مركزية الدين في تكوين الهوية الأميركية

(الجزء الثالث والأخير)

مسعد عربيد

(7)

القرن التاسع عشر: زمن الحسم

أشرنا أعلاه الى جذور مفاهيم الأميركي حول العِرق والدين وتداخلهما في تأسيس الهوية الأميركية وترسيخ الفوراق بين الأعراق والأديان: الأبيض المسيحي والآخرين غير البيض وغير المسيحيين، وأن هذه الجذور تعود الى المراحل المبكرة من نشأة أميركا. إلاّ أن تبلور هذه المفاهيم لم يكتمل بوضوح حتى أواخر القرن الثامن عشر، حتى إذا ما حلّ النصف الثاني من القرن التاسع عشر رأينا ان هذه المفاهيم قد إتخذت أشكالها الإجتماعية وتجلت في إصطفافات إجتماعية وطبقية وعِرقية وأصبحت الشكل السائد للهوية الإجتماعية وتراتبية الفئات والطبقات في المجتمع الأميركي.

التغيرات العاصفة وتبلور المفاهيم

مع حلول الحرب الأهلية الاميركية (1849 ـ 1865)، كانت نظرة الأميركيين البيض الى أنفسهم قد إكتملت وتطابقت مع إدعاءات “الأفضلية الإلهية” أي أيثار الله للرجل الأبيض وأحقيته في السلطة وإحتكاره للهيمنة السياسية، وأضحوا يرون أنفسهم، بدون مسائلة أو عناء كبير، على أنهم “شعب الله المختار”، أما سكان البلاد الاصلانيون او السود الأفارقة فلم يكن لهم، اي دور أو حق في الحياة السياسية ولم يشكلوا عاملاً في البنية الاجتماعية، إذ أنهم لم يكونوا “جديرين” بذلك.

إلاّ ان نهاية هذه الحرب والعقود التي عقبتها جلبت تغيرات عميقة شملت تحولات إجتماعية وديمغرافية وطبقية شكلت تحدياً لمفاهيم الأميركي الأبيض حول الدين والعِرق ورؤيته لذاته وجوهر هويته. ويمكننا ان نوجز أهم هذه التغيرات فيما يلي:

أ) حصول الهنود الاصلانيين على حقهم في الحركة والتنقل خارج منعزلاتهم.

ب) إحتلال ما يقارب من 52% من أراضي المكسيك في الحرب المكسيكية ـ الأميركية (1846 ـ 1848) وضم هذه الأراضي وسكانها الى الولايات المتحدة. صحيح ان المكسيكيين كانوا مسيحيي الإيمان والمعتقد، إلا انهم تميزوا ـ على خلاف السود الأفارقة والمهاجرين الأورببين والآسيويين ـ بانهم عانوا من احتلال اراضيهم وتدمير بنى مجتمعهم، لذلك قامت علاقتهم بالأميركي الأبيض على أنه محتل ومستعمِر أجنبي، هذا بالطبع بالإضافة الى أشكال الاضطهاد والتمييز الإستغلال التي عانت منها بقية الأعراق والأقليات غير البيضاء. هنا إذن، في الإحتلال الأميركي لأراضي المكسيك يكمن جوهر التناقض حيث أصبح المكسيكي، صاحب الأرض، بعد عام 1848 دخيلاَ في وطنه.

ت) تحرير العبيد ومحو العبودية وتحريمها في الولايات المتحدة ومنح السود حق الإنتخاب اسوة بالبيض.[1]

ث) شعور فقراء البيض بالإستغلال والإضطهاد الطبقي والإجتماعي الذي عانوا منه اسوة بغيرهم من العمال المهاجرين ومن أعراق وإثنيات اخرى، فاخذوا يستجيبون لدعوات التجمع والتضامن العمالي والنضال المشترك مع جموع البروليتاريا الفقيرة والمعدمة مما أدى الى إحتدام الصراع الطبقي في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر بين البرجوازية الأميركية من جهة، والطبقات العمالية المعدمة البيضاء وغير البيضاء (من مختلف الأعراق والإثنيات والعمال المهاجرين).

