الواقع العربي: المثقف العربي من المهرجان إلى الانتظام والاشتباك


سوريا ملتقى الصدام ومحدِّدة المصير
[1]

(ورقة مقدمة إلى ملتقى المثقفين والأدباء العرب ـ قضايا ومواقف ـ دمشق)

عادل سمارة

حينما يتطابق سؤال اللحظة مع سؤال المرحلة نكون أمام إضاءة هائلة من التاريخ لا يمنحنا إياها التاريخ إلا لُماماً، لحظة لا ينكرها سوى من أصابه العشى أو جرى شراؤه بالاختراق وهذا يستدعي الاشتباك معه. كيف لا وهي لحظة المثقف المشتبك.

لعل السؤال المركزي في هذه الفترة هو: كيف آل حالنا إلى مآله هذا؟ كيف وصلت الدولة القطرية العربية ذات التوجه القومي الإنتاجي أو لنقل دولة البرجوازية الوطنية/القومية حدَها؟ ما هي الآليات التي أعادت الوضع العربي إلى معايشة تطورات تقود إلى قرار ما تسمى الأسرة الدولية باحتلال دول عربية ووصف ذلك بمسألة عادية أو حتى عمل إنساني كما لو كانت المسألة مجرد قيام الإنتربول بإلقاء القبض على لص دولي او قرصان؟ ولماذا يجري العدوان والتصفية ضد دول ذات توجه قومي بدأت بالعراق وليبيا وتتركز اليوم ضد سوريا؟ هذا مع التذكُّر والتذكير أن البداية كانت ضد مصر الناصرية (منذ تأميم القناة وبناء السد العالي واستدراك ثورة اليمن فالاقتراب من منابع النفط التي تحرق الأمة اليوم)، كما ان الجزائر على اللائحة شبه المعلنة؟

اما القطريات والكيانات العربية ذات منحى التبعية وتحديداَ “القومية الحاكمة/الدين السياسي” أي الأنظمة المعادية للقومية العربية من جهة والتي تستخدم الدين لأجل سياسة طبقية تابعة، تتحالف دوما مع جماعات “الدِين السياسي” التي تحتل الدين وتحتكره لصالح سياسة مخصصة لخدمة راسمالية محلية تابعة وفاسدة اقتصاديا “متطهرة ربما عند الصلاة فقط” فهي بالمعنى الفعلي محتلة بطبيعة أنظمة الحكم فيها ناهيك عن أنها دول بلا حريات ولا دساتير ولا ديمقراطية إضافة إلى الوجود الفعلي لقوى وقواعد الاحتلال الرأسمالي المعولم لها.وهذا بخلاف “ألقومية الكامنة قومية الطبقات الشعبية التي تعتمد الإسلام كإيمان وكتأسيس على الأمة العربية وليس ضدها”. هذه الطبقات الشعبية التي هي في التحليل الأخير وحدوية القناعات واشتراكية المصلحة.

وإذا كانت القوى القومية البحتة التي حكمت أو لم تحكم قد تورطت في أخطاء تطبيقية وسياسية وخاصة تجاه الفشل الوحدوي أو في مجال الحرية والديمقراطية، مما الحق الضرر طويل المدى بالمسألة القومية، فإن هذه الأنظمة والقوى قد حافظت ولا تزال على التمسك بعروبة فلسطين بما هي القضية الجامعة بلا جدال للبعد القومي العربي، وربما يتبدى هذا بأوضح أوجهه في الجزائر بكل من فيها. بدءاً بالمواطن في الشارع، وسائق الحافلة وصولاً إلى الوزير.

قد لا نبالغ في القول إن أخطر ما سقطت فيه بعض هذه القوى قومية الاتجاه سواء التي في الحكم أو خارجه هو سقوطها في إشكالية العجز عن فهم طبيعة دول المركز الرأسمالي المعولم اي النظام الراسمالي العالمي مما ورطها في سياسات طعنت القومية العربية بدءاً من قرار ناصر حماية الكويت ضد ضمها لعراق عبد الكريم قاسم 1961 وصولاً إلى مشاركة سوريا العدوان على العراق عام 1991. خطورة هذه المسألة تكمن في دخول دولة عربية في عدوان غربي إمبريالي على أو ضد دولة أخرى مما زرع في روع المواطن العربي تفكيكاً لوعيه وانتماءه القوميين ليحوله إلى قُطري الهوية بل واقل من ذلك. وربما نلمس ذلك في بهوت الشعارات القومية في الحراك العربي الحالي بانواعه وتناقضاته التي تأخذه بين النهضة والخطر بين الثورة الخجولة والثورة المضادة القاتلة.

