(الجزء الثاني)
مسعد عربيد
(4)
الدين وتحديات “الآخر غيرـ الأبيض”
البيض و”نقاء دمهم”
إخترع البيض الانجلو ـ ساكسونيون فرضية وكذبة نقاء دمهم وإستدخلوها فاعتقدوا أن عِرقهم يعلو على كافة الأعراق، ولذا يتوجب عليهم ان يتفوقوا على الأعراق الأخرى التي تحتك بهم: الأحمر والأسود وحتى الأبيض غير الانجلو ـ ساكسوني. كما ظنوا انهم بفضل “طاقتهم المتدفقة والمتفوقة وقوة شخصيتهم” التي أودعتهم إياها “الرعاية الربانية”، قادرون على إخضاع الآخرين وإبقائهم في مواقع “أدنى”. أما إذا ما “تلوث” دمهم عن طرق والتزاوج والإختلاط بالأعراق الأخرى، فكيف يتسنى للبيض الأمركيين الحفاظ على هذه “الطاقة والقوة الحيوية والتاريخية للأنجلوـ ساكسونيين”؟
رجال الدين وفوقية الأبيض
لعب الاكليرك المسيحي في أميركا دوراً هاماً في ترسيخ وتأبيد فوقية الأبيض المسيحي الأوروبي وزرع بذور الفرقة بين الأعراق (خاصة العِرقين الأبيض والأسود) وتشجيع النزاعات العنصرية بينهما. وعلى الرغم من إقرارالاكليرك المسيحي بان الله قد خلق كل البشر من “دمٍ واحد”، الا انهم زعموا ان خليط الدماء المتنوعة في أميركا، الدم الأبيض والأسود والأحمر (المقصود هنا الهندي الاميركي) والأصفر (المهاجرون من الشعوب الآسيوية)، سوف يحتاج الى “قرون عديدة” كي يتحقق. هكذا إبتدع الاكليرك المسيحي هذه الفتوى لضمان الفصل بين العِرقين ومنع الإختلاط بينهما لأمد طويل.
في هذا الرُهاب من الآخر والآخرية شنّ رجال الدين البيض حملات مسعورة محذرين أبناء جلدتهم من المزج بين البيض والسود الذي يوّلد “المهجنين” mullato الذين تسود بينهم الملامح والصفات الفيزيائية الزنجية مما يؤدي بدوره الى “إمتصاص” السود للبيض، وحيث تسود القدرات العقلية المتدنية لهؤلاء المهجنين والتي لا ترقى الى قدرات البيض. وبالطبع، لم يتوانى الساسة ورجال الدين عن تسخير “الابحاث العلمية” العنصرية والملفقة لدعم فرضياتهم العنصرية حول دمج الاعراق.[1]
أما بعض رجال الدين البيض فقد رفضوا على أسس ثيولوجية الفصل بين العرقين (الأبيض والأسود) لأن، البيض، حسب قولهم، اذا ما عزلوا أنفسهم عن الآخرين غير المسيحيين من الأعراق الأخرى، فانهم يكونوا قد تهربوا من “واجبهم المقدس” في حماية المسيحية والتبشير بها. فقبل تحرير العبيد، كان السود ضمن طوائفهم الدينية “يتمتعون” برعاية رجال الدين البيض. أما بعد الحرب الأهلية الأميركية وإلغاء العبودية في الولايات المتحدة، قد أخذ السود زمام امورهم بأيديهم وشرعوا في بناء كنائسهم وإدارتها بانفسهم. وبسبب “دونية الأسود” حتى بعد إعتناقه للمسيحية، إرتأى بعض الاكليرك البيض أن السود قد فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً لان “ديانتهم غيبية” و”اخلاقيتهم مخزية” وفق ما كتبه الأسقف دودلي Bishop Dudley أحد الاساقفة البيض في مقالة له نشرت عام 1885. ولم يتورع هذا الاسقف الأبيض عن تذكير أبناء رعيته بان البيض لا يستطيعون التهرب من التزامهم المقدس في إرشاد السود “وتوجيههم نحو السيد المسيح”، وأنه عليهم (أي البيض) ان يسعوا الى إقامة العلاقات الطبيعية والعادية مع السود تمهيداً لذلك “اليوم الذي سيأتي بالطبع بعد قرون” حين تنصهر كافة الأعراق، وعلى البيض ان يبذلوا جلّ جهدهم “لتوجيه” إخوتهم السود “نحو السيد المسيح”.[2]
(5)
نشأة أميركا… ونشأة الرأسمالية
ليس المقصود هنا الغوص في تاريخ الرأسمالية بقدر ما نود ان نشير الى دلالة التزامن بين تأسيس المستوطنة الاوروبية البيضاء في أميركا من جهة، وبوادر نشأة الرأسمالية، كنظام إجتماعي ـ إقتصادي شامل، من جهة أخرى. كما يهمنا ان نناقش “الإرث” الذي حمله الأروبيون المسيحيون البيض معهم من أوروبا الإقطاعية الى المستوطنة الأميركية، من أجل قراءة جذور الفوقية الأوروبية وتجليس الدين ودوره في نشأة الكيان الإستيطاني الأميركي والتكون المبكر لوعي الأميركي الأبيض بذاته وبهويته.