ج) وصول مئات الآلاف من المهاجرين الأوربيين المسيحيين البيض (خاصة من الأنكليز الألمان) خلال العقود السابقة من القرن التاسع عشر (1820 ـ 1880)؛

ح) تلت ذلك الموجة الكبيرة الثانية من المهاجرين الوافدين الى اميركا خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع والتي شملت مهاجري اوروبا الجنوبية والشرقية واليهود القادمين من بلدان اوروبا الشرقية إضافة الى المهاجرين غير الأوروبيين وغير البيض وغير المسيحيين والعمال الآسيويين من الصين واليابان.[2]

شكّلت هذه التطورات علامات فارقة في تطور المجتمع الأميركي لأنها هزّت ركائز الهمينة البيضاء وتحدت نظرة الاميركيين البيض لانفسهم وتكوين هويتهم. فبالإضافة الى ما مثله الاميركيون الأصلانيون (الهنود) والسود تاريخياً من تحدٍ إزلي للأميركيين البيض وفوقيتهم بل وإنسانيتهم، جاء إلغاء العبودية[3]، وتدفق ملايين الجماهير الغفيرة من المكسيكيين (في الأراضي المحتلة عام 1848) والمهاجرين الجدد (“الغرباء” aliens) القادمين من شتى أنحاء العالم ليشكّل تحديات إضافية للأميركيين البيض على الأصعدة العِرقية والدينية والإجتماعية والإثنية والطبقية. وللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة يقوم هؤلاء “الآخرون” بتحدي الهيمنة الطبقية والعِرقية والدينية/الثقافية للمسيحيين البيض الأنجلو ـ ساكسونيين.

الأميركي الأبيض امام المرآة

شكلت هذه التطورات العميقة تحديات كبيرة للأميركي الأبيض وأذنت بتغييرات دقت ناقوس الخطر مما فرض عليه التعامل معها ببراغماتية ومرونة وديناميكية على الرغم مما إحتشد في وعيه من الفرضيات والإدعاءات الدينية التي كانت تنضح بالغيبية والإستعلائية على الأديان والأعراق الأخرى. في مواجهة هذه التحديات الجسيمة لمفاهيم الهوية والإنتماء عند الأميركين البيض، لم يتبقى أمامهم سوى حسم أمرهم.

أ) ترسيخ فوقية المسيحي الأبيض

أدرك الأميركيون البيض، بعد أن هدأت جبهات الحرب الاهلية الأميركية، انه لزام عليهم ان يميزوا انفسهم عن “اللابيض” (غير البيض)، منطلقين من الفرضية بان غير البيض ليسوا مسيحيين.[4] وعليه يمكننا القول بان الاطروحات التي سادت تلك الحقبة الفيكتورية من تاريخ أميركا وهيمنت على خطابها والتي جسدت نظرة الأميركيين البيض الى ذاتهم وهويتهم والآخر، هذه الاطروحات تمحورت حول فكرتين مركزتين جمعتا بين فوقية الأبيض ورسالة التبشير بالمسيحية:

إن الأميركيين البيض المسيحيين يتطورون، عرقياً ودينياً، على قدر ومستوى يفوق الآخرين، وأنهم لا يتوانون عن جمع طاقاتهم وبذل جهودهم ومتابعة مسيرتهم نحو الإزدهار والتقدم، في حين تتراخى الأعراق الأخرى ويصيبها الركود والخمول.

وبناءاُ عليه، إفترض الأميركيون البيض أن دربهم في الخلاص يكون من خلال تنصير غير ـ المسيحيين لانه عبر “التناغم بين الانسان وربه، يصبح الناس من كافة الأعراق اميركيين بيض اصليين”، أي أن الأعراق والجنسيات غير البيضاء المسيحية إذا ما إعتنقت المسيحية، فانه يصبح بمقدورها أن تنصهر في “الحضارة الانجلو ـ ساكسونية”.

على هذه المفاهيم أرسى الأميركيون البيض أسس مشروعهم وإنطلقوا بالعمل على تحقيقه باسم “ربهم” وبإيعاز من وحي “مشيئتة” وإنصياعاً لاراداته.[5]

ب) المسيحي مقابل غير المسيحي

قسَّم الأميركيون البيض مجتمعهم، إذن، على أساس الدين الى مجموعتين ديمغرافيتين ـ دينيتين متميزيتين: المسيحيين وغير المسيحيين. وقد لاقى هذا التقسيم التقبل والترحيب في ذهنية البيض وأضفى المزيد من الزخم على مشروعهم “الرباني” إذ منحهم دوراً هاماً في رسم العلاقات بين هاتين المجموعتين وأوكل اليهم “المهمة الملحة” المتمثلة في دمج الأعراق الغريبة (الأجنبية) في بوتقة الكيان الأميركي. وربما نستطيع ان نتلمس في هذه الفترة المفصلية جذور الفكر الانجيلي evangelism الذي يدعو الى حملات التبشير بالمسيحية التي لازمت التاريخ الأميركي منذ ذلك الحين وسُخرت في خدمة سياسات ومخططات الرأسمالية والإمبريالية الأميركية

