شايماس ميلن
ترجمة: عادل بدر سليمان
ملاحظة: قد لا نوافق الكاتب على كل ما جاء في هذه المقالة، ولكننا ننشرها لما فيها من فائدة للقراء.
(“كنعان”)
* * *
نشرت صحيفة «الغارديان» اللندنية مقالاً موسعاً للكاتب التقدمي البريطاني «شايماس مولن»، يستعرض فيه الأحداث التاريخية التي مرت على البلدان العربية، ويقارنها بالوضع العربي الراهن، ليتوصل إلى استخلاص سبعة دروس تربط علاقة الغرب بالعرب والجهود الاستعمارية المتكررة للسيطرة على الشرق الأوسط وفيما يلي الترجمة الكاملة للمقال:
لدى شعوب الشرق الأوسط، أكثر من كل الشعوب التي استعمرت سابقاً، شعور حقيقي بأن منطقتهم لم تتحرر بشكلٍ تام من ربقة الاستعمار. ونظراً لاستحواذه على أكبر مخزون نفط في العالم، ظل الوطن العربي، حتى بعد حصوله رسمياً على الاستقلال، هدفاً دائماً لتدخل واجتياح القوى الاستعمارية. وبعد تقطيع أوصاله إلى دول صورية مصطنعة بعد الحرب العالمية الأولى، تم قصفه واحتلاله- الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل وبريطانيا وفرنسا- كما تمت محاصرته بالقواعد الأميركية وبأنظمة استبدادية مدعومة من الغرب. ووفقاً لما كتبت المدونة الفلسطينية لينا الشريف على تويتر في يوم الهدنة هذا العام، فإن «السبب وراء عدم انتهاء الحرب العالمية الأولى حتى الآن، هو أننا، في الشرق الأوسط، ما زلنا نعيش عواقبها». الانتفاضات العربية التي انطلقت شرارتها الأولى قبل ما يزيد على العام ركزت على الفساد والفقر وقلة الحريات، وليس على الهيمنة الغربية أو الاحتلال الإسرائيلي. لكن حقيقة أن هذه الانتفاضات انفجرت في وجه الديكتاتوريات المدعومة من الغرب شكّل تهديداً مباشراً للنظام الإستراتيجي. ومنذ يوم سقوط حسني مبارك في مصر، ظهر مسعى مضاد وعنيد قادته القوى الغربية وحلفاؤها الخليجيون لرشوة أو تحطيم أو اختطاف الثورات العربية. ولديهم معين عميق من الخبرة تمكنهم من استنتاج أن: كل مركز للثورات العربية، من مصر إلى اليمن، عاش عقوداً تحت الهيمنة الإمبريالية. وكل دول حلف شمال الأطلسي الرئيسية التي قصفت ليبيا- كـالولايات المتحدة الأميركية، بريطانيا، فرنسا وإيطاليا- على سبيل المثال لا الحصر، كان لديها قوات تحتل المنطقة وما زالت أعمالها حاضرة في الذاكرة الحية. وإذا ما أرادت الثورات العربية تحديد النتائج المستقبلة، فإنها ستحتاج إلى أن تُبقي عيونها على الماضي القريب. ولذلك، فإننا، وبالاستعانة بـ(باثيه نيوز/ نسبةً إلى الفرنسي تشارلز باثيه؛ مخترع الصورة المتحركة، وباثيه نيوز التي صار اسمها اليوم باثيه البريطانية تأسست عام 1902، هي مؤسسة متخصصة بإنتاج أفلام إخبارية عن الأحداث الجارية/ المترجم)؛ صوت العهد الاستعماري لبريطانيا العظمى التي لا عهد لها، نسرد، فيما يلي، سبعة دروس من تاريخ التدخل الغربي في الشرق الأوسط:
الغرب لا يتخلى أبداً عن سعيه للسيطرة على الشرق الأوسط، مهما كانت العقبات