ت) تزامن المركزانية الأوروبية مع نشأة النظام الرأسمالي
ليس مصادفة ان يكون عام 1492 قد شكّل اللحظة الفاصلة بين إكتشاف “العالم الجديد” وبداية عصر النهضة الاوروبية، حقبة إنتقال اوروبا من القرون الوسطى الى العصور الحديثة. و”إذا كان عصر النهضة الأوروبية يمثل قطعاً نوعياً في تاريخ البشرية، فان ذلك يعود تحديداً الى أن الأوروبيين أصبحوا منذ ذلك الحين واعين للفكرة التي تدّعي أن إخضاع العالم لحضارتهم هدف ممكن التحقيق”[3]، ومنذ أن تملكهم الاعتقاد المطلق بفوقيتهم وبانهم الوحيدون الجديرون بالسيطرة على الشعوب الاخرى حتى وإن لم يكن هذا الإخضاع قد حصل فعلاً، ومنذ أن إستحوذ عليهم الإدراك بانهم قادرون على مواجهة الشعوب والإمبراطويات الأخرى مهما إمتلكت هذه من القدرات العسكرية ووسائل الدفاع عن النفس لان الأوروبيين “سوف يتمكنوا في نهاية المطاف من تطوير إمكانيات وقدرات أكثر قوة وبطشاً مما سيضمن لهم النصر”. منذ تلك الأونة وليس قبل ذلك العصر، وفق ما ذهب الية سمير أمين، أخذت المركزانية الأوروبية تتبلور.[4]
كانت التشكيلة الإجتماعية الأخذة في التكوين في اوروبا في تلك الحقبة كما نفهمها اليوم هي النظام الرأسمالي مع أن الأشكال الجنينية للرأسمالية كانت قد تواجدت قبل ذلك لفترة طويلة في حوض البحر المتوسط. ويضيف سمير أمين ان الرأسمالية، كمرشح لقيادة النظام العالمي، لم تكمن موجودة الى أن إكتمل تكوّن الوعي بقدرتها على الهيمنة.
في هذا السياق التاريخي، النشأة المبكرة للتشكيلة الإجتماعية الرأسمالية، نجد جذور فوقية الأوروبيين البيض التي قامت على إعتقادهم بفوقية معتقداتهم الدينية ولون بشرتهم (أي الفوقية العِرقية للأبيض والفوقية الدينية للمسيحي)، وهي ظاهرة تاريخية وإجتماعية وعِرقية وثقافية ودينية لم تكتمل الاّ مع حلول القرن التاسع عشر حين أخذت تشكل بعداً ثقافياً وأيديولوجياً للنظام الرأسمالي المعاصر.
