مركزية الدين في تكوين الهوية الأميركية

(الجزء الأول)

مسعد عربيد

ليس المقصود بعنوان هذه الدراسة الإيحاء بان أميركا تنفرد دون غيرها بكون الدين يلعب دوراً مركزياً في تكوين هوية الشعب الأميركي بابعادها العِرقية والقومية والدينية والثقافية. فقد لعب الدين دوراً مشابهاً في العديد من المجتمعات وشكل مكوناً هاماً في هويات الشعوب وإن في سياقات تاريخية وإجتماعية وثقافية مختلفة. ولسنا نحن العرب باستثناء، فللإسلام خصوصيته وموقعه وتأثيراته المتميزة في تكوين الهوية العربية. ما نحن بصدده هنا هو دراسة خصوصيات دور الدين والخطاب الديني في تكوّن وتطورالهوية الأميركية، إذ نعتقد ان الحالة الأميركية تتميز بسمات خاصة منذ نشأتها كمستوطنة اوروبية مسيحية بيضاء وعبر مراحل تطورها، وهي سمات جديرة بالدراسة.

(1)

مدخل: راهنية تفكيك “الخطاب” الأميركي

لم يعد أمام الإنسانية، إزاء مسلسل المآسي والكوارث التي جلبتها الرأسمالية، سوى خياراً واحداً: مقاومة الرأسمالية والإمبريالية بكافة الوسائل والإمكانيات المتاحة حتى النصر أو الفناء. فالمشروع الرأسمالي ـ الإمبريالي يقف بلا مواربة ضد الانسان وقوى التاريخ والتقدم البشري ويجهر صراحة بسعيه نحو الهيمنة على مقدرات الشعوب وإبتلاع ثرواتها ونهب مصادر عيشها وإمكانيات بقائها، وهو ما يعني تدميرالبشرية ومستقبلها. فماذا يتبقى لنا بعد ذلك؟

لا أحسب أن هذا إستخلاص ذاتي أو وقفة على أطلال ستينيات القرن المنصرم ولا هي اطرحات صنمية متخشبة كما درج الخطاب الرأسمالي الليبرالي على تسميتها. بل هو تشخيص دقيق للواقع القائم والذي يؤكد بان الوحش الرأسمالي لا يزداد سوى إنفلاتاً وشراسة ودموية ولن يجلب على البشرية سوى المزيد من الدمار والهلاك.

من هذا المنطلق، فان هذه الدراسة تكتسب راهنيتها من الأبعاد الرئيسية التالية:

1) أن فهم الواقع الأميركي وسياسات الرأسمالية الحاكمة وآليات عملها في ذلك البلد، يتطلب التوعية بعناصر تكوين وتطور الهوية الأميركية في جوانبها القومية والعِرقية والدينية/الثقافية حيث يحتل الدين والخطاب الديني، كما سنرى، موقعاً مركزياً. فالمكونات والمفاهيم التي تقوم عليها هذه الهوية هي التي تحدد إنتماء الفرد والجماعة ومسؤوليتهما حيال سياسات حكومته، وهي التي ترسم حدود الفعل البشري والحراك الشعبي في المقاومة وإنجاز التغيير الجذري.

2) قد يتبادر الى الذهن أن الدين وخطابه وتأثيراته شأن تاريخي وأنه جاء ضمن سياق تاريخي مغاير، وعليه يكون السؤال: ما علاقة ذلك بالحال القائم الآن؟ إلا اننا نرى ان تأثير الدين والخطاب الديني ما زال حاضراً في الحياة الإجتماعية والسياسية الأميركية، وفي صناعة القرار السياسي في السلم والحرب، وفي صياغة وتطويع الرأي العام الشعبي. وهو ما يُبقي الباب مفتوحاً امام تأثيرات الدين وغيره من مكونات الهوية المختلفة (مثل الدين والعِرق والقومية) والداخل الأميركي من جهة، وعلاقة أميركا مع العالم الخارجي من جهة اخرى.

3) لا يتسنى فهم الواقع الأميركي دون إزالة الوهم الذي يبدو انه ترسخ بين الكثيرين من أبناء شعبنا عن علمانية أميركا، والغرب بشكل عام، وأن الفصل بين الدين والسلطة في المجتمعات الغربية قد إكتمل بالفعل وأضحت العوامل الدينية معزولة تماماً عن صنع القرارات والسياسات، وهو أمر بعيد عن الصحة.

