سيولة في المفاهيم وميوعة في الرؤى !

عبداللطيف مهنا

يكاد العرب، كل العرب، لا يجمعون في هذه الأيام إلا على أمرٍ واحد، وهم اللذين لم يعرفوا، في عقودهم الأخيرة على الأقل، بأنهم قد أتفقوا على شيء كان عليهم أن لا يختلفوا عليه. هذه المجمع عليه الآن هو مرورهم جميعاً بمرحلة عاصفة من التحولات غير المتضحة الوجهة أوالنتائج، أو ربما مرورها هى بهم، لعلهم قد أكثروا، وجميعاً، من تكرار توصيفهم لها بالمصيرية والتشديد على خطورتها. لكنما، كلٍ قد قارب الموصوف من موقعه ووفق رؤيته ومن حيث تخندقه، إذ تظل الفرقة هى كالعادة سيدة المواقف حتى على المصيري وحيث مفترض الإجماع على مواجهة الخطر. لكن الأدهى في هذه الآونة هى السيولة في المفاهيم. هذه ألسيولة التي تقلب فيها المصطلحات على رؤوسها، وتسحب من ورائها الميوعة في الرؤى، ولا تسلم منها حتى ما كانت لعقود خلت تعد المسلمات، أو تنجو منها ما كانت تعد أبسط القيم. وبالتالي، لم تعد هناك من حصانة لقضية ولا من ثبات لمبادىء، أو، كما يقال، بات يختلط حابلنا بنابلنا، الأمر الذي يصبح فيه الثائر بلطجياً والمقاوم إرهابيا، والإرهابي ثائراً والعميل مناضلاً، والعدو صديقاً والصديق عدواً، ويعد استدراج التدخل الأجنبي تحريراً، بل وتغدو الخيانات لأمال وأحلام وتضحيات الأمة وجهات نظر لاتعدم من ينافح مدافعاً عنها ولا يستحي بل يفاخر بمنافحته !

أنه ما من عفوية هنا، فللأكمة دائماً ما وراؤها، ولعلها حالة هى في غالبها إستجابة أونتيجة لضخ مبرمج ومدروس ومبيت تصطف من خلفه كافة القوى المعادية والمتضررة، داخلاً وخارجاً، من هذا الجيشان الذي ينذر بعاصف من التحوّلات التي تمور في باطن الأمة، أو بادي إرهاصات لنهوض لها بات يلوح بعد تمادي تغييب وطيلة غيبوبة، فكان لابد لهذه القوى من محاولة الحيلولة بينها وبينه، أو على الأقل، إن لم يتسنى إجهاضه فحرف بوصلته أو التحكم في مساراته، ذلك إما بركوب موجاته أو اللإلتفاف عليها…

لناخذ مصر مثلاً، بإعتبارها كانت وتظل قاطرة الأمة، إن سلباً أو إيجاباً، نظراً لحجمها وثقلها وموقعا وتأثيرها ودورها في سيرورة أمتها، وكمثال حي وراهن لمثل جاري هذا التحوِّل وتعاظم أخطارمضاضداته في آن، هاهي مصر التي تعيش مخاضها الثوري القاسي يحاولون تدويخها وسحبها بعيداً عن أولوية ترتيبها المستحق والأنجع لأولوياتها وترسيخها الضرورة لأسس ومنطلقات وأهداف ثورتها واشتقاق سبل حمايتها مما يحاك لها، ذلك بأغراقها في لجة من تفاصيل تشاغلها لتستنزف زخم توجهات ميادينها الثورية وتبهيتها…