كيف اصبح الكثير من المثقفين العرب دُعاة احتلال هذا القطر أو ذاك؟ بدل أن يكون المثقف قوة فكرية لتفكيك مفاصل خطاب الدولة القطرية، ومشتبكاً مع وجود المؤسسات الثقافية الغربية ومحرضاً ضد وجودها وضد من يحجون إليها لأغراض لا نعرفها! إن ما نراه اليوم من تأييد كثير من المقفين العرب لاحتلال ليبيا ولتخريب سوريا والدعوة لاحتلالها هو حالة مريضة سقطت حتى الخيانة. وإذا ارتكز بعض هؤلاء على حصول القمع وغياب الدقرطة أو الأذى الشخصي، فالسياسة ليست مسألة ثأرية باي معنى من المعاني من جهة، كما لا يجب معاقبة الوطن بأخطاء وانحرافات الحكام، وهذا ما يؤكد وجوب الدفاع عن سوريا اليوم لأنها مهددة كوطن وكموقف معاً.

وإذا كانت القومية العربية قد عانت من أهلها هكذا، فإن القوميين/الماركسيين العرب قد وقعوا في أخطاء خطرة تجاه القومية العربية حيث تبِعوا للأستذة السوفييتية والتروتسكية خاصة المضادة للقومية العربية. وابعد من هذا فقد ايدوا قوميات غير عربية في الوطن العربي، وهي قوميات لا ننكرها، لكنهم أنكروا وجود أمة عربية ووقفوا من الإسلام موقفاً متشنجاً كموقفهم من الأمة العربية، وبهذا التقوا مع قوى الدين السياسي وخاصة قيادات الإخوان المسلمين لنواجه “إخوان مسلمين وإخوان ملحدين” في تشابه طريف بينهما. وكل هذا تقاطع مع موقف الغرب الراسمالي من الأمة العربية ومن الدين الإسلامي[2] وليس الدين السياسي.

لا ضير أن نعترف اليوم بأننا قد وقعنا في أكثر من خطأ مفاهيمي وتكتيكي في قضايا مصيرية نحمل نحن انفسنا تلك الأخطاء ولكننا نرى اللحظة مؤاتية للتذكير بأن لأطراف كثيرة دورها في خلق أو ترسيخ هذه الأخطاء. فإلى لحظات قريبة لم نتنبه إلى الفارق بين الدين السياسي والدين الإيماني. فالدين السياسي هو لدى قوى وأنظمة تحمل الدين شعارا للوصول إلى راس المال والحكم ولا تكترث بالوطن بل تراه مكاناً وحسب، وهي في موقفها من الدين واستثمارها له لا تختلف عن الدين السياسي للصهيونية ولا عن الدين السياسي للمحافظية الجديدة لا بل تتحالف معهما لكنهما يختلفان عنها في موقفهما من الوطن حيث لا تفرطان بالأرض بل إن الصهيونية تتمسك بأرض فلسطين التي اغتصبتها!. وبصدد فلسطين، لقد وقع كثير من الشيوعيين العرب في خطيئة الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي ولم يتراجعوا أو يعتذروا في نقد ذاتي على الأقل، وهذا موقف تأسس، ويا للمفارقة على تشابه مع موقف/مواقف بدايات أنظمة الحكم في أكثر من قطرية عربية اسسها ودعمها المركز الرأسمالي الغربي! ويتقاطع اليوم مع موقف طبقة ومثقفي الكمبرادور ويتقاطع ويتحالف مع موقف قيادات في جماعات الدين السياسي تبحث في بطون التاريخ عن مبررات إشهار اعترافها بالكيان الصهيوني الإشكنازي ولكن ضمن إخراج على قرع الطبول وإشعال النار بما يأخذ الألباب.