4) تكتسب هذه الدراسة راهنية إضافية في رسم برنامج نضال الشعوب وصياغة مشروعها في مقاومة الإمبريالية الأميركية في بلادنا وفي العالم باسره. ففهم معسكر الأعداء وتحديد الأولويات والمهام النضالية الملحة يقع في صلب برنامج المشروع المعادي للإمبريالية والرأسمالية الغربية والأميركية تحديداً. كما ان مواجة الإمبريالية لا تتسنى دون فهم خطابها وآليات عملها، ليس فقط على صعيد عدوانيتها وسعيها للهيمنة على الشعوب الأخرى، بل أيضاً على المستوى الداخلي أي السيطرة على شعبها والتحكم بالقرار في بلدها ومجتمعها. وكذلك فان التغيير ليس ممكناً دون هدم المفاهيم البالية والمتخلفة وبناء الوعي الجذري الثوري.

(2)

الدين: الوظيفة والتوظيف

ملاحظات ضرورية

أ) الدين كمفهوم إجتماعي

لا نتناول الدين في دراستنا هذه كعقيدة إيمانية للفرد، بل من منظور تمفصلاته مع الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، ومن منظور توظيفات الدين السياسية والإجتماعية بغية الكشف عن الخلفيات والجذور التاريخية والاجتماعية لدوره في تكوين الهوية الأميركية وعن علاقته الدين بالعِرق، وتحديداً العِرق الأبيض في الحالة والسياق الأميركيين.[1]

ب) ديمومة الخطاب الديني وتأثيراته

لعله من أهم ما يميز الدين (خطاباً ومؤسسة بما في ذلك معتقدات ورموز وشعائر التدين) أكثر من غيره من عوامل تكوين الهوية الثقافية والقومية، هو تغلغله العميق وتأثيره على الفرد (والجماعات) ومعتقداته وأفعاله عبر الأجيال المتعاقبة، وذلك من خلال توارث المعتقدات الدينية على نحو غيبي وتلقيني دون مسائلة ومدى قرون طويلة كما يشهد تاريخ الديانات وخاصة التوحيدية الثلاث.

ت) دور الدين في صياغة الوعي و”المُشتَرك الجامع”

إنسجاماً مع ما قلناه أعلاه، وقبل الولوج الى مناقشة الحالة الأميركية، لا بد من وقفة مع بعض الفرضيات حول الرابطة بين الدين (والخطاب الديني) وتكوين وعي الأفراد والجماعات:

بالرغم من عوامل الولادة والبيولوجيا، فان المرء، موضوعياً، لا يشكل وعيه وإنتماءه الى عِرق أو دينٍ ـ كأن يكون أبيضاً او مسيحياً ـ بمجرد الفطرة او بالطبيعة، كذلك فانه لا يتلمس حسه القومي أو يحدد فعله ومسكليته بحكم كونه ذي عرقٍ أو دينٍ معين. ولا يتواصل الأفراد والجماعات فيما بينهم على أساس انهم بيض او مسيحيون بمجرد الفطرة، فليس هناك بين الناس (أفراداً وجماعات) رابطة فطرية أو طبيعية أو بدائية تقوم على اساس العِرق او الدين.

ينشأ المشترك بين الناس حين يأخذون بالتواصل فيما بيهم، أفراداً وجماعات، على أرضية دينٍ معين أو ثقافة معينة أو بحكم إنتمائهم لعرقٍ معين، في إطار تشكيلة إجتماعية ـ إقتصادية معينة وسياق مرحلة تاريخية طويلة من تطور المجتمع.

من خلال عملية التواصل الإجتماعية ـ التاريخية تكتمل الرابطة وتنشأ الجماعات السكانية والفئات الاجتماعية والإثنية والقومية والدينية إذ يؤسس هؤلاء بناهم العِرقية والقومية والاجتماعية والثقافية والدينية ويأخذون بالتواصل فيما بينهم على اساس المشترك الجامع.

