لبنان

“جمهورية الشخص الواحد”…… وسياسة التعطيل

العميد اللدكتور امين محمد حطيط


عندما اقرت التعديلات الدستورية اثر اتفاق الطائف المعتمد في العام 1989، ظن اللبنانيون انهم بصدد اقامة دولة ذات مؤسسات تعمل بانتظام وتتوالد من انتخابات يقرر فيها الشعب ما يريد، ويستجيب سلوكه لمقتضيات الديمقرطية واقامة السلطات الدستورية التي تكرس مبدأ الفصل بين السلطات وتفسح المجال امام تطبيق قاعدة ” السلطة تحدها السلطة “، دونما طغيان مؤسسة أو شخص في مؤسسة على اخرى. وكان طبيعيا ان تقيم التعديلات الجديدة حدودا للسلطات وتمنع قيام الحاكم – الفرد وتدفع باتجاه قيام مؤسسات الرقابة الدستورية والقضائية الفاعلة التي تمنع التجاوز.


لكن حلم اللبنانيين ويا للأسف ضاع على أعتاب سلوكيات ” المتصرفين الجدد” وأُدخِلت الدولة – أو شبه الدولة لاننا لا نرى ان لبنان انشأ دولة حتى الآن – أُدخِلَت في متاهات وانفاق يُعرف اولها ولا يُدرك آخرها. والسبب في ذلك يعود الى امور ثلاثة : الاول ثغرات في الدستور، والثاني سوء في الممارسة، والثالث انعدام المساءلة والمراقبة بسبب الحصون والكهوف الطائفية. واذا كانت مسألة السلوك والتحصن الطائفية تتطلب لمعالجتها وقتا وتستلزم ثقافة وبنى رقابية ناجعة، فان المدخل للاصلاح برأينا يكون من باب الثغرات الدستورية التي يجب ان تعالج وهنا نسجل :


1) وهن النصوص التي تحمي المجلس الدستوري الذي اولي صلاحية حماية الدستور خاصة لجهة بت طعون الانتخابات التي تنبثق عنها السلطات والتحقق من دستورية القوانين، وفي غياب نص يمنع السلطة التشريعية أو التنفيذية من التلاعب بتكوين المجلس الدستوري وفقا لمصالحها، استطاعت اكثرية نيابية جاءت نتيجة انتخابات طُعِن بنزاهتها ان تستبق حكم المجلس الدستوري القائم وتحله، وتعطل امكانية تدخله في بت الطعون، ثم ولانها هي الاكثرية في مجلس النواب وهي الممسكة بقرار الحكومة، عينت مجلسا دستوريا جديدا يحميها. وفضلا عن ذلك زخرت الفترة التي تعطّل فيها المجلس هذا، زخرت بتشريعات تشوبها الثغرات التي كان من الممكن إبطالها بسهولة امام المجلس، ولكن في غياب نص يمنع التشريع في حال تعطل المجلس الدستوري، كما هو الحال في اكثر الدساتير العصرية (اوروبا وايران) نجد ان الاكثرية النيابية، ومن غير ان تمتلك الثلثين، استباحت نصوص الدستور وشرعت على هواها. الامر الذي افرغ فكرة اقامة المجلس الدستوري من محتواها، وهو امر قابل للتكرار في كل مرة يأتي التزوير وعدم الشفافية باكثرية نيابية يفرضها واقع مصطنع ويخدمها مال سياسي.


