في رحيل شيخ المناضلين الفلسطينيين بهجت أبو غربية:

أمَّا وقد مضيت…والتطبيع في ربيعه

رسالة إلى بهجت أبو غربية

عادل سمارة

قُرابة مئة عام هُنَّ بألفٍ أو يزيد، قاتلت أنت دفاعاً عنها بين بنيها ضد بنيها، وما مللت ولا وهنتْ. رفضت عروض التيجان والصولجان والفخامات، ونمت قرير العين في غرف الإسمنتِ. تعبوا منك ولم تتعب أنت منهم. لم ارك قط إلا واقفاً هدوء الجبال متماسكاً بينما تفر قيادات من الزناد إلى الأعشاش والمخادع رافعة شارة النصر بالرقم السابع، ما اكثر المعنى والدلالات لهذا الرقم اللعوب.

تمدد الآن في عينيها الجميلتين، وانظر إلينا فنحن ننظر بعدُ إليك سنظل ننظر إليك. لم تنسحب أنت من حضن كفاحها، لكنه الموت القتل الجراح الزنازين التي تعبت منك، ولكن أنت تعبت منا. فانزويت قليلاً إلى عينيها وبقيت فينا. ساقول لك، حتى في لحظة الموت، إني احب العيون.

ملاحظة: (حين أخذني إلى منزلك في عمان الرفيقان موفق محادين وعبد الله حمودة قبل عقدين وقالوا، نأخذك نقدمك إلى عميد الموقف، عنده نقرأ انفسنا لنرى هل ضللنا البوصلة؟) قلت لنفسي التي لا تجيد اللؤم ولكن لا تجيد النسيان: وهل هناك من هؤلاء! لكن طريقي صارت إليك كلما اسعفني الخروج من ذلِّ الجسور الذي صار ثلاثياً.

كنت تفتِّش وعيي عن كل ذرة تراب من فلسطين، من استشهد ومن ناضل ومن ساوم ومن باع ومن طبَّع، ومن صمد مصلوباً على عامود النار؟ وكنت دوماً تفجأني: أبداً ما هزُّك سقوط هذا وسقوط تلك. تستقبل كل شيىء وبهدوء تأخذ كل شيء.

إلى آخر ما عهدتك لم يغادرك وعيك، ولم تُصب الرؤية ظلالاً وإن تهدَّل الجفن على حزن من العمر الذي طال مع الجراح ولم تعد الديار ولا عُدت أنت إلى القدس.

أما وقد أخذت في جيب لباسك المهندم دوماً بعض الدفاتر والحبر والذاكرة. لذلك قل لي:

هل تابعت وقرأت ملِياً عامنا هذا الأخيرُ؟ هل تخيلت مثلي هذا الصراع الذي ما حلمنا به أن يكون اليوم على الأقل؟ هو الضد والضد معاً يمسك هذا بخناق ذاك، هو الشعب يسترد لقمة الكرامة، من المال وراس المال فينتصب الغرب ليقرأه بالاستشراق ويرميه بالناتو محمولة على البعارين التي قفز بها الغرب من أو قفز عليها الغرب امتطاء وجِماعاً من بحث القبيلة عن الكلأ إلى الاقتصاد الجديد للشركات مخترقة عذرية كل القوميات والجنسيات، فما مروا بالمرحلة القومية. هي الثورة المضادة اولاً هنا، تتربص بالثورة ثم تنفجران ببعضهما.