ب) العِرق والدين سبقا الرأسمالية في تكوين الفوقية الأوروبية
إرتبط مفهوم العِرق، على مدى عدة قرون من التاريخ الاوروبي، إرتباطاً وثيقاً بالهويات الدينية والفوراق الدينية التي صاغت أشكال التمييز بين الناس في المجتمعات الاوروبية وعلاقتها بالأعراق الأخرى. وهذه الرابطة بين العِرق والدين هي التي تفسر العلاقة بين العِرق الأبيض والمسيحية الغربية حتى ان الحدود الجغرافية “للعالم المسيحي” (الغربي) هي التي حددت ورسمت حدود “بياض البشرة” (اولئك من ذوي البشرة البيضاء). وكذلك كان الأمر مع التصورات والمفاهيم حول الوثنية والوثنيين التي ترسخت لدى البيض عبر زمن مديد وساهمت في تحديد الآخرية (الأعراق والأديان الأخرى) وأفكارها ومواقفها والفوراق العِرقية والدينية بين المسيحي الأبيص من جهة والآخرين المختلفين من جهة اخرى.[5]
صحيح ان الأوروبيين ربما لم يكونوا يدركون في تلك الآونة (حقبة إكتشاف “العالم الجديد”)، أو انهم كانوا قد شرعوا في بناء الرأسمالية، كما انهم لم يكونوا يعون أن أساس فوقيتهم الاوروبية وقدرتهم على التوسع يكمن في التنظيم الإجتماعي للمجتمع وفي نمط الإنتاج الرأسمالي كما نفهمه اليوم، إلا انهم، وضمن فهمهم لذاتهم المختلقة والمتفوقة آنذاك، عزوا فوقيتهم الى امور اخرى مثل “أوروبيتهم” و”بياض بشرتهم” وعِرقهم الأبيض وعقيدتهم “المسيحية”. بعبارة أخرى، فانه على الرغم من عدم إدراك الأوروبيين لواقعهم في تلك الآونة، فان المركزانية الأوروبية كانت قد نشأت وتطورت، وفق ما يرى سمير أمين، فكان “ظهور البعد المركزاني الأوروبي في الأيديولوجية الحديثة سابقاً للأبعاد الأخرى التي حددت الرأسمالية”.[6]
ت) الإرث الإقطاعي الأوروبي
بالإضافة الى الفوقية الأوروبية (البيضاء والمسيحية)، ماذا حمل المستوطنون الأوروبين معهم الى أميركا؟
ــ الإستغلال: إستحضر المستوطنون الاوروبيون معهم الى الأميركيتين أشكال الإستغلال الطبقية والإجتماعية والعِرقية التي كانت قائمة بالأصل في النظام الإقطاعي في اوروبا قبل وصول هؤلاء المستوطنين الى أميركا الشمالية بعدة قرون. ففي أحشاء الإقطاعية الأوروبية قامت الإختلافات والفوارق والتمايزات بين الناس والأعراق والفئات والطبقات الإجتماعية، وإن تمظهرت باشكال التمييز الديني والعِرقي، على اساس الموقع الإجتماعي ـ الطبقي (الإقتصادي أي الموقع في عملية الإنتاج)، وتجسّدت هذه الفوارق في إنعدام المساواة الطبقية والإجتماعية وحتى التمايز في المظهر الخارجي والهندام الذي كان يعبر عن الموقع الطبقي.
بناءاً عليه، فان الفوارق الطبقية والعِرقية والدينية التي قامت في المستوطنة الأميركية الناشئة كانت إمتداداً للفوارق التي كانت قائمة في اوروبا في العهود السابقة، وعلى هذه الأرضية تأسست العلاقات الإجتماعية والعِرقية في أميركا والتي تطورت في سياقها الجديد لتنتج في حصيلتها حالة مستديمة من التمييز الطبقي والعنصري وإنعدام المساواة بين الناس والأعراق.
ــ النزوع نحو التوسع: مشترك بين الرأسمالية والمؤسسة الدينية؟
هل يجوز لنا ان نفترض أن النزوع الأميركي نحو التوسع والهيمنة على الكرة الأرضية ـ الذي صبغ الولايات المتحدة كمشروع إستيطاني منذ نشأتها ــ يعود في بعض جذوره التاريخية الى النزعة المتأصلة في المؤسسة الدينية (الكنيسة الكاثوليكية) في القرون الوسطى[7]؟
هذا ما سنحاول الإجابة عليه في الفقرة اللاحقة.