ت) الحفاظ على الذات: تكاتف المسيحيين البيض

في مواجهة هذه التحديات ومن أجل الحفاظ على فوقيتهم الأوروبية البيضاء (العرق السيد Master Race)، لجأ الأميركيون المسيحيون البيض الى مشروع مزدوج الهدف مستخدمين الدين كأرضية “للمشترك” الجامع بين الأعراق وذلك من أجل:

(1) الحفاظ على وحدتهم الدينية والعِرقية وهيمنة فوقيتهم الأوروبية البيضاء، مما إستدعى التكاتف فيما بينهم على أرضية الدين المسيحي كأساس مشترك وجامع في محاولتهم لتنظيم انفسهم إزاء الجماعات غير المسيحية وغير البيضاء التي أخذ حضورها وتعدادها يزداد آنذاك على نحو إضطرادي؛

(2) وإجتذاب غير البيض الى إعتناق المسيحية، إذ إعتقد كثيرون من الأميركيين البيض ان الدين يجب ان يكون أيضاً المفهوم المشترك والجامع بينهم وبين الآخرين من الأعراق والأجناس التي تعيش على التراب الأميركي. فالمسيحية، وفق عقيدتهم، قادرة بشموليتها على تجاوز الحدود الجغرافية والإثنية والأوطان الأصلية التي قدم منها هؤلاء المهاجرون.

ث) الحل: تنصير غير المسيحيين

كان إعتناق المسيحية هو الطريق “المنطقي والوحيد” الى تكاثر المسيحيين عبر تنصير الجماهير الفقيرة والمعدَمة من “الغرباء” المهاجرين القادمين من أرجاء المعمورة الى بلاد “الحليب والعسل” Land of milk and honey. ومع أن هذه المعتقدات والفرضيات كانت قد تنامت منذ سنوات الحرب بين بريطانيا والولايات المتحدة في أواخر القرن الثامن عشر وبدايات التاسع عشر، إلا أنها إزدادت ترسخاً بتوافقها مع الإغراض السياسية الإجتماعية والطبقية لتحالف الرأسمالية الحاكمة مع المؤسسة الدينية.

التحديات وتبلور الخطاب الديني

كيف إستخدم الأميركيون البيض الدين في صياغة وتطوير هويتهم العرقية في خضم تلك الأحداث والتغيرات الكبيرة التي إجتاحت القرن التاسع عشر؟

كان من الطبيعي أن تستدعي مهمة كهذه التأسيس لخطاب ديني، وهو ما أدرك الأميركيون البيض انهم بحاجة اليه: خطاب قادر على أدلجة سياساتهم وخدمة غاياتهم وتبرير أفعالهم ومقولاتهم يقوم على الركائز التالية:

(1) تعزيز الفوقية الأوروبية وهيمنتها موظفاً الدين وإدعاءاته، بغية ترسيخ نظرة الأميركيين البيض المسيحيين الى انفسهم ك”عِرق” مستقل ومن أجل بناء هوية أميركية على هذا الأساس. هذا من ناحية.

(2) ومن الناحية الثانية، كان المطلوب من هذا الخطاب أن يسعى الى ترسيخ وتبرير الفوارق المزعومة بين الأميركيين البيض المسيحيين وغيرهم من الأعراق والأجناس والأديان؛

(3) وتتويجاً لهذه المساعي، يجب على هذا الخطاب أن يدعو الى التبشير بالمسيحية بغية تنصير غير ـ المسيحيين وجلبهم الى حظيرة المسيحية.

في حبائل هذا “المنطق” المشوه، وإن لم يفتقر الى الخبث، زعم مسيحيو أمريكا البيض: أنه إذا كان إله البيض (إله العِرق الأبيض) هو ذاته رب الشعوب كلها، بما فيها تلك التي لم تكن تدرك ذلك، واذا كان هذا الإله قادراً على كل شيء وعلى تقديم الحلول لكافة المشاكل، فلا بد إذن من العمل على نشر المسيحية بين كافة المهاجرين القادمين الى أميركا بما فيهم غير البيض.