كنتَ أعلم مني بالاختراق والمخترقين والمخروقين وخارقي انفسهم/ن طوعاً وحتى لا طمعاً! ولكن هل علمت كم راكم غاز قطرٍ ونفط بني سعود من سيالة المال، أرقام الرَيْعِ، التي وصلت القدس ودولة اوسلو-ستان؟ هل سمعت كم من “المثقفين والبلداء والهبيين والمرتدين مراراً والمتهالكين حتى عن حمل الريشة” يعتاشون اليوم على غاز قطر وآل سعود ودولة الإمارات؟ إنه طوفان فهدٍ وحَمَد، وكل بغيٍّ وولد. لذا، هل سمعت يوماً اي نقد من قادة م.ت.ف أو قادة حماس لأهل الغاز والمال والنفط رغم أنهم يقودون التطبيع على البعارين!. فاين سفينتنا يا سيدي! اليوم يعيشون على ما يدلح لهم من مال قطر، كنت هناك في عمان تمر على التطبيع قراءة وسماعاً وتخشى من الوطن البديل وتخاف على الوطن البديل، ولكن يا سيدي نمر بالتطبيع هنا من الباب إلى المحراب، من تحت الجفن، ومن جدار العزل ومن حبر الصحائف. صار التطبيع نشيد الصباح في المدارس ترجمة لنشيد الإنشاد، صار حوار المسارح، غزل العشاق. يتنقل قادة التفاوض من عمان إلى هرتسليا على بساط الريح، وتُدافع عنهم اقلام الرجال وحتى بعض اقلام النساء! يا لبؤس المرحلة وكثر أوغادها!. وهرتسليا يا ابا سامي هي مخدع عشاق المال المزدوج. هي عرش الطبقات، والكون طبقات حتى في الجنة طبقات. هي مكان عِلية القوم بالمعنى المالي والصهيوني، أما بُغاث القوم مفاوضي الثقافة فيلتقون في الكيبوتسات. لا باس طالما هناك الكلأ والماء والجنس والمال. يلتقي هناك صهاينة العرب وهناك تغتسل نساء من عروبتهن. سلام عليك يا ليلى حين رفضت حمل الطبق إلى أم الملك! أليس العالم طبقات حتى الخيانة؟ أليس فارق طبقي بين من يتبرع بثلاثة أرباع فلسطين وبين من يتكوَّم على مكتب في الكنيست، ومن يتبرَّع بمساحة للكيبوتس كي يسكن شقة بالإيجار! الفارق في الموقف والمبدأ.

كنت سأُهديك كتابي :”التطبيع يسري في دمك“. كنت ستضحك حين ترى اسم هذا الوليد المعجون بدمي. هل يفاجئك أن هذا الوليد يقرأ التطبيع من يوم ميلادك 1916، ويوم سايكس-بيكو، إذ خُلقت أنت ضدا للضد. هذا اليوم يتوالد من جديد. كثيرون كثيرات يرعون ربيع الصهيونية يتلحفون بضفائر يافا. ييروزون حنظلة في الصالات ويحملنه قرطاً في الأذنين وما بين النهدين، ويدعْن بقايا الأجساد للتطبيع.

لست أدري إن علمت في زمانك الأخير، هل نقل إليك الرفاق ذلك أم قالوا: نريحه في اللحظات الأخيرة على الأقل: هل قالوا لك أن هرتسليا صارت مكان تقديس الحجيج النفطي بديلا للقدس، وان مفاوضي التسوية يلبسون هناك مراييل التطبيع. تحرسهم جنود دايتون وجونز، ونحن لنا الله الذي لم يعد يلتفت إلينا في اتحاد الكتاب لأن بيننا وطنيون وقوميون وشيوعيون! لك الله يا الله، ألست أنت خالق كل هذا! ألسنا نحن الأفضل من رأس المال وعباءات الخليج التي تغطي كل تلك الخناجر ضد الأمة، السنا افضل ممن يكتبون كل كلمة ببرميل نفط، فبضوا من مذبجة طرابلس الغرب ويقبضون سلفاً قِوادة على دمشق الشام وكله باسم شطارة المثقف ونعومة مشاعره وخشونة الديكتاتور بشار الأسد. نعم ما أوسع الفارق بين السد الذي لا أحب، وبين حَمَدْ الذي احتقر. متى ستفهون، لا داع!.

هل قالوا لك أن سويسرا بلد لصوص المال قد ولدت مبادرة سفاح معولم لا أممي تُهدي فلسطين للإشكناز. هي مبادرة جنيف لتمسح “تحرير فلسطين وحق العودة” وليبق اللاجئون في مياه المجاري، فماذا غير هذا يليق بفقراء إن لم يثورا!. هل قيل لك أن فلسطينيي مبادرة جنيف هم في أرفع مناصب منظمة التحرير بما فيها من يمين ويسار؟ كم مرة كان سينفجر ابو الميساء لو عاش هذا الزمان! كنت حكيماً يا حكيم فرحلت ابكر ما وسعك الوقت ملاحظة: (هل لاحظت ابا سامي أن رحيلك ورحيله يوم 26).

