء، وهدر الوقت الطويل برفقتهم. مع انفجار انتفاضة القدس، تعرض عاصم لمطاردة الاحتلال بتهمة المشاركة بنشاط مسلح. لم تعد الأسرة تعلم بأخباره حتى اعتقاله أواخر نيسان 2003، وأصدر الاحتلال بحقه حكما بالسجن الفعلي 18 سنة، وغاب بقامة مرتفعة خلف القضبان دون أن أتمكن من زيارته طوال هذه الفترة إلا مرتين؛ الأولى في سجن نفحة والثانية في معتقل النقب منذ عام.

في عيد ميلادك اليوم، الذي يقف بكبرياء على رأس السنة الجديدة، تشعل والدتك بيديها في المساء 34 شمعة تضيء الطريق على حريتك، فيما يطرق قلبها السماء لعلها تفرح بتحررك قريبا برفقة سعدات وهشام وجواد وهيثم وكل أسرى الحرية، كما خفقت روحها فرحة بتحرر رفاقك علام وأمير وسامر ومؤيد وصلاح وحنني وجميع الأسرى المشمولين بصفقات التبادل..في هذا اليوم نجدد لك مع رفاقك المحررين كل حبنا وتقديرنا الكبير، وقد سمعنا عن ثبات مواقفك وتماسكك الأسطوري طوال 23 يوما من الإضراب عن الطعام، رغم العزل والحصار في الزنازين الانفرادية المظلمة والتهديد المتواصل لإجبارك على كسر الإضراب..لكن قامتك كانت أعلى من سياط الجلاد. كل عام وأنت حرا طليقا مستقلا متمردا يساريا عنيدا مقاتلا، وفق معاييرك التي حرصت دوما على انتزاعها لتعلو كنسر متفرد يحلق في القمم العالية.