من الواضح ان هذا الخطاب أبقى على فوقية وهيمنة المسيحيين البيض وبعث فيهم الأمل في توسيع “قاعدتهم الديمغرافية” بضم “الآخرين” من جموع السود وفقراء البيض والهنود الاميركيين والمهاجرين من شتى أنحاء العالم الى المسيحية والحظيرة الأنجلو ـ ساكسونية. وفي بحثهم المحموم عن “الرسالة الربانية”، جسّدت هذه الفكرة، من منظور الأميركيين البيض، مشروعاً “سماوياً” شكل بلا ريب قوة دافعة وعاملاً جامعاً وموحداً لهم. أما رجال الدين والمؤسسة الدينية (كنائس وجمعيات ومنظمات مسيحية… وغيرها)، فقد ساندوا هذا المشروع التبشيري وقاموا بتنظيم حملات التنصير والتي لم تتوقف منذ ذلك الحين ولم تقتصر على أميركا ومَن حطَّ رحاله فيها من مهاجرين جدد فحسب، بل غزت لاحقاً كافة بقاع العالم وما فتأت مستمرة حتى يومنا هذا.

تلاقي المصالح في خطاب غيبي وعنصري

عبّر هذا الخطاب عن تلاقي المصالح بين الفوقية البيضاء من جهة، والتبشير بالمسيحية من جهة اخرى، ونجح في تعليب مقولاته ك”رسالة عظيمة” شكلت لدى الأميركيين البيض قوة دافعة في سعيهم نحو ضالتهم المنشودة. إلا ان ما يهمنا الإشارة اليه هو أن هذا الخطاب بقي تحت مظلة الهيمنة الطبقية الرأسمالية وفي خدمة أهدافها.

بالرغم من أن الأميركي المسيحي الأبيض وقع في خطابه هذه فريسة أوهام مُختلقة، إلا ان هذا لا يقلل من تداعيات هذا الخطاب وآثاره بعيدة المدى على الهوية الأميركية. وسوف أسوق فيما يلي وهيمن رئيسيين أعتقد أنهما ما زالا حاضرَيْن في المشهد الأميركي وهامان في فهم علاقة أميركا بالعالم:

1) الأول، قناعة الأميركيين البيض التي لا يشوبها الشك بإن الله قد منحهم هوية جامعة وتاريخاً مشتركاً ورسالة سامية في رسم معالم المستقبل، مستقبلهم ومستقل العالم باسره،One Nation under God. ولعل أهمية وراهنية هذا المعتقد تكمن في انه يشكل الأساس لإدعاء اميركا البيضاء بانها “البطل الحامي” للمسيحية و”المدافع” عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحضارة في العالم.

2) والثاني، أن الأميركيين البيض مقتنعون بانهم “يعرفون” الآخر (الأعراق والأديان الأخرى) ويفهمون هويته وتاريخه ومستقبله. وقد غمرتهم نشوة تلك “المعرفة” وحدت بهم الرغبة في إخضاع الآخرين ونهب مواردهم وتكوين الأعراق على “صورتهم ومثالهم”. وفي مسعاهم هذا، إفترض الأميركيون البيض أنهم يمتلكون القوة والقدرة على تحقيقه، كما إفترضوا، وفق رؤيتهم هذه، أن مصير الشعوب والأعراق “لا بد وان يتتبع خطى الانجلو ـ ساكسونيين”.

هكذا تأسس خطاب لا يمكن أن يكون إلاّ خطاباً موغلاً في غيبيته وعنصريته وشوفينيته، وقد توفر له العديد من الأليات الأيديولوجية والبروباغندية وأثرته الكثير من الأعمال والنصوص الأدبية والفنية (مقالات وتقارير صحفية وكتب وروايات وقصص ووعظات دينية وكتابات ثيولوجية وغيرها) [6] إرتكزت في مجملها على أفكار وعناصر ومكونات خطابية عديدة بهدف تعزيز مفاهيم غيبية نورد فيما يلي عينية منها:

ـ تفوق العِرق الانجلو ـ ساكسوني على غيره من الأعراق.

ـ تفوق المسيحي على غير المسيحي.

ـ تفوق المسيحي الابيض على المسيحيين الآخرين من الأعراق غير البيضاء.

ـ “المستقبل الباهر والمصير العظيم” للعرق الانجلو ـ ساكسوني في اميركا.

ـ دور المسيحية ورسالتها في رسم مصائر المجتمعات في اميركا وفي العالم باسره.