أخطاء يُدفع ثمنها

فيما يخص الدول ذات التوجه القومي هناك العديد من الأخطاء غير ما ذكرنا ولكن ربما بوسعنا التركيز على التالية:

1_ التمسك بالانحصارية القطرية أو التحلق حول القطر باعتباره المطلب النهائي للبلد الواحد مما افقد القوى السياسية فيها بعدها القومي مأخوذة بالطبع بالانغماس في المصلحية الطبقية والفساد مما اضعف ثقتها بنفسها وثقة المجتمع بها، وبهذا النهج الاقتصادي انحدر كل قطر منها لصالح رأسمالية قطرية تلهث وراء اقتصاد السوق في طبعته اللبرالية الجديدة مكررة حلقات من التصحيح الهيكي وانسجمت، على غير دراية، مع الموقف القطري للشيوعية اللاقومية ومع الموقف العالمي اللاقومي للإخوان المسلمين، فكان أن خسرت الأمة، خسرت هي وربح أعداء الأمة العربية.

2_ عدم تبلور دولة عربية قطرية ذات مصلحة وقدرة ورؤية قومية تتجاوز كضرورة ومصلحة البعد القطري وتقاتله باعتباره عدوَّ مشروعها الجاد والمصيري, وفي هذا الصدد تحضرنا التجربة المصرية الناصرية والتي كان مصيرها الهزيمة عام 1967، بغض النظر عن تضافر خلل العوامل البنيوية الذاتية والعوامل الخارجية وخاصة العدوان الإمبريالي والصهيوني، والأمر نفسه في حالة العراق، والاستهداف الحالي لسوريا والمحتمل للجزائر.

3_ حصول استقلالات هذه الدول في حقبة القطبين حيث كان وجود الاتحاد السوفييتي كمجرد وجود حامٍ للدول الصغيرة والمستقلة حديثا عن الاستعمار، وهذا يعني ان فترة 1917 _1991 كانت الفترة الذهبية لحماية استقلالات بلدان المحيط التي خرجت بدرجة ما من قبضة الاستعمار العسكري المباشر, ولا نود هنا الإشارة إلى طبيعة الأنظمة وتوفر أو كونها ظلت تحمل قابلية إعادة الاستعمار بحكم انتماءاتها الطبقية مصالحها ومستوى ثقافتها وطبيعة ثقافتها…الخ إذن فقد ضمن وجود الاتحاد السوفييتي لكثير من بلدان المحيط فرصة الاحتماء من العدوان الخارجي وهذا اشعرها بقوة ليست في الحقيقة ذاتية بل مكتسبة بحكم طبيعة الوضع العالمي نفسه. وهذا الأمر الذي لا بد من توضيحه على الأقل اليوم لأن فيه تعبئة ضد الإمبريالية وراس المال وتعميق لمفاهيم الاشتراكية في مواجهة السلفية أو الدين السياسي المتعدد وخاصة الدين السياسي الإسلامي الأميركي والتركي والوهابي والإخواني. ولكن، علينا التذكر أن روسيا اليوم والتي تقف بصلابة حتى الآن مع سوريا، ليست الاتحاد السوفييتي، هذا ناهيك عن أن الاتكاء على الموقف الروسي حتى لو كان استراتيجياً، الاتكاء للتهرب من الإصلاح بل التغيير، هو أمر خطير جداً وإفشال لتجربة يمكن أن تكون جديدة في تطورات الوضع القومي العربي. بمعنى آخر، فإن سوريا جديدة اليوم متجاوزة الهجمة متعددة الطراف، هجمة العالميات الثلاث ستكون نموذجاً مختلفاً يجدد الأمة العربية نحو الوحدة والإشتراكية.

4_- ارتكاز هذه الأنظمة على الأمن في ضمان استمرار سلطتها وحكمها، اي التحول سريعا إلى دولة أمنية تحولا أعقب بسرعة نشوة “الاستقلال” واحتفالاته. وهو ما اغرى برجوازيتها بالضلوع في سياسات السوق والقمع الحرياتي معتقدة أن هذه حالة مؤبدة.