فعلى سبيل المثال، فان المجتمع الأبيض يبدأ بالتكون إذ يأخذ البيض بتكوين وجهات نظرهم حول عِرقهم ويتبادلونها فيما بينهم، وهكذا يخلقون صورتهم، حتى وإن كانت مُختلقة، وفق نظرتهم وتعريفهم لذاتهم في إطار عملية التكوين الإجتماعي. ووفق ما ذهب اليه مايكل أومي وهووارد وينانت فان التكوين الاجتماعي هو “العملية التي من خلالها تحدد القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مضمون وأهمية التصنيفات العِرقية، والتي من خلالها، أي العملية، ترتسم المعالم والدلالات العِرقية لهذه التصنيفات”.[2] ففي حالة البيض الاميركيين، فان “بياض البشرة” هو المشترك الذي يجمع بينهم.

نخلص من هذا الى القول، بان أشكال التكوينات والتجليات العِرقية والدينية والثقافية تتغير وفقاً لتغير الاوضاع الاجتماعية والطبقية والاقتصادية والسياسية. وعليه، فان السمات والخصوصيات التي تتميز بها جماعة ما ليست ساكنة ولا ثابتة بل هي دائمة الحركة والتغير وهو ما يستدعي ضرورة تناولها وفهمها وإعادة تفحصها من جديد بالتكيف مع وعلى ضوء السياقات والمتغيرات المستجدة في المجتمع والحياة والتاريخ.

وبهذا المعنى فان تغير الظروف الإجتماعية والاقتصادية في أميركا كان له تأثيراً كبيراً على تطور الفوراق العرِقية والدينية وتغييرها حسب المصالح الطبقية والسياسية في الظروف والسياقات المختلفة.

إلا ان الأمر الجدير بالذكر هو أن فهم التكونات الدينية والعِرقية في سياقها الإجتماعي ـ التاريخي لا ينفي أو ينتقص من خصوصيات العوامل الدينية والعِرقية وتأثيراتها الكبيرة على أشكال التعامل اليومي بين الناس والعلاقات الاجتماعية والانسانية. وهنا لا بد من التذكير بان الكثير من هذه الخصوصيات (العِرقية والدينية) هي في الحقيقة فوارق مُتخَيَلة وتفتقر الى أي معنى موضوعي، إلا انها في الآن ذاته نتاج وحصيلة للواقع والظروف المادية التي تفرزها.[3]

كان من الضروري التوقف عند هذه الركائز لانها تعيننا على تفسير المفاهيم التي بناها الأبيض حول ذاته وحول الآخر (غير الأبيض) وتجليسها في سياق فهم تكوين الهوية الأميركية، وهي مفاهيم لا تقوم في الحقيقة على اسس موضوعية ولا تحمل آية دلالات مادية. فعبر مسيرة دولته ومجتمعه، حرص الأميركي الأبيض،على أمرين أساسين:

الأول، أن تظل مفاهيمه حيال الآخر “مطاطة” ودائمة الحركة والتكيف بما يخدم مصالحه؛

والثاني، أن تظل مفاهيمه إزاء ذاته، أي أفضلية الذات البيضاء على “الآخر” وإعتلائها عليه، “ثابتة”.

وهو ما يفسر كيف ولماذا نجح الاميركيون البيض في إستخدام المفاهيم الدينية والعِرقية الغيبية والأوهام المُختلقة في ترسيخ وتعميق الفوراق الاجتماعية بينهم وبين “الآخر”.

ث) ضرورة التأسيس للخطاب الديني

تحدد الطبقة المهمينة ـ الحاكمة في أميركا وغيرها مواقفها وترسم سياساتها على أساس مصالحها المادية، الإقتصادية والطبقية والإجتماعية. ومن اجل حفاظها على هذه المصالح وإبقائها على سيطرتها الإقتصادية والطبقية والإجتماعية، تتصارع الطبقة المهيمنة ـ الحاكمة مع الطبقات الشعبية والفقيرة والمُستغَلة التي تكافح من أجل لقمة عيشها وكرامتها وحقها في تأمين إحتياجاتها الإنسانية الأسياسية. في هذه الحرب الطبقية والصراع التناحري على المصالح والتناقضات والجذرية بين الطبقات، ليس هناك مكاناً للحياد أو المهادنة، بل ان الطبقة المهيمنة ـ الحاكمة تستخدم في صراعها هذا كافة امكانياتها وعلى رأسها مؤسسات السلطة والدولة (ممثلي الطبقة الحاكمة) وألياتها القمعية (البوليس والجيش والسجون…) والأيديولوجية (الإعلام والثقافة والمؤسسة الدينية والتعليم).