ـ الاخطار الناجمة عن عدم إندماج المهاجرين في البوتقة الأميركية.

ـ التهديد الذي تمثله راديكالية الطبقة العاملة وخاصة العمال الملونين (غير البيض).

نختم هذا الجزء بالقول بان نهاية القرن التاسع عشر شهدت تفاقم التباينات والتناقضات، سواء داخل العِرق الأبيض الواحد أو بين البيض من جهة والأعراق غير البيضاء من جهة أخرى. إلاّ أن هذه التناقضات، وهو ما لا يجب ان يغيب عن بالنا، لم تحل دون تحقيق بعض “الإنجازات” للبيض الأميركيين ودون شعورهم بالقدرة الدائمة على إجتياز المصاعب والبقاء في موقع المنتصر:

تمكن الأميركيون البيض خلال هذا القرن من توحيد خطابهم العرقي والديني الذي رسم صورتهم عن انفسهم وهويتهم من خلال طروحاته ونصوصه وكتاباته الدينية والعِرقية، وفي المقابل أن يصيغوا خطاباً عنصرياً “تمييزياً” يفصل بينهم وبين الأديان والأعراق الأخرى.

إستطاعوا ان يحافظوا على طرح أنفسهم كعِرق متميز “ومتفوق” وكنتاج لمجتمع اميركي أبيض بفضل ما حظوا به من سطوة سياسية واقتصادية إضافة الى تغلغل خطابهم العنصري في كافة جوانب الحياة الاسرية والاجتماعية.

كما كان من حصيلة هذه التحولات والتطورات أن ترسخ إعتقاد البيض الاميركيين “بالمهمة العظيمة” والرسالة السامية المنوطة بهم: التبشير ب”أنجلة” أميركا Evangelization of America، أي تعميم الدعوة المسيحية بين المهاجرين الجدد ودمجهم في الكنائس والتنظيمات والانشطة التبشيرية المسيحية، وهو ظاهرة ما زالت حاضرة بفوة في المجتمع الأميركي اليوم.

(8)

جدلية العِرق والدين في تكوين الذهنية الفوقية الأميركية

تبلور مفهوم العِرق في أميركا، كما أشرنا في أكثر من مكان، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إلا انه أصبح، خلال القرن التاسع عشر، طاغياً على مفاهيم الهوية والإنتماء بين الأميركيين بفضل مكانتة الايديولوجية في الثقافة السائدة، الى درجة أن أغلبية الأميركين كانت تعتقد بان موقعها العِرقي (كما تحدده الملامح البيولوجية) هو العامل الرئيسي في صياغة هويتها.

ولكن على الرغم من أن وقائع التاريخ تؤكد على سطوة العِرق، إلا ان هذا يثير إشكاليتين هامتين نرى انهما جديرتان بالمناقشة:

(1) الأولى: هل كان العِرق هو الذي حسم أمر الهوية الأميركية أم هي الهيمنة العِرقية وتمفصلاتها الطبقية مع الهيمنة البيضاء؟

والفرق بين الإثنين واضح إذ أن العِرق يقوم على فوارق بيولوجية معينة، في حين ان الهيمنة العِرقية متجذرة في الظروف المادية للمجتمع والإقتصاد والطبقة والسلطة ومن هذه كلها تستمد مصادر قوتها تأثيرها وإستدامتها. ومن هنا نرى ان الهيمنة العِرقية والعنصرية المأسسة تتجسدان موضوعياً وفعلياً في الممارسات العنصرية والتمييزية في مختلف جوانب الحياة والسياسة والمجتمع.

(2) أما الثانية فهي: هل كان العِرق مكوناً مستقلاً في تكوين الهوية الأميركية، وهل لعب دوره بمعزل عن الدين (المسيحية الأوروبية) ومؤثراته؟

الواقع أن هيمنة العِرق لم تقم لأن العِرق أزاح العوامل او المكونات الاخرى للهوية وحلّ محلها أو لانه محى آثارها. فالعِرق على سبيل المثال لم يلغي الدين في أميركا (كمجتمع مُعَرقن[7])، بل ان الخطاب العِرقي في ذلك البلد قام على دمج الفوارق البيولوجية بين الأعراق المختلفة من جهة، مع الدين والإثنية والطبقة واللغة والنظم القيمية وغيرها من جهة اخرى، ومنح هذه دلالات ومعانٍ وقيم مُعَرقنة وضمّنها في نُظُم تراتبية للطبقات والفئات الإجتماعية. إضافة الى أن هذه الفوارق لم تكن جديدة بل كانت قائمة سابقاً بين الناس، أما الخطاب فقد قام العِرقي بترسيخها وإعلاء أهميتها وموقعها في الهوية الانسانية.