5- استطاعة العديد من بلدان المحيط تحقيق استقلالات ما عن الإمبريالية وخاصة عن الأوروبية التي تراخت قبضتها في اعقاب او بسبب الحرب العالمية الثانية حيث انشغلت أكثر في محاولات بناء اقتصادها وأخذت تتلقى الدعم الأميركي في خطة مارشال والتي كان وجهها الآخر وراثة هذه الاستعمارات وإن تدريجيا وبشكل ناعم وغير مباشر، وهو الأمر الذي لم تستغله الأنظمة العربية. وربما كان لعدم القدرة على استغلال هذا التراخي هو كون هذه الأنظمة كما الوطن باسره تحت الاستهداف الدائم.

يمكننا القول إن تكاتف العوامل الخمسة السابقة في انسجامها وتضادها لعب دوراً اساسياً في منع او تأجيل وصول هذه الأنظمة إلى حدها الذي رايناه ونراه.

هناك تطورات سلبية خطرة ترتبت على العوامل الخمسة أعلاه منها:

غياب الحريات كاساس للديمقراطية بابعادها السياسية والاقتصادية والثقافية وهذا الغياب هو ما يجب أن تخرج عليه وتتجاوزه تجربة سوريا اليوم.

ضعف وتخلخل النهوج التنموية التي كان مقصودا بها تحقيق درجة ما من الديمقراطية الاقتصادية كتعويض لغياب الديمقراطية السياسية، كي تبقى السلطة السياسية بيد الطبقة الحاكمة وكي تكتفي الطبقات الشعبية وكذلك الوسطى بتحسن اوضاعها المعيشية. لكن هذا المشروع التنموي لم يكن جذريا بما يكفي بل تمكن الكمبرادور من وأده مما زاد من الاعتماد على جهازي البيروقراط والأمن.

مع دخول المشروع القومي للأنظمة القطرية مأزقه باكراً منذ سبعينات القرن الماضي، ونظراً لكون الأزمة الاقتصادية هي المناخ المناسب للدين السياسي وهو الأمر الذي تفهمه جيداً الإمبريالية وتشتغل عليه، فقد حصل التزاوج سواء المباشر او غير المباشر بين نظام مصر السادات الذي لجأ إلى الإيمان وبين الإسلام الوهابي وهو الأمر الذي أشرف على ترتيبه المركز الراسمالي العالمي.

لقد فتح المناخ المذكور أعلاه فرصة واسعة إذن لاختراقين:

الأول: اختراق الدين السياسي ولا سيما في الأرياف وفي الطبقة الوسطى التي حظيت بالتعليم في حقبة ناصر والبعث ولكنها لم تحظ بفرص العمل فذهبت باتجاه قوى الدين السياسي التي تمولت من الريع النفطي وواصلت علاقتها السرية مع الإمبريالية الأميركية والأنظمة التابعة لها –وإن كانت قد اتقنت لفترة لعبة معاداة الغرب، بينما هي معادية للعلمانية مع أن حقيقة الأمر أنه هو الذي عاداها سواء لأنه يحتل الوطن العربي أو لأنه هدف اساساً ترويضها لامتطائها ضد الأمة مقابل السلطة، وهذا ما يحصل كما يبدو. ولذا تشن هجمة على التقدم والقومية العربية خاصة وتحت شعارات ديمقراطية !- وحظيت بالتمويل الذي ساعدها على حل مشكلة كثير من كوادرها.

والثاني: اختراق اللبراليين لا سيما مثقفيهم، فهم شرائح متخارجة تنقل دوماً جرثومة الاختراق الغربي بناء على ثقافتها وارتباطاتها من جهة وارتكازاً على انعدام المناخ الديمقراطي من جهة ثانية. فهم من طراز عدم الاستعداد للتصدي ومن ثم الاستعانة بالأجنبي والانتماء إلى مدرسته الفكرية ومن ثم السياسية فهم نموذج على التخارج أكثر مما هم جزء من الانتماء. وبالطبع هم مدرسة الاختراق الثقافي الذي من السهل ترجمته إلى الاختراق السياسي والأمني-المخابراتي ولا يختلف الأمر حين يكون ذلك بابحاث أكاديمية.

تجدر الإشارة إلى أن هذين الاختراقين يشكلان التحدي الأخطر اليوم وخاصة ضد سوريا فهما أحصنة طروادة للتدخل الأجنبي كما حصل في ليبيا وما نسميه “الهيمنة الثالثة ” اي عودة واستعادة الاستعمار عبر توفيره السلاح وتوفير الخليج النفطي المال لهذه القوى التي بوسعها إرباك الوضع الداخلي وربما بمساعدة تركيا والناتو عبر العدوان الجوي بوسعها تحطيم النظام والمجتمع وخاصة في سوريا. وهذا يعيد التأكيد على وجوب إسراع النظام في الإصلاح والتغيير.