إلا ان هذه المهمة تستدعي الحاجة الى تأسيس خطاب لا من أجل الضرورات والأبعاد السياسية فحسب بل الأيديولوجية والثقافية والدينية. على هذه القاعدة ينطلق الخطاب وتقمص الإدعاءات الكاذبة مثل “حامي” للوطن والشعب والمجتمع و”المدافع” عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من الإدعاءات.

في هذا الإطار وبهذا المعنى توظف الطبقة المهيمنة الدين (وغيره) في تحقيق مصالحها الطبقية والإجتماعية والسياسية، وتصيغ خطاباً دينياً قادراً على أدلجة سياساتها وطروحاتها لضمانة الدعم “الشعبي” لها او بالأقل “رضى” الشعب وعدم معارضته. كما تتطلب هذه العملية ان يكون الخطاب الديني قادراً على مواكبة الأوضاع الإجتماعية والسياسية المتغيرة والتفاعل معها مما يضمن للطبقة الحاكمة والمهيمنة تطويعه في خدمة مصالحها. وفي الترجمة العلمية، فان هذا الخطاب يجب ان يكون مرناَ مطاطاً في إنتقاء المفردات وتطويع دلالاتها ومعانيها مثل مفردات “الأبيض” و”المسيحي” و”الإنكليزي الحر” و “الاميركي”. وما اقصده هنا هو ان هذه المفردات على تنوعها ظلت دوماً وفي كافة الأوضاع والمتغيرات، تتماثل مع الرجل الأبيض وفوقيته (البيضاء والمسيحية) على غيره من الأعراق. فعلى سبيل المثال، كانت هوية “الأميركي الأبيض المسيحي” في الحقبة الفكتورية من التاريخ الأميركي تحمل دلالات تختلف عن تلك التي سادت خلال المرحلة الكولونيالية او لاحقاً عبر مرحلة “إعادة البناء” (انظر الملحق). وكذلك كان الأمر إزاء التغيرات التي صاحبت الهوية الاميركية ودلالاتها وإشكالياتها عندما أخذ الاميركيون البيض يواجهون التحديات الكبيرة التي جلبتها موجات الهجرة الكبيرة من المهاجرين الأجانب في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. (انظر لاحقاً)

(3)

خصوصيات السياق الأميركي

أولاَ ـ المسيحية[4] فُرضت عنوةً على المستوطنة الأميركية

لا أحد ينكر أن الدين مكون هام من مكونات الهوية الثقافية التي تتشكل وتتطور في جوانبها المتعددة عبرة عملية التطور التاريخي للمجتمع. صحيح أننا نتوارث الدين عن أبائنا وأجدادنا، إلا اننا لا نتناقله بالفطرة ولا نحمله في جيناتنا أو سماتنا الوراثية، بل هو مكتسب عبر مسيرة وتجارب الإنسان والجماعات البشرية ويتخذ معالمه في إطار تشكيلات إجتماعية ـ إقتصادية وتاريخية معينة.

ولا تشكل الحالة الأميركية إستثناءاً مع اننا نرى انه من الضروري التأكيد على بعض الخصوصيات:

(1) لم يكن الدين في سياق الكيان الإستيطاني الأميركي ثمرة لتطور إجتماعي وتاريخي طبيعي، بل ان المستوطنين الأوروبيين الأوائل فرضوا دينهم عنوة على هذا الكيان ومسيرة تكوينه؛

(2) أن المسيحية قامت على أنقاض ديانات وثقافات الشعوب الهندية الأصلانية التي كانت مزدهرة لآلاف السنين؛

(3) عبر كافة حقبات التاريخ الأميركي، تم إستثمار الدين في خدمة المشروع الرأسمالي؛

(4) تتشابك في الخطاب الأميركي السائد مكونات متعددة تحكمها علاقات التداخل والتأثيرات المتبادَلة. وقد تمظهرت أبرز عناوين هذا الخطاب الأميركي، عبر التاريخ كما في الراهن الأميركي، في العِرق والدين والاثنية والقومية.