ت) الدين أداة للمشروع الإستيطاني الأميركي
منذ نشأتها كانت المستوطنة الاوروبية البيضاء في أميركا الشمالية مشروعاً كولونيالياً للتوسع الجغرافي وفتح ال”العالم الجديد” والوصول الى موارد وأسواق جديدة وأيدي عاملة رخيصة. وعلى مدى قرون خمسة تنامت أميركا لتصبح مشروعاً رأسمالياً في خدمة مصالح ومنافع الأغنياء ـ الطبقة البرجوازية الحاكمة وإحكام هيمنتها على مقدرات المجتمع والاقتصاد والدولة، ومن ثَمّ الإنطلاق مع نضوج الحقبة الإمبريالية في نهايات القرن التاسع عشر نحو أسواق العالم وصولاً الى حقبة عولمة رأس المال التي نعيشها اليوم.[8]
وقد مرّ هذا المشروع بالعديد من التطورات الاقتصادية ـ الاجتماعية والسياسية، إلا أن الدين ظلّ، عبر هذه الحقبات التاريخية وفي خضم التغيرات الاجتماعية، متغلغلاً في النسيج الإجتماعي والطبقي والعِرقي والقومي في الولايات المتحدة[9]، وشكّل مكوناً أساسياً في الإنتماء الطبقي والاقتصادي والهوية العِرقية والقومية الأميركية على نحو تداخلت فيه هذه العوامل وتفاعلت من خلال علاقات الجدل والتأثير المتبادَل.
في هذا الإطار نستطيع أن نفهم كيف تكتسب هذه العناصر المكونة للهوية والإنتماء أهميتها لا من أجل فهم التطور التاريخي والإجتماعي لأميركا وحسب، بل في تفسير التغيرات العميقة التي حلّت بهذا المجتمع وما زالت، وفي إستشراف مستقبل أميركا وعلاقاتها مع العالم الخارجي.
(6)
الدين في مواكبة المشروع الإستيطاني في أميركا:
قراءة تاريخية
وظّف الغرب الراسمالي، عبر قرونه الخمسة الماضية منذ غزوه “للعالم الجديد”، الدين في تحقيق غاياته الاستعمارية وبسط هيمنته على العالم. في هذا السياق تم إستخدام الخطاب الديني ومؤسسته كآلية ايديولوجية في إبادة الآخر ومحو ثقافاته من ناحية، ومن الناحية الثانية بناء الهوية الأميركية ـ البيضاء ـ المسيحية كواحدة من ركائز الرأسمالية الأميركية وطبقتها الحاكمة وآليات عملها. وهنا لا نقصد بالطبع ان الدين كان الركيزة أو الآلية الوحيدة، بل رافقته آليات ووسائل أخرى ومتعددة.
هكذا إستثمر الغرب الرأسمالي الدين في:
أ) تبرير إبادة السكان الاصليين في تلك البلاد على ارضية انهم “غير مسيحيين” و”غير بيض؛
ب) تأبيد فوقية المسيحي الأبيض على الآخر؛
ت) تعميق الاختلافات والفوارق بين البيض وغيرهم من الجماعات الدينية والعِرقية والاثنية.
ووفق مصالح الطبقة المهيمنة وخدمة غاياتها المختلفة وأحياناً متناقضة، وعبر مراحل مختلفة من التاريخ الأميركي، تراوح دور الدين فأحياناً نراه مستخدماً وبفعالية من أجل توحيد الناس والجماعات، وأحياناً أخرى في زرع الفرقة بينهم.
□ ففي الحقبة الكولونيالية، على سبيل المثال، إستخدم الدين للتمييز بين الطوائف المختلفة من المستوطنين المسيحيين (من بيوريتانيين وكاثوليك ومعمدانيين وكويكرز وغيرهم)، كما تم توظيفه لاحقاً في تمييز المسيحيين (ككل جمعي أو جماعة او كتلة سكانية واحدة) عن السكان الاصلانيين غير المسيحيين “الهمجيين” أو السود الأفارقة “الوثنيين”.