لنتذكر المرة الأخيرة التي بدأت فيها الدول العربية الخروج من الفلك الغربي: في خمسينيات القرن الماضي، وتحت تأثير الوحدة العربية التي أطلقها جمال عبد الناصر، في تموز 1958، أسقط ضباط جيش عراقيون قوميون متشددون نظاماً استبدادياً فاسداً مدعوماً من الغرب (ألا يبدو ذلك مألوفاً؟)، ومحميّاً من قِبل القوات البريطانية.. وقد ألقى طرد النظام الملكي العراقي الطيّع والموثوق به الرعب في أروقة (باثيه نيوز) فأطلقت صيحة تحذير في أول تقرير إخباري لها تعليقاً على الأحداث بأن العراق البلد الغني بالنفط أصبح «بقعة الخطر الأولى». وعلى الرغم من «وطنية» الملك فيصل التي «لا يجادل فيها أحد»، وهو خريج مدرسة هارو/ أعرق مدرسة بريطانية خاصة خرّجت عدداً من قادة العالم، مثل ونستون تشرشل وجواهر لال نهرو/، فإن التعليق الصوتي لتقرير «باثيه» يؤكد لنا أن الأحداث، «لسوء حظ السياسة الغربية»، قد تحركت بسرعة شديدة. ولكن في غضون أيام قليلة- مقارنةً بالشهرين اللذين احتاجتهما للتدخل في ليبيا العام الماضي- حركت بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية آلاف القوات إلى الأردن ولبنان لحماية اثنين من الأنظمة العميلة لهما من الثورة الناصرية. أو، كما تقول (باثيه نيوز) في تقريرها التالي، بهدف «وضع حد لانتشار التعفن في الشرق الأوسط». ولم يكن لديهم نية مطلقاً لترك العراق الثائر يدير شؤونه بأدواته الذاتية. وبعد أقل من خمس سنوات: في شباط 1963، دعمت المخابرات البريطانية والأميركية الانقلاب الدموي الذي أوصل أولاً بعثيي صدام حسين إلى تسلم الحكم في العراق. وبالانتقال السريع إلى عام 2003، نجد أن بريطانيا وأميركا تمكنتا من اجتياح العراق واحتلاله بالكامل، وإخضاعه أخيراً، بواسطة سفك الدماء والتدمير الوحشي، للسيطرة الغربية الكاملة. إن قوة المقاومة العراقية هي التي قادت إلى انسحاب القوات الأميركية نهاية العام المنصرم – ولكن حتى بعد الرحيل، سوف يبقى في العراق 16000 متعهد أمني ومدرب وآخرين تحت أمرة الجانب الأميركي. في العراق، كما في باقي المنطقة، لا ينسحبون إلا إذا أُجبروا على القيام بذلك.
عادة ما تعتمد القوى الإمبريالية على تضليل أنفسها بشأن حقيقة ما يفكر به العرب
فمثلاً، هل من الممكن أن يكون مذيع (باثيه نيوز)- والمحتلون الاستعماريون اليوم- قد صدقوا بالفعل أن «آلاف العرب» عندما انهمروا بالمديح المرعب على الديكتاتور الفاشي موسولينى أثناء قيادته السيارة عبر شوارع طرابلس الغرب عام 1937، كانوا حقاً يعنون ذلك؟ أنت لن تصدق ذلك إن نظرتَ إلى وجوههم الخائفة. ولا توجد أي إشارة في الفيلم الإخباري إلى أن ثلث سكان ليبيا قد قتلوا على يد الحكم الإيطالي الاستعماري الوحشي، ولا عن حركة المقاومة الليبية البطلة التي قادها عمر المختار، والذي شُنق في معسكر اعتقال إيطالي. ولكن بعد ذلك يأتي التعليق الصوتي، أو «القناع الاستعماري»، ليصف موسوليني بأنه كالساسة البريطانيين في ذلك الوقت.