لكن اللافت ان هؤلاء الذين رفضوا الأنظمة شبه العلمانية انتهوا إلى متحالفين مع القاعدة في ليبيا وسوريا وهم بالطبع أدوات في يد الولايات المتحدة، فاية جبهة هذه!. هل يرجع هذا إلى حدود استخدام الإمبريالية لهم؟ وهل هذه طبيعة اللبرالية عموماً أم هي اللبرالية التابعة من المحيط؟

بيت القصيد هنا أن جماعات الدين السياسي /الإسلاميين بشكل خاص قد تمكنوا من احتلال القاعدة الشعبية بشكل واضح وذلك ربما ل:

غياب او هزيمة التيارين القومي والشيوعي من الساحة بدءا بهزيمة 1967 وعدم التوجه إلى الشعب (في حالات الأنظمة) بمشاريع تنموية ووحدوية وأحياناً خطيئة القوى القومية والشيوعية بالانسحاب من الشارع انسحابا اساسه القمع لكن فيه بعض الطوْع.

رغم القمع على الإسلاميين إلا أنه لم يطالهم بنفس الاشتداد القمعي والامتداد الزمني من جهة كما ان المسجد قد عوضهم عن جزء او درجة من العمل العلني بل لم تحظر جماعات الدين السياسي إلا لماماً في معظم الدول العربية. أما القمع الذي طالهم فكان موجها ضد من يحاول السيطرة على السلطة السياسية.

توفر التمويل الخليجي الهائل ولا سيما من قطر التي هي نظام/سلطة الإخوان المسلمين في علاقة حميمة بالولايات المتحدة منذ أربعين عاماً. النظام الذي هو الأكثر اعترافاً بالكيان الصهيوني. لقد مكَّنت إمارة قطر المتغربنة/المتصهينة علانية، مكنت نفسها عبر سياسة رش الأموال بدءاً من فخامته وجلالته وشياخته وحتى من استطاع فك الخرف وكتابة كلمة. نعم فلنبحث في هذا جيداً!

اقتناع الطبقات الشعبية أن الإسلاميين افضل من انظمة الكمبرادور كأنظمة تابعة وهذا ما أكسبهم جمهوراً أوسع حيث تخيلت الطبقات الشعبية أن جماعات الدين السياسي هي ضد الغرب الراسمالي. ولكن كما نرى فإن الإخوان في مصر وتونس يعيدون بناء التحالف مع الغرب بوضوح ومع الراسمالية التابعة في البلدين ويعزفون معزوفة دينية للاعتراف بالكيان الصهيوني وهي معزوفة يحميها سلاح قيادات الجيش!

وبالطبع ترافق هذا مع الأزمة الاقتصادية الممتدة زمنيا واجتماعياَ.

تبدو الصورة هنا مختلطة بمعنى ان الخليج كان يمول الإسلامين مثلا في مصر وفي نفس الوقت يحافظ على علاقة جيدة بنظام مبارك. كما ان نظام مبارك كان يعطي هؤلاء فرصة شبه علينة ضمن اتفاق لا مباشر.

والسؤال: هل كان هذا بقرار أميركي أي هي التي تهندس هذه العلاقات؟ وهذا متروك لكل ساحة وإلى تكتيك الثورة المضادة في كل ساح وساح.

متغير بروز المقاومة

لعل المتغير الأساس الذي خلط الساحة بشدة هو وجود وتبلور وقوة المقاومة ممثلة بحزب الله والقوى الفلسطينية والمقاومة العراقية وكذلك وجود النظام الإيراني الذي وقف من الإمبريالية موقف التضاد باعتباره محاولة للإفلات من قبضتها وبناء قوة إقليمية قادرة على المواجهة والاستمرارفي احتضان المقاومة، ووقوف النظام السوري في جانب المقاومة.