□ وفي الجنوب الأميركي كان العبيد السود المتنصرون “متحدين في المسيح” United in Christ مع الأسياد البيض، إلا انه بسبب التمييز والفصل العنصري، كان كل منهم يقيم طقوسه وشعائره الدينية على نحو مختلف وفي كنائس مختلفة ومنفصلة.[10]
تبسيطاً للبحث سوف نقسم هذا الجزء من دراستنا، من حيث الدور الذي لعبه الدين، الى ثلاث حقبات تاريخية:
أ ـ نشأة المستوطنة الأميركية: سيادة الفوقية الأوروبية
ب ـ مرحلة القطيعة مع بريطانيا: بوادر الفوقية الأميركية
ت ـ مرحلة الحسم: تبلور الهوية الأميركية. وسوف نأخذ هذه الحقبة بشيء من التفصيل لما لها من أهمية وتأثيرات بالغة ومستديمة ما زالت ماثلة حتى يومنا هذا.
مرحلة نشأة المستوطنة الأميركية
□ قامت أميركا كمستوطنة اوروبية بيضاء على سواعد مستوطنين رأوا أنفسهم وكأنهم أبناء شعب الله المختار وأصحاب الحق الإلهي في تحقيق النبوءات التوراتية في أرض الميعاد: أميركا. وهكذا أضحى الدين المسيحي وخطابه منذ نشأة هذه المستوطنة عنصراً اساسياً في تمييز المستوطن الأبيض عن السكان الهنود الاصليين ولعب دوراً رئيسياً ومزدوجاً في بناء هوية الأميركي الأبيض وتحديد الآخر والآخرية. فعلى سبيل المثال، يشير مؤرخو الحقبة الكولونيالية في التاريخ الأميركي (انظر الملحق). الى أن المستوطنين المسيحيين البيض في المستعمرات الاولى التي تأسست خلال القرن السابع عشر (مثل فيرجينا وماساتشوستس)، كانوا يرون ان “مهمتهم الوطنية والملحة” تتمثل في تحويل “السكّان الكفرة” (الهنود الاصلانيين) من عبادة الشيطان الى خدمة الله.[11] إذ أن المستوطنون الأوائل إعتبروا انفسهم “بشراً وقديسين في آن واحد”، أما الهنود الأصلانيون فلم تكن لهم آية هوية محددة او مستقلة، بل كانوا، من منظور المستوطنين البيض، مجرد “أدوات” لرب الرجل الابيض.
□ على النقيض من هذا الدور (أي دور الدين في تمييز المستوطن المسيحي الأبيض عن السكان الهنود الاصليين وفي ترسيخ “فوقيتة” على “غير المسيحي” و “غير الأبيض”)، لعب الدين دوراً معاكساً تماماً بين الأمريكيين ـ البيض ـ المسيحيين حيث سعى الى توحيدهم في مواجهة الأعراق الأخرى. فعلى الرغم من إنتماء الأمريكيين ـ البيض ـ المسيحيين الى طوائف مسيحية مختلفة (من بيوريتانيين ومعمدانيين وكويكرز وغيرهم)، فان هذا التنوع لم يحل دون شعور أوائل المستوطنين الاوروبيين بالهوية المشتركة وبأنهم يتسمون بهوية عرقية ودينية واحدة، لأن هذا المشترك يتغَلَب، حسب ظنهم، على الفوارق والاختلافات التي كانت قائمة بينهم آنذاك.
□ بهذا المعنى، شكّل الدين مكوناً حاسماً في “فوقية” المسيحي الأبيض على “غير المسيحي” و”غير الأبيض”، وهي مفاهيم خيمت على المجتمع الأميركي منذ نشأته.