ثانياً ـ تفكيك مكونات الهوية الأميركية

لهذه الاسباب والعوامل مجتمعة، فان مسألة الدين في السياق الأميركي، تستدعي دراسة مكونات الهوية وتفكيك العلاقات الجدلية والتداخلات فيما بينها:

علاقة الدين بمكونات الهوية والإنتماء الأخرى معها مثل العِرق والطبقة والإثنية والقومية، وكيف تداخلت هذه مجتمعةً في نشأة وتكوين الهوية القومية الأميركية. وسوف نعود الى جدلية العِرق والدين بشيء من التفصيل لاحقاً في هذه الدراسة.

الجدلية المتشابكة والمتعددة الأطراف لعلاقة هذه المكونات مجتمعة من جهة، بالطبقة الحاكمة من جهة أخرى حيث تكمن قدرة هذه الطبقة على تسخير الدين وخطابه ومؤسسته في خدمة أهدافها ومصالحها الطبقية والسياسية وترسيخها عبر قرون التاريخ المديدة وفي الحاضر الأميركي أيضاً.

ضمن هذا الإطار نستطيع ان نفهم تأثيرات هذه العوامل على الفرد والجماعة وصياغة الهوية والوعي الشعبي (الفردي والجَمْعي)، وكيف إستثمرت الطبقة الرأسمالية في أميركا هذا كله في رسم السياسات المحلية (الداخل الأميركي) أو الخارجية (أجندة واستراتيجية الرأسمالية والإمبريالية الأميركية إزاء العالم).

ثالثاً ـ العِرق والدين في أميركا… معاَ من أجل هيمنة الفوقية الأوروبية

أ) كيف يرى الأبيض المسيحي ذاته من المنظور التوراتي؟

هناك تماثل كبير بين نظرة المستوطنين الأوربيين الأوائل الى انفسهم (خاصة البيوريتانيين منهم) ورواية “الخروج” التوراتية. فالبيوريتانيون يرون انفسهم ك”شعب الله المختار” وان إستعمارهم “للعالم الجديد” (أرض الميعا) يتماثل مع رحلة بني إسرائيل الى “أرض الميعاد”. وقد شكّلت هذه الاسطورة ركيزة رئيسية في نظرة البيوريتانيين الى انفسهم وبناء هويتهم على أساسها.[5]

قد تتعدد الآراء وتختلف في أهمية مناقشة مثل هذه الأساطير، وقد تصطدم الذهنية المادية بمثل هذه الأوهام الغيبية فتقرر أن تضعها جانباً والاّ تحملها محمل الجد، إلا اننا اذا أردنا ان نفهم كيف توظف الطبقة الحاكمة الخطاب الديني للسيطرة على المجتمع وخدمة غاياتها ومصالحها وإثراء خطابها وأدلجتة، فانه علينا ان نولي مثل هذه الأساطير إهتمامنا، لا من أجل دحضها أو تفنيدها بل من اجل فهم دورها في صياغة الهوية الجَمْعية لهؤلاء الذين يشكلون جزءاً ديمغرافياً وسياسياً كبيراً وفعّالاً من المجتمع الأميركي وللملايين التي تمثل ما يمسيه الغرب “نبض الحياة السياسية” و”العملية الإنتخابية” الديمقراطية و”الرأي العام”. اولئك هم المادة البشرية التي تستهلكها مثل هذه الخزعبلات وتشغلها هذه الروايات ليل نهار وحيثما تواجدوا في البيوت والكنائس والمدارس والجمعيات الخيرية والمؤسسات الدينية والجلسات العائلية وأحاديث الاصدقاء والجيران ووسائل الإعلام وغيرها من الأنشطة الاجتماعية والإعلامية والدينية والخيرية واسعة الإنتشار في الولايات المتحدة والتي تملأ حياة الناس دون توقف وتحشو عقولهم بالأفكار والمفاهيم الغيبية والأوهام المُتَخَيلة.

ب) توظيف الروايات التوراتية

لا خلاف على أن العوامل الرئيسية المسؤولة عن إنتاج العِرق والعنصرية في الحالة الأميركية تكمن في المصالح الطبقية للبرجوازية الأميركية التي تسبب في إبادة السكان الاصلانيين وتمثلت في العبودية ونظامها الطبقي والإقتصادي والعنصري الإستغلالي وتمظهرت في ممارسات وسياسات التمييز والفصل بين الأبيض والأسود لقرون عديدة.