وتقرير (باثيه نيوز) عن زيارة الملكة للمستعمرة البريطانية عدن بعد سنوات قليلة كان مشابهاً بشكل مخيف، لـ«آلاف» الرعايا المخلصين السعداء «يقدمون ترحيبهم المفترض» لملكتهم والذي وصفته بفرح بأنه «مثال بارز على التطور الاستعماري». وبالفعل كان بارزاً لجهة أنه بعد نحو قرن أجبرت حركات التحرير اليمنية الجنوبية القوات البريطانية على إخلاء آخر موقع من الإمبراطورية بعد ما تعرضوا للضرب والتعذيب والقتل في طريقهم عبر ضاحية فوهة عدن. ويشرح جندي مشاة سابق في وثائق (بي. بي. سي.) 2004 عن عدن أنه لا يمكنه الدخول في التفاصيل بسبب خطورة ادعاءات جرائم الحرب. بيد أن اكتشاف حقيقة الحملات الإعلامية في العصور والمناطق الأخرى أسهل مما يكون عليه الأمر في عصرك ومنطقتك- خاصةً إذا انطلقت من شخصيات تتبع أسلوب الخمسينيات من القرن الفائت المثير للضحك؛ كشخصية هاري إنفيلد/ شولمونديلي – وارنر. وتوقع المحافظون الجدد أن يكون اجتياح العراق مشواراً سهلاً، ورأينا في التغطية الأميركية والبريطانية للغزو في البداية أنه كان لا يزال هناك عراقيون يلقون الورود على القوات الغازية على حين كانت المقاومة المسلحة تتدفق من قبل وبقوة. وأورد التليفزيون البريطاني أن القوات البريطانية «تحمي الأهالي» من هجمات طالبان في أفغانستان، والذي يمكن أن يكون مذكراً على نحو مذهل بالأفلام التسجيلية عن عدن والسويس في خمسينيات القرن الفائت. حتى خلال الانتفاضتين المصرية والليبية العام الماضي، رأى الإعلام الغربي ما أراد أن يراه في الحشود سواء في ميدان التحرير أو بنغازي – فقط لتأخذه الدهشة فيما بعد عندما انتهى الأمر بتمكن الإسلاميين من التحكم بمجرى الأحداث والفوز بالانتخابات.
القوى العظمى هي أيادٍ خبيرة في تجميل الأنظمة العميلة لإبقاء تدفق النفط
عند الحديث عن حكام الخليج الأوتوقراطيين/ الاستبداديين/ الرجعيين، وحتى أكون منصفاً، فهم غير مزعجين مطلقاً. ولكن قبل أن تطيح بهم الموجة المناهضة للإمبريالية في خمسينيات القرن الماضي، عكفت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على تجميل الأنظمة العميلة لجعلها تبدو كديمقراطيات دستورية. في بعض الأحيان يفشل هذا الجهد سريعاً، وهو ما يبدو واضحاً في التقرير المتفائل عن الدمية الأميركية- البريطانية؛ الملك إدريس، والاختبار الأساسي الأول للديمقراطية» في ليبيا. فقد أدى التلاعب الوقح بالانتخابات الليبية عام 1952 ضد المعارضة الإسلامية إلى اندلاع أعمال الشغب وحظر كافة الأحزاب. تلا ذلك انقلاب على إدريس بواسطة القذافي، وتأميم النفط وإغلاق قاعدة (ويلوس) الأميركية – ورغم ذلك فإن علم الملك يُرفع مرة أخرى في طرابلس بمساعدة حلف الناتو، على حين تنتظر شركات النفط الغربية حصد مكاسبها.