مثلاً، في هذه الآيام يشغلون مصر بتفصيل، لا نقلل من أهميته، وهومسألة ما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني ذات الهويات والأجندات الأجنبية، أو المتلقية للتمويل الأجنبي، والتي كانت قد فرَّخت بالمئات في حاضنة مصر ما بعد كامب ديفيد، ونشطت تحت مسميات إنسانية وخيرية مختلفة، وما من سر في أن غالبها من تحركه وتوجهه مصالح وأجندات واستخبارات اجنبية غربية وفي المقدمة منها الأميركية. لعلنا لسنا في حاجة لمناقشة هذه المسألة مثار كل هذه الضجة عقب قرار بمنع بعض ناشطيها الأجانب من السفرقيد التحقيق معهم لتجاوزات تمت ومخالفات أرتكبت للقوانين المصرية، فهى معروفة، لاسيما وأنها حالة مزمنة ويعلم القاصي والداني بأنها لم تكن حديثة العهد وكانت في حكم المسكوت عنه، وعليه، فلعل توقيت إثارتها الآن هو اللافت. وإجمالاً، المسألة الآن غدت مادة جدل محتدم أججته تهديدات الكونغرس الأميركي بقطع المساعدات عن مصر إذا ما تم التحقيق مع أبطالها أو استمر منعهم من السفر، وما من عارف بطبيعة مالكي القرار في هذه الحقبة المصرية الإنتقالية لا يتوقع لف القضية بسهولة بعد إستنفاد الغرض من إثارتها، لأن الولايات المتحدة ليست في وارد قطع المعونة لأنها ليست في وارد التخلي عن أمن ثكنتها المتقدمة إسرائيل وبالتالي ليست في وارد التخلي عن كامب ديفيد… هذه الإتفاقية التي هي أم الإنتهاكات للسيادة المصرية، والتي أقل ما يمكن قوله فيها أنها من إغتالت مصر الدور والريادة والقيادة في أمتها، وشكلت في بائس العقود التي تلتها مذبحةً كبرى للإرادة السياسية للأمة العربية، والحقت الكوارث بقضيتها المركزية في فلسطين… وأخيراً، هي التي أوصلت مصرالى راهنها الذي تثور الآن عليه.

من أسف، أن مثل هذا الكلام هو المسكوت عنه من قبل الجميع، إنتقاليين، وقادمين للسلطة بعد فوزهم في الإنتخابات، ومرشحين للرئاسة على إختلاف ألوانهم ومشاربهم، وبقدرما ثوار الميادين…من هنا فالمفارقة تكمن في ان إثارة المسألة برمتها، التي جلبت التلويح الأميركي بقطع المساعدات، قد تمت بقرار من قبل المجلس العسكري، أي القائمين على المؤسسة التي تذهب إليها معظم هذه الهبات المشروطة بكامب ديفيد، أو الذين هم بدورهم ليسوا في وارد التخلي عنها ولا عن المعاهدة، الأمر الذي يعني أن هذا القرار لم يتخذ غيرة من العسكرعلى السيادة الوطنية، وإنما لتلميع صورتهم التي بهتت شعبياً وغدت مثارنقمة ثوار الميادين بعد عام من الثورة التي اسقطت رأس النظام فكان أن حافظ أداء مجلسهم على الجسد المقطوع الرأس كاملاً ودونما نقصان !

في حوار متعلق بالحدث شاهدته عرضاً على شاشة فضائية مصرية لبرالية التوجه بلمسة فرعونية الهوى، ضيفاه نائب يساري وشخصية معروفة برياديتها في مجال العمل المدني والدفاع عن حقوق الإنسان، إتفق الضيفان على إطمئنانهما لإستمرارية المساعدات بسبب من حرص الولايت المتحدة على مصالحها التي “أولاها وآخرها كامب ديفيد”، واستغل النائب المناسبة ليغمز من قناة الإسلاميين معقباً على كلام لمرشد الإخوان المسلمين قال إنه فيه ما معناه، إن قطعوا عنا المساعدات فسوف نعيد النظر في إتفاقية كامب ديفيد… النائب في برلمان ما بعد الثورة يؤكد أنه “مبدئياً مع كامب ديفيد” ويعتبر العلاقة مع الولايات المتحدة “مصلحة متبادلة” ولكنه يعيب على المرشد ان يحسب المسألة على هذا النحو : فلوس مقابل إتفاقية… أخطأ النائب والمرشد… لا مصر ستستعيد مصر ما دامت في آسار كامب ديفيد، ولا دور لمصر بدون إستعادتها لعروبتها… لا مصر بلا عرب ولا عرب بلا مصر، ولا عرب ولا مصر بلا فلسطين…