إلا انه صحيح أيضاً أن فوقية العِرق الأبيض المزعومة على الأعراق الاخرى قد سخرت الدين والروايات التوراتية وأفضلية المسيحي الأبيض على غيره وإختياره من قبل الله والعناية الربانية ليكون “الشعب المختار” من أجل حماية المصالح الطبقية ــ الإجتماعية والسياسية، ناهيك عن أن هذه الفوقية قامت على الفرضيات “العلمية” الكاذبة والمفبركة وتلفيقات عنصرية وتمييزية بين الأعراق.

هذه العوامل مجتمعة هي التي ساهمت في إنتاج العِرق والتصنيفات العِرقية وترسيخ هذه المفاهيم في أميركا.

ت) فوقية الأبيض: بين بياض البشرة والمسيحية الأوروبية

ظلت “فوقية الرجل الأبيض”، منذ بداية الغزو الأوروبي الأبيض ل”العالم الجديد” وعلى مدى القرون الخمسة الأخيرة، أحد الأركان الرئيسية في تكوين الهوية العِرقية وتعزيز التراتبية العِرقية والطبقية والإجتماعية وتعميق الفوارق بين الناس والأعراق في أميركا.

ويجدر بنا في هذا المقام ان نُبدي بعض الملاحظات الهامة:

ــ لقد تميز المستوطنون الإنكليز، عن غيرهم من الأوروبيين الذين غزوا القارتين الأميركيتين من إسبان وبرتغاليين وفرنسيين وهولنديين، بانهم “وحدهم جاءوا بفكرة مسبقة عن أميركا، نسجوها من لحم فكرة إسرائيل التاريخية، فكرة إحتلال أرض الغير، وإستبدال شعب بشعب، وثقافة بثقافة وتاريخ بتاريخ، فاستنسخوا بذلك أحداثها وتقمصوا أبطالها وجعلوها قدرهم المتجلي”.[6] وقد أسست هذه الفكرة الثوابت التاريخية التي رافقت كل تاريخ أميركا وهي: (1) المعنى الإسرائيلي لأميركا، (2) عقيدة الإختيار الإلهي والتفوق العِرقي والثقافي، (3) الدور الخلاصي للعالم، (4) قدرية التوسع اللانهائي و(5) حق التضحية بالآخر.[7]

ــ وصل المستوطن الأوروبي الأبيض الى الشواطئ الأميركية مثقلاً بالأرث الإقطاعي الآوروبي الذي حمله معه والذي كان تعبيراً وتجسيداً للعلاقات الإجتماعية والطبقية (الإنتاجية) في التشكيلة الإقطاعية التي كانت سائدة آنذاك في اوروبا، وهو إرث صاغ صورة الأبيض عن ذاته وهويته الدينية والعرقية والطبقية، وأسس لنظرته الى الآخر غير الأبيض وغير المسيحي وغير الأوروبي. كل هذا كان قد إكتمل في ذهنية المستوطن الأبيض قبل وصوله الى الشواطء الأميركية. وسوف نعود الى هذه النقطة بمزيد من التفصيل.

ــ على الرغم من أن فوقية الأوروبي الأبيض كانت مُتخيلة وإتكأت على فرضيات غيبية مفرطة في العنصرية، إلا أن القوى الطبقية والإجتماعية والثقافية نجحت في فرضها عنوة على علاقات البيض مع الأعراق الأخرى عبر تاريخ دموي طويل من الإبادة الوحشية والعبودية والتمييز العنصري[8]، كما انها أستخدمت هذه الفوقية المزعومة في صياغة وتكوين التراتبية العِرقية وترسيخها في المستوطنة الأوروبية الناشئة.

ـ لجأ الأوروبيون البيض الى إستخدام وترسيخ الفوارق (والرموزية) الدينية بينهم وبين الآخرين، أي بين المسيحية الاوروبية والديانات الأخرى وفوقية الأولى على كافة الديانات الأخرى. وهذه الفوارق لم تكن جديدة ولم تكن نتاجاً لبيئة المستوطنة الأمركية الناشئة، بل ان الأوروبيين المسيحيين البيض حملوها معهم من بلدانهم الأصلية في أوروبا حيث كانت قائمة ومترسخة هناك لعهود طويلة.