وهو ما جرى أيضاً في العراق خلال الخمسينيات حيث تم تزوير الانتخابات وتعذيب آلاف المعتقلين السياسيين. ولكن حين يتعلق الأمر بطبقة الموظفين البريطانيين – الذين ثُبِتوا بوصفهم «مستشارين» في بغداد- لديهم قاعدة عسكرية في الحبانية، وأفلام تسجيلية تعرض في صالات السينما البريطانية- فإن العراق في عهد الملك فيصل كان يعد دولة مسالمة وديمقراطية متقدمة. وتحت إشراف السفراء الأميركيين والبريطانيين و«السيد جيبسون» من شركة الوقود البريطانية العراقية، يُمكننا أن نرى رئيس الوزراء العراقي، نوري السعيد، يفتتح حقل نفط «الزبير» بالقرب من البصرة عام 1952 لبناء «المدارس والمستشفيات» من خلال «عمل مشترك بين الشرق والغرب». في الواقع سوف يحدث ذلك فقط حين يتم تأميم النفط – وبعد ذلك بست سنوات تم اغتيال السعيد في شوارع بغداد عندما حاول الهروب مرتدياً لباس امرأة. وبعد انقضاء نصف قرن عاد البريطانيون للسيطرة على البصرة، وعلى حين يناضل العراقيون اليوم لمنع الاستيلاء على آبار نفط بلدهم المدمر، يُصر الساسة الأميركيون والبريطانيون مرةً أخرى على الديمقراطية. إن أي دولة من دول «الربيع العربي» تتخلى عن حق تقرير مصيرها بنفسها من أجل احتضان الغرب يمكن بالفعل أن تتوقع مصيراً مشابهاً تماماً مثل الأنظمة العميلة التي لم تترك مدارها قط؛ كتلك الدولة البوليسية الفاسدة المسماة «الأردن»، والتي يتم التهليل لها باعتبارها واحات للحكومات الرشيدة ول- «الاعتدال»!
إن شعوب الشرق الأوسط لا تنسى تاريخها حتى لو فعلت أميركا وأوروبة ذلك
حين حذر محمد هيكل؛ الصحفي المخضرم، ووزير الإعلام في عهد عبد الناصر، من أن الثورات العربية يتم استخدامها لفرض «اتفاقية سايكس – بيكو» جديدة، فهم العرب وآخرون في الشرق الأوسط عما كان يقصده الرجل. فقد كانت تلك الاتفاقية قد قامت بتشكيل المنطقة بالكامل وعلاقاتها مع الغرب منذ ذلك الحين. لكن بالنسبة لمعظم غير المتخصصين في بريطانيا وفرنسا، من الممكن أن تكون اتفاقية (سايكس- بيكو) بمنزلة علامة تجارية غامضة. وهو ما ينسحب أيضاً على أكثر من قرن من التدخل والتخريب غير الديمقراطي الأنلكو- أميركي ضد إيران. ومؤخراً ظهر الإعلام البريطاني مربكاً في فهم سبب كراهية الشعب الإيراني لبريطانيا عندما تم في تشرين الثاني الفائت اقتحام السفارة في طهران على يد متظاهرين.
ولكن إذا كنتَ تعرف السجل التاريخي، فهل هناك شيء أقل غرابة؟ في روايتها للدور البريطاني في الإطاحة بالقائد الإيراني المنتخب ديمقراطياً؛ محمد مصدق عام 1953 بعد قيامه بتأميم النفط الإيراني، اعتمدت (باثيه نيوز) مبدأ الشك عند جورج أورويل، حيث نعتت المتظاهرين المؤيدين لمصدق بالعنيفين والمخربين، على حين نظمت الـ”أم. أي. سيكس. والسي. أي. أيه» العنيفتان انقلاباً لطرده في مقابل الترحيب بالشاه بوصفه شخصية شعبية و«تحولاً مثيراً وسريعاً للأحداث». وكالت الأفلام التسجيلية الشتائم على «الديكتاتور الافتراضي» المنتخب مصدق، والذي صرّح أثناء محاكمته اللاحقة بتهمة الخيانة العظمى عن أمله في أن يصبح مصيره أنموذجاً «لكسر قيود عبودية الاستعمار». على حين تم تقديم الديكتاتور الحقيقي كحاكم للشعب، وهو الشاه المدعوم من الغرب والذي مهدت استبداديته الوحشية الطريق للثورة الإيرانية والجمهورية الإسلامية بعد ذلك بنحو 26 عاماً. ولذلك حين ينتقد الساسة الغربيون «التسلطية الإيرانية» بشدة أو يدّعون دور البطولة في الدفاع عن الحقوق الديمقراطية على حين لا يزالون مستمرين في دعم الديكتاتوريات الخليجية، فلن يكون هناك الكثير في الشرق الأوسط ممن يأخذون ذلك على محمل الجد.
