جمال محمد تقي
لا يختلف اثنان في العراق على ان الجيش العراقي ومنذ انبثاقه الاول في 6 كانون الثاني عام 1921 كان تكريسا لانطلاقة الدولة العراقية الحديثة، فلم يكن هذا الانبثاق الا احد تداعيات ثورة العشرين التي شكلت تجليا عفويا للوطنية العراقية في خضم صراعها مع المحتلين البريطانيين الذين سبقوا الامريكان في رفعهم لراية التحرير كبديل مضلل عن مضامين راياتهم الغازية، فمثلما قال الجنرال مود القائد العام للجيوش البريطانية مخاطبا العراقيين في اذار 1917 : جئناكم محررين لا فاتحين، اعاد بول بريمر الحاكم المدني الامريكي للعراق عام 2003 القول نفسه، حرصا منه على تجنب الحرج الذي اصاب الاندفاعة الامريكية خاصة بعد افتضاح زيف الذرائع المعلنة لحرب غزو واحتلال العراق، وبعد ان صنفت الامم المتحدة نفسها الدخول الامريكي للعراق بالاحتلال الفاضح.
لم يكن قرار بريمر بحل الجيش العراقي ارتجاليا او تحصيل حاصل او مجرد خطأ اجرائي كما يدعي من استخلفه على حكم العراق، لانه كان ينسجم مع حزمة القرارات الاخرى التي طبقها بريمر ومجلس حكمه وعلى راسها خصخصة القطاع العام بل وخصخصة العراق ارضا وشعبا، وذلك باعتماد عقيدة التقاسم المكوناتي لحكمه وبالتالي خصخصة ثرواته وبما يتيح السيطرة عليها من قبل الشركات الامريكية ومن تحالف معها، فالاجهاز الكامل والشامل على القوة الضاربة للدولة العراقية بعقيدتها الوطنية المتحفزة بخبرتها التراكمية المديدة لمناطحة المتجاوزين، يجعلها تدخل مرحلة الفوضى التي ستخلق مناخا ملائما لطغيان الاستقطابات الطائفية والعنصرية، والتأقلم مع هذا المناخ بقوة الدفع الاحتلالي سيبرر لاحقا وعلى المدى المتوسط تقسيم العراق الى ثلاث كيانات ضعيفة وسائرة بالفلك الامريكي وان انسحبت جحافلهم منه بعد حين.
ما يشهده العراق الان هو امتداد لما خطه بريمر على مجمل اوضاع الدولة العراقية، فالدستور يعتبر العراق عبارة عن كيانات اتحادية، ولكل كيان حقه في اتخاذ قرارات تحمي وجوده بما فيها قرارات الدفاع الذاتي وخير مثال متبلور هو ما يحاصل الان في اقليم كردستان حيث وجود جيش كردي يخضع لقيادة الاقليم ولا يخضع لقيادة الجيش العراقي ” الاتحادي “، وقانون النفط والغاز الذي اعد منذ ماقبل الغزو ساري المفعول الان، وان لم يجري تشريعه برلمانيا، وكذا الحال بالنسبة لقوانين الحماية الاقتصادية للمنتوج الوطني الزراعي و الصناعي والخدمي حيث الغيت عمليا وبالجملة خاصة بعد ان اعتمد العراق الجديد قوانين وتوجيهات وتوصيات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وراح يتسول التماثل مع شروط منظمة التجارة العالمية، فالسوق العراقية اليوم مفتوحة على مصراعيها امام مكبات السوق العالمية، وهي سوق حرة في تدميرها لمقومات التنمية الوطنية!
الجيش العراقي الذي حله بريمر هو اكبر مؤسسة وطنية كانت قابلة للتحول من الاستهلاك الكمي الى الانتاج النوعي اضافة الى قيمتها الرادعة، فالقطاعات الهندسية المتفوقة في هذا الجيش بخبراتها العلمية والعملية الرائدة كانت جاهزة لانجاز المشاريع المدنية الكبرى في مجالات الري وشق الانهر وبناء السدود، ومعامله الصناعية ذات قيمة مدنية عالية فالكثير منها قابل للانتاج المزدوج، ومختبراته وورشه ومراكز بحثه واكاديمياته وكلياته كلها كانت ذخيرة حية لعراق متقدم علميا وصناعيا وتعليميا وخبرات تموينه وادارته مدارس في الكفاءة والرقي في التنظيم والانضباط.
بريمر ومن في مجلس حكمه اجتثوا كل هذه الامكانيات، واقصوا ولاحقوا وسجنوا وهجروا كل المنتسبين المتمرسين في مؤسسة الجيش العراقي الاصيل، وحلوا محله ميليشيات حزبية ترتدي زي موحد لكنها لا تمتثل لعقيدة قتالية واحدة، قوات مهلهلة بلغت اعدادها اكبر من اعداد الجيش الاصيل وهو في عز معاركه، قوات غير مدربة وغير خبيرة ولم يسلحها الامريكان الا بالاسلحة التي اكل عليها الدهر وشرب، اما عن التخصص النوعي والصنوف فحدث ولا حرج، فالكويت مثلا تسخر من بحرية عراق اليوم، ويكفي مطالبة العراق الجديد بحماية خليجية لسمائه مثالا على انعدام وجود طيران مقاتل وسلاح جوي حقيقي، فلا دفاعات جوية ولا رادارات فاعلة ولاقوة صاروخية تسور حدود الوطن!
لم ينتقم بريمر ومخابرات اسرائيل وبعض دول الجوار لوحدهم من مؤسسات وعناصر الجيش العراقي بل شاركهم بهذا الانتقام ميليشيات الاحزاب الطائفية والعنصرية المشاركة في العملية السياسية التي اقامها الامريكان لحكم العراق، وكان نصيب الطيارين العراقيين والمهندسين العسكريين وقادة الاركان كبيرا في حصص الاغتيال والمطاردة وهو بمقدار نصيب علماء العراق واطبائه واساتذة جامعاته.
برغم الغاء الخدمة الوطنية الالزامية وتحاصص نسب الانتساب الى الجيش المستحدث، فان هناك اعداد كبيرة من المنخرطين في صفوفه من ذوي الحمية الوطنية والذين يغارون على بلدهم وعلى استقلاله، وهؤلاء نواة لانبثاقة جديدة ستستكمل حتما تواصل الحلقات المتسلسلة لكينونة ورمزية الجيش العراقي الاصيل، وكلنا يذكر العديد من هؤلاء الابطال الذين انتقموا من جنود الاحتلال وقتلوا العشرات منهم اثناء وجودهم بالمفارز المشتركة او اثناء تواجدهم في معسكرات التدريب التي يشرف عليها الضباط الامريكان، وكانهم بذلك يستكملون اعمال المقاومة البطولية ضد المحتلين وعملائهم والتي يقوم بها ابطال جيشنا الاصيل المناضلين في صفوف فصائل المقاومة المسلحة.
عاشت الذكرى 91 لميلاد الجيش العراقي الباسل، هذا الجيش الذي لن تجزعه الصعاب على انجاز انبثاقة جديدة له، تواصل الخط الاصيل بالمستحدث الباحث عن الخلاص الوطني.