ــ لم يكن للعِرق أن يقوم بهذه المهمة لوحده، بل ان تمفصل العِرق الأبيض مع المسيحية الأوروبية ــ (والذي ظلّ ظاهرة تاريخية وإجتماعية ملازمة للتاريخ الأميركي ودائمة الحضور فيه) ــ أثر بشكل فعلي على تشكيل التراتبية الإجتماعية والتأسيس للتمييز بين الناس وأنعدام المساواة بين الأفراد والجماعات والفئات.[9]

ث) تمفصل بياض البشرة والمسيحية الأوروبية

على ضوء ما تقدم يمكننا ان نفهم كيف ولماذا إكتمل التمفصل في المجتمع الأميركي بين بياض البشرة من جهة، والمسيحية الأوروبية فتوثقت الرابطة بينهما عبر القرون الأخيرة بحيث أضحت صبغة تاريخية لذلك المجتمع.[10] ويجب الاّ نغفل الإشارة الى أن أسباب هذا التمفصل وزخمه تعود الى هيمنة الأبيض على كافة جوانب الحياة في المستوطنة الأميركية حتى أن هيمنة الأبيض غَدَّت وكأنها الحالة الطبيعية والمعتادة.

من هنا تتأتى أهمية تفكيك الرابطة بين بياض البشرة من جهة والمسيحية البيضاء من جهة اخرى، كضرورة لفهم الأميركيين البيض ودأبهم الذي لا يكل عبر التاريخ الأميركي على إنشاء هويتهم العِرقية والقومية على قاعدة المُشترك الديني كعامل جامعٍ ومُوَحدٍ بينهم.


راجع

Talal Asad, Chapter 8: The Construction of religion as an Anthropological Category (pp. 114-132). In the book: Michael Lambak, edit.: “A Reader in the Anthropology of Religion”.

[1]

[2] راجع

Michael Omi and Howard Winant, Racial formation in the United States: From the 1960s to the 1990s, Psychology Press, USA 1994.

[3] Daniel B. Lee, A Great Racial Commission: Religion and the Construction of White America, p. 87, in Race, Nation and Religion in the Americas, Edited by Henry Goldschmidt and Elizabeth McAlister.

[4] نستخدم مفردات “المسيحية” و”المسيحية الغربية” و”المسيحية الأوروبية” و”المسيحية البيضاء” على نحو متبادل لتمييزها عن المسيحية الشرقية وللتدليل على رسلمة المسيحية أي إستخدامها في خدمة مصالح رأس المال الغربي. لا يفوتنا هنا ان نلحظ ان المسيحية الأوروبية الغربية قامت في الأصل على سرقة الغرب للمسيحية الشرقية وإنتحالها كي تصبح جزءاً من تراثه وتاريخه. وفي المسعى ذاته نصّب الغرب ذاته وصياً على المسيحية و”حاميا” لها ولأماكنها المقدسة منذ حروب الفرنجة في بلادنا وبعدها وصولاً الى يومنا هذا.

[5] انظر منير العكش، “تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا”، رياض الريس للنشر، بيروت ـ لبنان، 2004.

[6] منير العكش، أميركا والإبادات الثقافية، رياض الريس للنشر، بيروت ـ لبنان، 2009، ص 9.

[7] منير العكش، المرجع السابق، ص 10.

[8] ليس من العسير على المتأمل في أوضاع البشرية أن يلحظ أن فوقية الأبيض لم تتوقف عند حدود أميركا الشمالية او الأميركيتين، بل انها طغت، منذ تلك الآونة، على مجمل المسيرة الانسانية وتاريخها.

[9] Henry Goldschmidt and Elizabeth McAlister, ed. Race, Nation and Religion in the Americas, p. 11.

[10] يمكننا سحب مثل هذا الإستنتاج على مجتمعات اخرى في الأميركيتين ومنطقة الكاريبي بالرغم من ان هناك الكثير من المسيحيين، بل ان أغلبية المسيحيين في تلك البلدان ليست بيضاء.