هي صدمات 2000 و 2006 و 2009 التي فتحت عيون الإمبريالية بأن هناك قوة أخرى في المنطقة غير الأنظمة نفسها، وأن وجود المقاومة هو إحراج وكشف لهذه الأنظمة فكان لا بد إذن من تحول ما وهذا ما قد يفسر الاعتقاد بأن المركز كان وراء أو له يد في التطورات الأخيرة في الوطن. قد يكون كذلك وقد يكون الأمر هو قيام المركز بالتقاط الحدث كحدث مستقل عن مخابراته وعملائه ومن اخترقهم أي حراك محلي ذاتي فقفز الغرب الرأسمالي بقوى الثورة المضادة كي يتحكم بالتطورات، والثورة المضادة موجودة هنا قبل الثورة نفسها، وإن لم تكن فلماذا الثورة إذن؟ بيت القصيد هو أن المركز أدرك أنه في سباق مع الزمن سباق اللحظات الحرجة أمام تنامي دور المقاومة، والمقاومة رغم تلويناتها لا بد أن تصب في المشروع القومي العربي لأنه الوحيد الذي لا يعترف بالكيان والذي يعتبر الوطن نقطة الارتكاز التي لا محيد عنها. من هنا وجدت الثورة المضادة أن لا بد من وأد المقاومة.

في هذا الصدد علينا التذكر ان بلدان الريع من ناحية تمويلية والنفط/الريع من ناحية اقتصادية كانت جاهزة لتقديم كافة الخدمات المطلوبة ويبدو انها كانت قد أعدت من اجل ذلك. وإلا ما معنى ذلك الدور المنتفخ لحكام قطر بحيث يضربون في ليبيا ويهددون الجزائر وسوريا فمن اين للقط قدرة الأسد؟

نهاية مرحلة وحتمية المبادرة وإن دفاعاً

بمعزل عن ايها المؤثر المباشر هل هي قوى الشباب المؤسَّسة في مصر على تململ الطبقة العاملة لسنوات سابقة ام تحريك الإمبريالية، وبغض النظر عن أن مصر ما تزال في المرحلة لأولى للثورة من ثلاثة، فإن المنطقة لن تظل كما هي، بل هي الآن في أعلى لحظات سيولتها بهذا الاتجاه أو ذاك. نحن أمام صراع اللحظة ومحاولات وأد المقاومة وتصفية بقايا المشروع القومي العربي على يد الثورة المضادة سواء المركز أم الوهابية أو الدين السياسي أم اللبرالية وحتى اجنحة من الشيوعيين. فأي تحالف هذا؟

وكل هذا يتقاطع بالطبع مع مسألة هامة جدا هي دخول الإمبريالية نفق ازمتها التي تمتد وتشتد مما دفعها لصناعة الحرب بأعلى شراسة لحفظ الموقع. وهذا ما قد نفهمه من تخصص الولايات المتحدة منذ عقود في الصناعات العسكرية كأداة للتفوق والسيطرة أكثر منالا من السيطرة بالصناعات المدنية التي ينافسها عليها الكثيرون.

وإذا كانت الأزمة الحالية كاقتصادية ومالية قد كشفت عن بروز قوى جديدة في النظام العالمي ذات استقلالات اقتصادية وسياسية وحتى طموح قطبي –روسيا_، فقد كشفت كذلك كم كانت أنظمة النفط العربية وقيادات جماعة الإخوان كدين سياسي معادية للأمة العربية ومرتبطة بالغرب. فبدل أن تُستغل أموال الريع في محاولات لفك التبعية العربية للغرب طالما تراخت قبضة الغرب بسبب الأزمة، أو هكذا يُفنرض، قامت هذه الأنظمة بضخ فوائض النفط وصناديقها السيادية لإنقاذ المصارف الأميركية وتمويل عدوانها على الأنظمة العربية الوطنية كما حصل في ليبيا ويتم التجهيز له ضد سوريا والجزائر.

أما ونحن ندخل العام الجديد ورغم أن سوريا ما تزال في قلب المواجهة، إلا أن التطور اللافت والذي يجب أن يُبنى عليه هو تبلور مثلث الشعب والجيش والنظام. لقد قدم الشعب العربي في سوريا نموذج وعي وتمسك وتماسك وطني متقدم لم يكن سهلاً في مناخ الخطة والمؤامرة المعاديتين والمتعددة الأطراف. كما اتضحت قدرة الجيش على التماسك واستعداد النظام للإصلاح. ولعل هذه الحالة السورية هي التي دفعت ال بركس لموقفها المستمر وهي التي علينا بلورتها وتوسيعها على الصعيد القومي كمقدمة للنهوض الذي يفرض نفسه.

