جمال محمد تقي
رغم تراجيديا المشهد العراقي بعموميته لكنه لا يبخل على نفسه بشيء من التجليات الكوميدية المتفرقعة من بين الفراغات المشدودة باطنان من الاحزان والعوازل الاسمنتية التي تفصلها عن حدود الفرح المنتظر، كوميديا تتلاطم فيها حدود المعلوم بالمجهول، وحدود الخيانة بالاخلاص، والانتهازية بالثبات والجد بالهزل، والماساة بالملهاة، الكذب بالصدق، والمعقول باللامعقول، والعفوية بالمؤامرة، انها كوميديا السياق المقلوب، والمنقع بسوائل لزجة تمتزج فيها الدماء بالنفوط، كوميديا تفرضها الملابسات والتلبيسات والمطبات، كوميديا تجعل من اي مدقق بابعادها ينقلب على قفاه من الضحك المرير الذي لا بد ان ينتهي بدموع الالم، كوميديتنا ليست ماورائية كما عند دانتي في كوميديته الإلهية، انها كوميديا سريالية في محاولة احلالها لحكاية موت معلن على حالة عراق عصي على الموت، عراق يشرب نخب صحته الضحية والجلاد، ويسرف بتقزيمه من يرفع راية تحريره من الاستبداد!
الحرب في العراق لم تنتهي بعد، انها في طور اخر من اطوارها، طور العرقنة المزمنة، حيث يستكمل مهمات طورها الاول من استخلفهم الامريكان لتقاسم البلاد والعباد.
رئيس اركان الجيش الامريكي يلتقي على عجل بالمالكي الذي سارع بدوره في طلب المدد وعدم الابطاء بالسند، المالكي في واشنطن يضع اكاليل من الزهور على اضرحة الجنود الامريكان الذين قتلوا في العراق، ويحتفل في بغداد يوم ـ 31 / 12 / 2011 ـ بيوم الجلاء او يوم الوفاء او اليوم الخالد، تسميات كثيرة كل يفسرها على هواه، فالمالكي وكل رهط العملية السياسية الامريكية التي استخلفها الامريكان لحكم العراق، حائرين في تصنيف يوم الخروج الامريكي من العراق، لان ليوم الدخول في 9 نيسان 2003 حديث ذو شجون، حيث اتفق وقتها كل من في مجلس الحكم بما فيهم حزب المالكي، على اعتباره يوم لتحرير العراق، وبعد ان قوبلت تسميتهم تلك باستهجان وسخرية العراقيين، كما حصل مع محاولة استبدال العلم العراقي باخر لا يمت بصلة للاول، غلسوا، وتراجعوا.
اليوم يحاول المالكي واخوته الاعداء في العملية السياسية الامريكية خلط الاوراق للتغطية على حالة الانهيار المنفلت بكل ما فيه من تناقضات ومفارقات ليقدموا انفسهم وكانهم محررين للعراق من الاحتلال الامريكي، لكن المالكي هنا يستدرك نفسه محاولا سد الثغرة الفضيحة حيث قال : اثبتت الوقائع صحة خيارنا لطريق المفاوضات كاسلوب مناسب لاستعادة سيادة العراق واخراج القوات الاجنبية منه، بنفس الوقت يطبل اعلام المالكي الى اهمية المصالحة مع الفصائل المسلحة التي كانت تقاوم القوات المحتلة، فانتفاء سبب حملها للسلاح بحسب المالكي يجب ان يجعلها تنخرط بالعملية السياسية، والمضحك بالامر ان هذا الاعلام يقر ضمنا بشرعية ما كانت تقوم به تلك الفصائل المسلحة، وهو نفسه الذي كان يوصمها بالارهاب ليخلط بينها وبين تنظيم القاعدة!
معظم الفصائل المسلحة التي قاومت الوجود الاحتلالي الامريكي في العراق تطالب بعملية سياسية وطنية، بمعنى انهاء حالة الاقصاء والاجتثاث والمحاصصة المكوناتية، والعمل على تدفيع الامريكان تعويضات للعراق عن الجرائم التي ارتكبت فيه، وهذه المطالبات المشروعة والمستحقة لا يقدر على تلبيتها المالكي حتى وان اراد ذلك، لان تنفيذها يعني اعادة صياغة دستور العملية السياسية القائمة، وهذه الاعادة ستفجر كل المفخخات التي وضعها الامريكان بتخادم وضيع من اعوانهم العراقيين، والتي ستؤدي حتما الى هبوط اسهم احزاب العملية السياسية القائمة للحضيض بما فيها حزب المالكي نفسه، وعليه فان المصالحة المعلنة هي محاولة للاحتواء وبنفس شروط اللعبة القائمة، وما يؤكد ذلك امعان المالكي بتكريس حالة الاقصاء بذريعة الخشية من عودة البعث، وعرقلة اي محاولة جادة لنبذ روح الانتقام والثأر وقطع الارزاق والاعناق الجارية بحق منتسبي الجيش العراقي الاصيل وبحق كل التشكيلات العسكرية والمدنية التي كانت قائمة في العراق قبل احتلاله، وهؤلاء يعدون بمئات الالوف من المدربين والمتعلمين، ولم يكتفي حكم المحاصصات الطائفية والعنصرية المستخلف في العراق، من منع اي محاولة لانطلاق مصالحة وطنية حقيقية بل راح يعمل وبخبث وكيدية لا تخلو من السخرية للنيل من اي محاولة للتنفيس عن الاحتقان القائم باحتواء المتضررين ضمن سياقات المحاصصة القائمة، خشية من قيام تكتل سياسي كاسح عابر للمحددات الطائفية والعنصرية.
حرب العراق كانت حرب غبية وسخيفة، هذا تقييم اوباما الذي على اساسه كسب شعبية كبيرة داخل وخارج امريكا، نفسه اوباما حاول عند استقبله للمالكي في واشنطن الابتعاد عن المحرجات المضحكات المبكيات، حيث قال لنترك تقييم ماجرى في العراق للتاريخ، ولنسعى لتحقيق انسحاب مسؤول من العراق، المالكي من جانبه لم يجد ما يقوله غير ان العراق قد نجح في الانتصار على الارهاب، ونجح في اقامة سلطة قائمة على انتخابات ناجحة!
المالكي في خطابه بمناسبة يوم “الوفاء” حاول وبطريقة تثير الشفقة عليه، ان ينجح فيما فشلت فيه المخابرات الامريكية، عندما حاول متبجحا الربط ما بين انشطة النظام السابق وانشطة تنظيم القاعدة، وهو لم يكتفي بذلك وانما اكد على ان كل الذين يعارضون العملية السياسية القائمة هم من الارهابيين وعليه فهم بعثيون وقاعديون بالاستعاضة، طبعا وان لم ينتموا، وهو يعني ان لا مصالحة مع من لا يتقبل العملية السياسية القائمة، والمضحك هنا ان نائب رئيس الجمهورية متهم بالارهاب وهو هارب من وجه عدالة دولة المالكي، ورئيس الجمهورية يمنحه الامن في اقطاعيته، وعلاوي يتهم المالكي بالارهاب لانه اعترف علنا بتستره على ملفات لمسؤولين ارهابيين، وقائمة المالكي تعتذر للرئيس بسبب اتهامات احد اعضائها ” حسين الاسدي” للطالباني بالارهاب لتستره على نائبه الهاشمي!
مسخرة تدور رحاها بين من هم اخس شئنا من الذين ينطبق عليهم وصف الارهابيين، والارهاب بعينه هو بقاء امثال هؤلاء متسلطين على رقاب اهل العراق.