هل تخيلت أن يكون عضو في مجلس يزعم تمثيل الشعب بنيما يطير إلى جنيف لتنقيح المبادرة كما لو كان يسعى بين الصفا والمروة مرفوع الرأس! ثم يقول: ذهبت وسعيت إلى هناك وحدي…والله لم تعرف القيادة بي ولم تدفع لي التذكرة، لذا بادرتُ أنا العبقري الذي يرى القادم وأنتم لا ترون! صرت أصدِّق هؤلاء فطاقية الإخفاء الجديدة تستعصي على الجن والإنس من العرب، خاطتها حريم البيت الأبيض من عاشقة بيل كلنتون (ابنة مولينسكي) إلى حرمه هيلاري فكانت بيضاء الخيوط لا تقرأها الشمسُ ولا تبين إلا على شاشات اللاب/ توب خاصة البنتاغون. ولكن شتَّان بين لباس الإحرام في الحرم المكي، وبين التعري في برد جنيف.

ما عهدتك تتعب، ولكن ما يجري يأخذ يُغري بالموت حقاً. (آهٍ يا ابا الطيب: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا) أما وقد رحلت. اسمح لنفسي أن استغل تقييد يديك بالكفن الجميل لأفتح ثغرة عند أذنك اليمنى، لا، لا بل اليُسرى، فأنا لم أتغير لأقول لك: قال لي أمس رجل: الناس تتغير. نعم أمس بالمعنى الحرفي لأرقام الزمان الصغير، اقصد الأيام، في الزمان الطويل، اقصد التاريخ. قلت نعم، ولكن شريطة أن تتطور.

ما أكثر من يتغير وأقل من يتطور فالعبرة إلى اين! تغير حق العودة إلى حق الدولة، والمقاومة إلى المساومة، والكنيست من بيت الجريمة إلى بيت العدل الإلهي. حتى الأفراد تغيروا. ستقول لي، هذا مفهوم وأعرفه قبل انتقالي إلى دور المراقب. ولكن هل سمعت أن المتصهين يتغير؟ ستقول كيف؟ سأقول لك يمكن للمرء أن يقول بأن العودة حلم رومانسي، لا بل إن هذي الأرض لشعب الله الأبيض وحده. ثم يعود هذا ويقول: لا باس نحتجز لكم شبراً في هذي الأرض لتموتوا فيه فالموتى سماداً؟

ليس الأمر هذا ولا ذاك. الأمر أرقى وأعلى. الأمر هو التاريخ، الأمر فعل الإنسان بما هو الزمان في الواقع، الأمر دوماً إلى الأمام، ورِجعات الخطى الصغيرة إلى الوراء ليست المقياس، بل الاستشناء والاسترجاع الذي لا بد منه لمواصلة السير إلى الأمام. هذه حكمة الديالكتيك التي تفسر حركة التاريخ. بين الالتفات اللحظي الحذر إلى الوراء وبين الرجوع إلى الوراء تتمدد مسافة ما بين النقيضين اللذين لا يلتقيان بل يتصارعان إلى النهاية ليولد نقيضين آخرين.

أما وقد مضيت، فلن أقول ما لا يقول أهل المال (عبيد المال) والحالمين بالمال، ( عبيد العبيد) يقولون في مَن يرحل: ماذا اخذ معه؟ كم أُشفق على اللغة أن تحمل هذا الكلام الطارىء على جمالها وطهارتها! هل ترى كيف تلاحقهم السوق إلى المقابر! يتمنون لو ان مال الخليج هناك مُتاحاً. ومال الخليج ينصب في خلجان الرجال وخلجان النساء ممن باع وتاجر وهاجر وساوم وتصهين!

السؤال يا سيدي الجميل في الكفن: ليس ماذا اخذ معه؟ بل ماذا ترك للناس؟ أنت تركت مجداً وصموداً وطريقاً للوصول. فلا نامت أعين المطبعين/ات.