كل هذه العوامل تدفع باتجاه إعادة الاصطفاف مما يعطي قيمة كبرى لاستثمار صمود المقاومة.

الإطار التحليلي للاستعادة

1- المقاومة هي الآلية الأساسية لاستعادة الشارع (المختَطَف أو المقموع أو المخدَّر بأفيون الفتاوى والسوق لا فرق) إضافة إلى فضح ارتباطات القوى المتعاقدة سواء الدين السياسي و/أو اللبراليين واليسار المعادي للقومية العربية وبالطبع الكمبرادور وأنظمة الخليج التي تشكل حالة غريبة اجتماعيا ووطنيا وسياسياً. وهذا يفترض تشكيل جبهة واسعة متعددة من مختلف الأطياف لا تقف ولا تقتصر على دين وقومية وإن كانت ترتكز عليهما بمضمونها التحرري والتقدمي والاستقلالي والتنموي والوحدوي. إنها قوى الطبقات الشعبية من القوميين الجذريين ومن الشيوعيين ذوي الانتماء القومي. وهذا يشمل مختلف القوى المشابهة من القوميات والإثنيات المتآخية والشريكة جغرافياً وتاريخيا في هذا الوطن مع العرب. وفي هذا المستوة تحديداً يكون موقع وموضع المثقف المشتبك في مواجهة مثقف التلطي والتطبيع.

2- وفي هذا الصدد لا بد من كشف وشرح ان الإمبريالية تستميت لإبقاء تحكمها بالثروة وتوسيع التبعية وهي بهذا في تحالف قوي مع الدولة القطرية والصهيونية وهي تستخدم بالطبع الدين السياسي وقد تخرج بفتاوى تبرر وجود الكيان الصهيوني على ما يسمى تآخي الأديان! يجب أن يكون هناك اصطفاف شعبي ليس فقط ضد الراسمالية الغربية المعولمة، بل اساساً وميدانياً ضد كل من لا يعاديها، سواء وهو يعي ما يفعل أو لا يعي.

3- وعلينا كذلك تبيان ان الاعتداء على المقاومة هو انخراط في المشروع الصهيوني خطابا وتطبيقاً بهدف الحيلولة دون التحرير والعودة بل واحتلال مزيد من الأرض العربية.

4- ان الدين السياسي هو حرب مجتمعية على المرأة بشكل خاص، وعلينا نحن أخذ هذا الخطر بشكل جدي، ناهيك عن أن المرأة قوة اجتماعية حاسمة منذ إعادة الإنتاج البيولوجي وفي العمل وخاصة في الحروب الأهلية ولحظات التحول.

5- ان الثورة المضادة هي ضد كل مشروع تنموي اقتصادي اجتماعي وهذا امر لابد من شرحه كي تعرف الطبقات الشعبية أن ما هو مقبل في بعض القطريات العربية هي سنوات عجاف حتى لو لم تقم أنظمة ما بعد مبارك والغنوشي بفرض حياة سلفية على المجتمع.

قضايا مفصلية

أما والوضع العربي باسره على هذه الحال من السيولة التي تشتبك فيها الثورة والثورة المضادة، المقاومة والمساومة، الوطنيون واللاوطنيون، القوميون واللاقوميون، فإن فيصل الأمور يقوم على موقف كل طرف من حزمة قضايا اساسية:

فلسطين: لقد تعلمنا من العرب ونتعلم كل يوم أن فلسطين هي قضية العرب الأولى، هي عامل استنهاض ولكنها ليست قضية كل المسلمين الأولى. وعليه، فإن الإصرار على التحرير والعودة ـ وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني وعدم توقيع اية هدنة معه هي مفصل الموقف من فلسطين. وبذا يكون الفيصل في موقف اي طرف أو حزب أو دولة أو حتى فرداً هو في اعترافه أو رفضه الاعتراف بالكيان الصهيوني. هذا وحده الميزان الذهبي للفصل بين الوطنية والخيانة.