يعمد الغرب بصورة دائمة إلى تقديم العرب الذين يصرون على إدارة شؤونهم الخاصة كمتعصبين
لم تكن الثورة التي بدأت في كانون الثاني الماضي في مدينة سيدي بوزيد أول ثورة شعبية تقوم لمواجهة الحكم الظالم في تونس. ففي الخمسينيات اتهمت الحكومات الاستعمارية ومؤيدوها بطبيعة الحال الحركة المناهضة للحكم الاستعماري الفرنسي بأنها حركة «متطرفة» و«إرهابية». ومن المؤكد أنه لم يكن لـ”باثيه نيوز» أي مساهمة في دعم حملة تلك الحركة من أجل الحصول على الاستقلال. في عام 1952، تم توجيه تهمة الهجوم على قسم شرطة إلى «مجموعة من القوميين المتعصبين» في شمال إفريقيا. وبينما قامت الشرطة الاستعمارية بعملية «بحث نشيطة عن الإرهابيين» – على الرغم من أن الرجال المذهولين الذين كان يتم سحبهم من منازلهم تحت تهديد السلاح كانوا يبدون أقرب إلى «المشبوهين العاديين» لكابتن «رينولت» في مدينة الدار البيضاء – حين يشكو مقدم البرامج في (باثيه نيوز) من أن «المتعصبين يتدخلون مرة أخرى ويزيدون الأمور سوءاً». وقد قصد بكلمة «المتعصبين» القوميين التونسيين بالتأكيد، وليس النظام الاستعماري الفرنسي. وكانت القومية العربية قد تراجعت، منذ صعود الحركات الإسلامية، التي بدورها تعرضت هي الأخرى للإقصاء من الغرب وبعض القوميين السابقين باعتبارها حركة «متعصبين». ولأنَّ الانتخابات تأتي بحزب إسلامي تلو الآخر في العالم العربي، فإن أميركا وحلفاءها يحاولون ترويضهم – على السياسة الأجنبية والاقتصادية، بدلاً من تفسيرات الشريعة. والذين يخضعون لذلك سوف يتم وصفهم بـ«المعتدلين» – أما الباقي فسيظل من «المتعصبين».
التدخل العسكري الأجنبي في الشرق الأوسط يجلب الموت والدمار، التقسيم والحكم
لا يحتاج المرء إلى تكبد عناء البحث في السجلات التاريخية لكي يستخلص هذه النتيجة. فتجربة العقد الأخير واضحة بشكل كافٍ. وسواء كان ذلك اجتياحاً واحتلالاً كاملاً؛ كما حصل للعراق، حيث تم قتل مئات الآلاف من العراقيين، أو قصفاً جوياً لتغيير النظام بحجة «حماية المدنيين»؛ كما حصل مؤخراً في ليبيا، حيث تم قتل عشرات الآلاف من الليبيين… الخسائر البشرية والمادية كانت مأساوية. وكان هذا حقيقياً على مر التاريخ المرير للتدخل الغربي. ويمكن لتقرير «باثيه نيوز» الصامت عن تخريب دمشق على يد القوات الاستعمارية الفرنسية خلال الثورة السورية عام 1925 أن يقدم صورةً شبيهةً لما حصل للفلوجة العراقية على يد القوات الأميركية عام 2004، ولمدينة سرت الليبية الخريف الماضي على يد قوات الناتو- وذلك بصرف النظر عن الطرابيش والخوذات. وبعد ثلاثين عاماً خبرت مدينة بور سعيد المصرية تجربةً مماثلة حين تعرضت للعدوان الثلاثي (فرنسا، بريطانيا، و«إسرائيل») عام 1956؛ العام الذي شهد حلول الولايات المتحدة محل الدول الاستعمارية الأوروبية السابقة كقوة مسيطرة في المنطقة.
