جمال محمد تقي
اذا تجاوز الصبر الحدود، عاد بمردود يعتبر الموت جود من الموجود، ينتحرون، يتهتكون، يهربون لعالم مسكون بالمطلقات الطوطمية، يحجبون انفاسهم عن ملامسة واقع فاطس لا يبعث الا على الغثيان المميت، يتدروشون، يتخدرون، يتفجرون، يترنحون ويتقلبون ويتلوون حتى يجدوا انفسهم مجترين لدورة الحياة الميتة ذاتها!
تحترق اجسادهم وهي تتنفس هواءا منتهي الصلاحية، تتزوهر اكبادهم من بثول ماء وغذاء ودواء لا يصلح الا لتسميم الزواحف السامة، صارت اجسادهم عوامل تساعد على كل انواع الاشتعال لما تحمله من وقود اشعاعي، يهاجرون زرافات زرافات مشيا ولطما وعبثا بالجسد الفاني، وطمعا بحشر ينفلت من عقال هذا الوجود القاتل، يفصلون بين ارواحهم واجسادهم بغريزة صعود الارواح الى رحمة باريها ويدعون اجساهم تلاقي ماتلاقي في عالمهم السفلي هذا!
تتعملق مقبرة السلام في النجف الاشرف، والتي هي اكبر مدفن في العالم المعلوم، ويتقزم امامها العمران الحي في كل احياء العراق الغائصة باجواء الموت، مدينة المدافن تلك اصبحت قبلة للتنفيس، فالاحتباس الحي يدفع باتجاه الهواء الطلق، حيث الراحة الابدية!
لا يمر يوم او ساعة دون ان يهرب للموت او يهرب اليه العشرات من العراقيين، ليس الموت “موت الله ” وانما موت بحيلة “الجني” الذي ركب العراق منذ ان حوصر واحتل وتفصفص!
في السليمانية ودهوك اعتاد الناس هذه الايام على سماع اخبار النسوة اللواتي ينتحرن بحرق انفسهن، اما الشباب فبشنق النفس او باطلاق الرصاص عليها!
لا تمر جمعة دون حفلات الاعدام، والتي يسجل بعضها في سجل وزارة العدل ولا يسجل اغلبها لان المنفذ بهم الاعدام معتقلين او مخطوفين غير مسجلين، فالسجون والمعتقلات السرية هي ساحات للتعذيب حتى الموت، والهرب منها هو الحل الوحيد للبقاء على قيد الحياة حتى لو كان ثمن الهروب هو الموت نفسه، الموت هربا اقل قساوة من الموت تحت التعذيب!
اهل الفاو لا يملكون الا ان يشربوا من الماء الماج بملوحة الخليج، واطفال الفلاحين في البصرة والناصرية والمثنى والقادسية لا يملكون الا ان يلعبوا ببقايا ما دمر من دروع عراقية صهرتها قذائف الامريكان المشبعة باليورانيوم المنضب!
الحصة التموينية على تدودها تنقرض شيئا فشيئا، هذه الحصة الوحيدة التي كان قد خرج بها المواطن لنفسه كمواطن بلا هويات اخرى من بين كل حصص المتغانمين، يراد لها الاعدام بحسب توجيهات البنك الدولي وصندوق النقد الذي تقترض منه حكومة المحاصصات عندما لا تجد في حسابها الجاري نقدا سائلا يسد عطشها الفاسد، البنك والصندوق الدوليين يمليان شروطهما بديباجة النصح والارشاد، وليس على الحكومة غير السمع والطاعة، فلا زيادة في سلم الرواتب الخاصة بالموظفين والعمال الذين تصر الحكومة على تسميتهم موظفين، ولا دعم لاسعار المحروقات، ولا اعادة لتأهيل القطاع العام بل الدفع باتجاه خصخصته، كل هذا مع الانفتاح الكامل على سوق الاستثمارات النفطية العالمية وبلا قيود، البنك والصندوق يتدخلان حتى في رسم ملامح الميزانيات الهزيلة للحكومة، من منطلق ان كل واردات العراق النقدية مازالت خاضعة لوصاية البند السابع وتلك الواردات توضع ببنك تنمية العراق الامريكي، فالعراق ليس سيدا على وارداته لان اذونات الصرف تقدم من البنك المركزي العراقي لبنك تنمية العراق هذا!
قررت الحكومة وبعد احتجاجات شعبية واسعة على تدهور الخدمات العامة والحضيض الذي وصلت اليه نتيجة الهدم والاهدار وانعدام الكفاءة والنزاهة وتفشي الفساد وانتشار حكايات العقود الوهمية والمشاريع الوهمية والوعود الوهمية، ان تنفذ برنامجا انفجاريا لتلبية مطالب المحتجين خلال مئة يوم، مرت المائة يوم ومرت المئات من الايام، ولم يتحقق شيء يذكر، سوى النجاح في شنق حركة الاحتجاج ذاتها وحتى الموت!
الصبر لا يجدي نفعا مع من يجعل القبر مفتاحا للتفريج عن كربة الوطن والمواطن، لا يجدي نفعا غير ارسال حكومة المحاصصات الغنائمية وعمليتها السياسية ذاتها الى القبر الذي لا يزار، لتستعيد الحياة روحها في العراق.