2) ضبابية النصوص التي تحدد كيفية انتظام عمل مجلس الوزراء وموقع رئيسه، والزامية قراراته على رئيسه والوزراء، بخلاف الحال مع رئيس الجمهورية الذي يمكن تخطيه بعد 15 يوما من صدور القرار في مجلس الوزراء. لقد بات مجلس الوزراء، بمقتضى الدستور المعدل، هو السلطة التنفيذية. وبحصر الحق بدعوته برئيسه فقط، من دون ان يكون له نائب يقوم مقامه في حال الغياب، (اذا مرض أو سافر، أو حالت ظروف ما دون ممارسته لصلاحيته طوعا أو قسرا، يتعطل المجلس، ولا تسقط الحكومة التي لا تعتبر مستقيلة الا في حال وفاة رئيسها، ولا يمكن اقالتها من رئيس الجمهورية)، ما يعني ان رئيس مجلس الوزراء هو الحاكم بامره وله حصرا ان يدعو السلطة التنفيذية للعمل أو ان يعطلها بعدم دعوتها، وان حضور رئيس الحكومة شرط لازم لشرعية انعقاد المجلس و ان مغادرته للجلسة تعني رفعها حتى ولو كان رئيس الجمهورية هو المترئس. ثم ان ان الوزير، أو رئيس الوزراء، بامكان اي منهما ان يعطل أو يؤخر قرارا اتخذ في المجلس بشكل شرعي، من دون ان يكون هناك نص دستوري يلزم أيا منهما بالتوقيع أو يحدد النفاذ من غير توقيع، كما هو الحال مع رئيس الجمهورية، ما يعني ان موقع الوزير هنا اهم وافعل من موقع رئيس الجمهورية، وهو طبعاً امر يخالف المنطق. وفضلا عن ذلك، فان ضبابية تلك النصوص ونقص بعضها جعلا من رئيس الوزراء عملياً هو السلطة التنفيذية، ينفق كما يريد ويحجم حيث يريد. وزاد الطين بلة ربط مؤسسات عامة بالغة الاهمية ماليا واقتصاديا وعمرانيا وقضائيا، ربطها برئيس الحكومة، الى الحد الذي بات فيه لهذا المقام الدستوري دولته الخاصة التي هي الدولة الفعلية، ما ادى الى طغيان الشخص على الدولة برمتها. ومن ابسط الامثلة التي نضربها تدليلا على خطورة تعطيل مجلس الوزراء، فضلا عن ان القاعدة الذهبية في القانون تقضي بـ” عدم جواز تعطيل المرفق العام”، هو استعمال الجيش، ونذكر بان الجيش هو العمود الفقري للدفاع عن الدولة وحفظ نظامها وارضها، هذا الجيش موضوع بتصرف مجلس الوزراء ولا يملك شخص في الدولة – حتى رئيس الجمهورية الذي نص الدستور على انه القائد الاعلى للقوات المسلحة – لا يملك حق توجيه الاوامر للجيش خارج مجلس الوزراء. فاذا تعطل المجلس أو اراد رئيسه ان يغيب عن السمع، فمن يأمر الجيش، خاصة اذا كان هناك ما يفرض استصدار الامر والتكليف ؟


3) وهن النصوص التي ترعى استقلالية السلطة القضائية وفعاليتها. لقد كشف عدم تعيين بديل لرئيس مجلس القضاء الاعلى المحال على التقاعد، وكذلك تراجع القضاء من حيث القدرة على التدخل حيث يجب في ملفات هامة على الصعيد الوطني والجنائي، كم ان وضع السلطة القضائية في لبنان بحاجة الى اعادة نظر من حيث النصوص التي ترعاها دستوريا وتسمح لها بالتفلت من قيد ونفوذ السلطة التنفيذية، خاصة ان هذه السلطة، باتت كما ظهر في عرض واقعها، محكومة لارادة ومزاجية رئيس مجلس الوزراء، فمجلس الوزراء يعين رئيس السلطة ويجري التشكيلات القضائية، ورئيس مجلس الوزراء هو من يضع الملف على جدول اعمال المجلس، فاذا كان الامر لا يرضيه، فان بامكانه الإحجام عن ذلك، وبامكانه ان يعطل مجلس القضاء الاعلى عندما تنتهي ولاية جميع اعضائه، ولا يوجد احد في الدولة بامكانه ان يحل مكان رئيس مجلس الوزراء في تحريك العجلة. ولهذا السبب نجد كيف ان القضاء خضع مؤخرا رويدا رويدا ً لنفوذ رئيس الحكومة وللتيار السياسي الذي ينتمي إليه، وكيف انه احجم عن اتخاذ قرارات ومواقف لا تناسب رئيس الوزراء، وكيف تفشت الشكوى من مقامات قضائية ونعتها بانها مرتهنة لرئيس مجلس الوزراء.

هذا غيض من فيض الخلل الدستوري في لبنان، ولكنه الاخطر إذ إنه جعل من شخص فقط يختصر الدولة، في دولة تدعي انها تعمل بنظام ديمقراطي، وفي الممارسة تظهر بانها دولة حكم الشخص الواحد وتنقلب الى الاستبدادية المقنعة، وهنا تبدو الحاجة الى تعديلات دستورية تعيد التوازن الى السلطات في الدولة ويكون من شأنها :


1) اعادة الاهمية لمقام رئيس الجمهورية.
2) وضع حد لتحكم رئيس مجلس الوزراء بعمل المجلس وعجلة السلطة التنفيذية، وانتاج وضع يحول دون تمكين احد من تعطيل مجلس الوزراء أو تجميد قراراته.
3) فك الارتباط والتبعية والهيمنة بين السلطتين التنفيذية والقضائية، وانتاج بيئة تعمل فيها السلطة القضائية باستقلال تام عن التنفيذية، وتحول دون امكانية وضع اليد عليها أو تعطيلها أو تجميد عملها.
4) فك الارتباط الكلي بين السلطة التشريعية والتنفيذية من جهة، وبين المجلس الدستوري، واعتماد نص دستوري يمنع تعطيله أو تغيير اعضائه أو حله، ويمنع التشريع في حال غيابه من جهة أخرى.

اصلاحات لا بد منها برأينا، فهل يبادر ذوو الصلاحية اليوم لمعالجة الخلل، ام انهم سينتظرون حدثا أو أحداثا تفرض اتفاقاً وطنيا أو طائفا آخر لا ينجز الا بعد فوضى واضطراب وتدمير؟

:::::

جريدة البناء، 16/2/2012