مرحلة الإنفصال عن بريطانيا
مع إحتدام النزاعات السياسية والاقتصادية والطبقية بين المستعمرات الأميركىة من جهة، وبريطانيا العظمى من جهة أخرى خلال القرن الثامن عشر، وتصاعد التوترات وتناقض المصالح بينها، إتخذت الهوية العِرقية للأميركي الأبيض منعطفاَ هاماً ومظهراً جديداً. إذ أن الأميركيين البيض إفترضوا انهم ورثوا أحقية “العِرق الالهي” وأنهم متميزيون عن الانجليزي “القديم والفاسد” بل أكثر تقدماً منه. هكذا شهد انفصال اميركا عن بريطانيا بعداً دينياً وعِرقياً تمثل في ولادة عِرق ابيض ومسيحي “جديد” إن جاز القول: عِرق يشكّل الوريث الذي يحل محل بريطانيا في رفع شأن “الرسالة النبيلة ونشر القيم الانسانية السامية”.
ظلت هذه المعتقدات سائدة الى حين إعلان الاستقلال عن بريطانيا (1776) مما أدى الى ترسخ نظرة الأميركيين البيض الى انفسهم كمجاعة سكانية متجانسة عرقياً من “المسيحيين الانجلو ـ ساكسون”. أما الأعراق الأخرى غير البيضاء فقد كان حضورها وأثرها الاجتماعي والسياسي ضعيفين ولم يشكلان في تلك الآونة تهديداً للهوية المسيحية البيضاء.
[1] Daniel B. Lee, ibid., p. 91.
[2] Daniel B. Lee, ibid., pp.98-99.
[3] Samir Amin, Eurocentrism, pp. 72-73.
[4] جاءت وقائع التاريخ لاحقاً لتثبت ان التوسع الرأسمالي لن يسهم في قيام المجتمعات البشرية وفق النمط الأوروبي. فعلى العكس من ذلك، خلق هذا التوسع المزيد من الإستقطاب حيث تبلور العالم الرأسمالي في مراكز متطورة من جهة، وأطراف عاجزة عن ردم الفجوة الواسعة بينها وبين هذه المراكز واصبح هذا التناقض داخل “الرأسمالية القائمة فعلاً” التناقض الأكبر والأكثر قابلية للإنفجار في زمننا هذا.
[5] تجدر الإشارة، وللأسباب ذاتها، الى أن أميركا لم تنفرد بمثل هذا التاريخ او هذه الإدعاءات لوحدها، بل شابهتها من حيث تحديد الهوية القومية وتعريفها بمفردات ومعانٍ دينية القوى الأوروبية الاخرى التي استوطنت اميركا الوسطى والجنوبية والكاريبي. كذلك لم تنفرد بها المسيحية، بل شاركتها في مثل هذه المفاهيم ديانات اخرى. انظر Henry Goldschmidt, ibid., p. 17.
[6] Samir Amin, idid., p. 75.
[7] والأمثلة على هذا كثيرة عبر التاريخ نذكر منها المؤسسة المسيحية الأوروبية في إحتلال الأراضي العربية المقدسة في فلسطين والنصف الغربي من الكرة الأرضية. ونشير هنا، دون الخروج عن موضوع هذه الدراسة، بان الفاتيكان ما زال يلعب دوراً هاماً في دعم المشروع الإمبريالي الغربي مع إختلاف الآليات والأدوات والسياقات. ونسوق هنا على سبيل المثال لا الحصر دوره في التأمر على البلدان الإشتراكية بدءاُ من بولاندا وإنتهاءاُ بيوغسلافيا. انظر دراسة مسعد عربيد: “الفاتيكان في خدمة رأس المال: البابا بندكت السادس عشر نموذجاً”.
[8] نذكّر هنا، دون الدخول في نقاش السياقات والجذور السياسية والتاريخية، بأوجه التشابه المتعددة بين المستوطنة الأميركية من حيث ولادتها ونشأتها والكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة.
[9] تجدر الملاحظ ان الدين لعب، على نحو مشابه، الدور ذاته في المجتمعات الاخرى التي أقامتها الكولونياليات الاوروبية البيضاء في الاميركيتين الوسطى والجنوبية.
[10] Daniel B. Lee, ibid., p. 85.
[11] Daniel B. Lee, ibid., p. 106.