المشاهد التي ينقلها فيلم «باثيه نيوز» التسجيلي للقوات البريطانية وهي تهاجم السويس، وقوات الغزو وهي بعد ذلك تحتل وتدمر مدينة عربية أخرى؛ بيروت أو البصرة مثلاً – قد أضحت من الملامح المعتادة للعالم المعاصر ورابطاً مباشراً بالعهد الاستعماري. وهكذا كانت الخطط الإمبريالية التقليدية في استخدام الدين والانقسامات العرقية لتقوية الاحتلال الأجنبي: سواء من الأميركيين في العراق أم الفرنسيين في سورية أو لبنان أو البريطانيين أو أينما ذهبوا. ويمتلئ أرشيف (باثيه نيوز) بالأفلام التسجيلية التي تدعي قيام القوات البريطانية بـ«الحفاظ على السلام» بين الشعوب المتصارعة، من قبرص حتى فلسطين – وكل هذا لمصلحة استمرار السيطرة. واليوم تعمل التقسيمات الدينية والعرقية التي رعاها الاحتلال الأميركي البريطاني للعراق والتي تم تعبئتها بوساطة حلفاء الغرب في الخليج للتخلص من، أو تحويل مسار، استحقاقات الصحوة العربية؛ وذلك ما يحصل في قمع الثورة البحرينية، وعزل الحِراك الشيعي في العربية السعودية، والتحريض الطائفي في سورية- حيث لن يقود التدخل الأجنبي إلا إلى زيادة معدلات القتل ومنع السوريين من حقهم في حل مشاكلهم بأنفسهم، وفي ممارسة سيادتهم على بلدهم.
تشكّل الرعاية الغربية للاحتلال الاستيطاني في فلسطين عقبة دائمة أمام إقامة علاقات طبيعية مع العالم العربي
لم يكن ليتم إنشاء «إسرائيل» لولا الحكم الإمبريالي البريطاني الذي استمر ثلاثين عاماً في فلسطين، ورعايته للاستعمار الأوروبي اليهودي على نطاق واسع تحت شعار وعد بلفور عام 1917؛ وكان من الواضح أن فلسطين المستقلة ذات الأغلبية الفلسطينية العربية الساحقة لم تكن لتقبل أبداً بإقامة دولة «إسرائيل». حقيقةٌ تظهر جليّة في مقطع لـ«باثيه نيوز»، عن الثورة العربية على الانتداب البريطاني؛ يعرض الجنود البريطانيون وهم يحاصرون الفلسطينيين «الإرهابيين» في نابلس وطولكرم المحتلتين- تماماً كما يفعل خلفاؤهم الإسرائيليون اليوم. وبنبرة حادة لاهثة، يخبرنا التعليق الصوتي المميز لنبرة الثلاثينيات، أن سبب شعور المستوطنين اليهود بالأمان هو «الجنود البريطانيون؛ حراس اليهود اليقظين دائماً». والمعروف أن العلاقة بين الطرفين قد انهارت بعد تقييد بريطانيا للهجرة اليهودية إلى فلسطين عشية الحرب العالمية الثانية. ويبقى رد الفعل الاستعماري لبريطانيا، في فلسطين وفي أماكن أخرى، الظهور الدائم بوصفها «راعية القانون والنظام» ضد «مخاطر العصيان» و«سيدة الموقف».
ولكن الرابط الأصلي الحاسم بين القوة الإمبريالية الغربية والمشروع الصهيوني صار تحالفاً استراتيجياً دائماً بعد إقامة «إسرائيل» – من خلال ترحيل الفلسطينيين ومصادرة أملاكهم، وشن الحروب عليهم وأربعة وأربعين عاماً من الاحتلال العسكري واستعمار غير قانوني مستمر للضفة الغربية وقطاع غزة. والحال أن الطبيعة غير المشروطة لهذا التحالف، التي تظل محور سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، هي أحد الأسباب التي تفسر احتمال رفض الحكومات العربية المنتخبة ديمقراطياً أن تكون عجينة رخوة بيد القوة الأميركية كما فعلت حكومة مبارك وتفعل الملكيات الديكتاتورية الخليجية. ولا شك أن القضية الفلسطينية متأصلة في الثقافة السياسية العربية والإسلامية. شأنها شأن بريطانيا قبلها، يمكن لأميركا الاستمرار في الكفاح لتبقى «سيدة الموقف» في الشرق الأوسط.
:::::
المصدر: موقع “الوطن”
http://www.alwatan.sy/dindex.php?idn=114904