الوحدة: لم يفقد ولن يفقد المشروع القومي توهجه وضرورته رغم عديد الطعنات التي أصابته من الذات والآخر ولم تعد للدولة القطرية من مبررات سوى خطورتها.وعليه، فإن الموقف الفيصل الثاني هو الإيمان العملي بالوحدة العربية وهذا لا يستثني ولا يستعدي شركاء الأمة في الوطن.

الشيعة والمسيحيون والقوميات الشريكة: ونقصد هنا تحديداً أن العرب هم العرب شيعة ومسيحيين وسنة وغيرها. ومن يستثني أو يعادي أي عربي أو شريك غير عربي (وليس الصهاينة مشمولين هنا قطعاً) على اسس دينية أو طائفية…الخ فهو عدو للأمة ويصطف في خانة الإمبريالية والصهيونية وهو من الدين السياسي وليس الدين الإيماني. وينطبق هذا على من يعادي إيران على اساس طائفي.

المرأة: الثورة حياة والمقاومة حياة، ولا حياة دون المرأة، ولا حياة بتهميش المرأة وقمعها وعدم تحررها، وأية حياة أو ثورة لا تؤنثها المرأة كما تريد لا يُعول عليها.

آليات البدء.

1- هذه دعوة لتشكيل إطار في مستويين:

· مستوى خلق أطر/بؤر/تيارات فكرية سياسية منظمة في القطر الواحد أو الموقع الواحد قد لا تكون جماهيرية ولكنها مشتبكة بالوعي.

· ومستوى إطار عام عروبي تنسيقي من هذه البؤر أو الأطر تتجاوز القطرية إلى المستوى القومي للدفاع عن الوطن العربي، وفي اللحظة للدفاع عن سوريا بلا مواربة. وهذا يفترض البدء بإطار مشرقي وإطار للجزيرة وإطار لوادي النيل وآخر لبلدان المغارب العربي على أن يكون بينها تنسيقاً متواصلاً. لا بد من حوار ثوري موسع يتواصل دائماً ويحدد المواقف وينير الطريق، لا بد أن نأخذ المبادرة بمصداقية ليكون لنا تاثيرنا في الشارع العربي. ولكن سريع في اتخاذ القرارات، التوجه إلى مختلف القوى والشخصيات والمؤسسات والنقابات في مختلف الأقطار العربية لتحديد موقفها من التصدي للعدوان.

إن هذا العجز اللافت عن التواصل والتنسيق بين المثقفين والمفكرين والمناضلين العرب هو مدعاة خزي بلا مواربة. ومكمن الخزي هو في انحصار التواصل في اللقاءات والمهرجانات والمؤتمرات التي لم يترتب على لقاءاتها شيئاً.

2- بناء موقع/مواقع إلكترونية وصحفية لهذا التيار/الإطار لنشر الفكرة والحوار حولها وما يصدر عن هذه الجبهة والوصول إلى أكثر من موقع الكتروني للدعم.

3- تشكيل هيئة متابعة سياسية للتحليل ـ مطبخ سياسي ـ تقوم بذلك على اساس متقارب زمنيا، يحدد بالتشاور.

4- تشكيل هيئة فكرية تعد تقريرا تحليليا عن الوطن كل ثلاثة أشهر.


[1] هذه مقالة أولى من وحي زيارة للجزائر تطورت في نقاشات وحوارات خلال المؤتمر العالمي في الذكرى الخمسين لرحيل المناضل فرانز فانون سواء خلال عرض الأوراق أو الأحاديث مع مفكرين ومثقفين من الجزائر العزيزة وغيرهم من اقطار عربية وغير عربية.

[2] بين رفع شعار فلسطين وقف إسلامي وبين موقف إخوان مصر بأن الاتفاقات مع الكيان الصهيوني بما فيها الاعتراف به مسألة سيعودوا فيها إلى الشعب بين هذا وذاك مسألة تلاعب على الدين والحق والتاريخ فالحق في الأرض لا يخضع للاستفتاء الذي يمكن ان يتم بعد غسيل دماغ أمم بأكملها فهل يثستفتى شعب في أن وطنه له أم لغيره؟ إن شغلا كبيرا يُدار اليوم لتجريد حركة حماس من موقفها من الكفاح المسلح تمهيداً للاعتراف بالكيان.