لسنا إذن في معرض التقليل من أهمية العِرق في أميركا، ولا التنكر لسطوته على الفوارق وبالأخص الطبقية والإقتصادية والإجتماعية، إلاّ ان العِرق لم يحل مكان  الفوارق والعوامل الآخرى ولم يمحو آثارها كما رأينا في حالة الدين، بل تحالف معه في ترسيخ هيمنة الأبيض وحماية المصالح الطبقية لأغنياء أميركا الرأسماليين. فالحقيقة ان الحضور الدائم لهذه الفوارق (التي كانت قائمة سابقاً) في الخطاب العِرقي وإندماجها معه، كان وما زال عنصراً اساسياً وجوهرياً في تثبيت موقع العِرق ك”كعامل رئيسي في تحديد الهوية الانسانية” في أميركا.[8]

(9)

إستنتاجات

قام الكيان الإستيطاني الأوروبي الأبيض في أميركا الشمالية على إحتلال تلك البلاد الشاسعة والغنية وإستيطانها بالقوة وإبادة الملايين من السكان الأصلانيين إبادة جسدية وثقافية. وعلى أنقاض ديانات وثقافات السكان الأصلانيين فُرضت ديانة المستوطنين الأوروبيين ــ المسيحية الغربية ــ عنوة على الكيان الناشىء وأخذت منذ تلك الآونة تشكل بذور وعي الأميركي وهويته. وبالاضافة الى فرض المسيحية الأوروبية عنوة، أحضر المحتلون الأوروبيون البيض القادمين من مجتمعات اوروبا الإقطاعية الفوقية الأوروبية في أبعادها العِرقية والدينية والثقافية وأشكال العنصرية والتراتبية الطبقية والإجتماعية والإقتصادية التي كانت سائدة في تلك المجتمعات.

تشير قراءة التطور الإجتماعي والتاريخي لأميركا الى ان الدين (المؤسسة والخطاب والمفاهيم الدينية والإدعاءات التوراتية) قد لعب دوراً مركزياً في تكوين الهوية الأميركية بابعادها العِرقية والدينية والثقافية والقومية والتي تقوم أساساً على ترسيخ الفوقية المسيحية البيضاء ودونية الآخر.

مع حلول النصف الثاني من القرن التاسع العشر وفي سياق التغيرات الديمغرافية والطبقية والإجتماعية ومواجهة التحديات الجسيمة بلور الأميركيون البيض هويتهم عِرقياً ودينياً وقوميا. ولم تكن مصادفة أن تتزامن هذه التطورات مع التطور الإقتصادي والتقدم الصناعي والتكنولوجي الذي أحرزته أميركا في إطار نمط الإنتاج الرأسمالي، ومع ظهور بوادر النزوع نحو التوسع الإمبريالي الذي شهد أولى صداماته العسكرية في الحرب مع إسبانيا (الحرب الإسبانية ــ الأميركية عام 1898)، وهو ما فتح على مرحلة الإمبريالية الأميركية المستمرة حتى يومنا.

عبر مختلف حقبات التاريخ الأميركي تم إستخدام الدين كأداة أيديولوجية في بناء الهوية الأميركية عِرقياً وإجتماعياً وقومياً، وفي تحقيق أغراض ومصالح سياسية وأيديولوجية أخرى: تعزيز سيطرة الطبقة الرأسمالية الحاكمة على مقاليد الحكم وحماية مصالحها الطبقية والإجتماعية والإقتصادية وترسيخ النظام الرأسمالي وعولمة أجندة الإمبريالية الأميركية على النحو الذي نشهده اليوم. ومن هذا المنظور، فان قراءة دور الدين وخطابه في تشكيل الهوية والحياة الأميركية بشكل عام، تعيننا على فهم الخطاب الديني وضورة نقده وهو ما يستدعي إزالة عدة طبقات من المزاعم والإدعاءات الكاذبة:

ــ إزالة الغلاف العلماني عن أميركا، سياسياً وإجتماعياً وثقافياً؛ وتفكيك الترابط الوثيق بين الخطاب الديني من جهة، والخطاب الاجتماعي والسياسي والثقافي السائد من جهة أخرى؛

ــ تعرية تلفيقات الدعاية والبروباغندا الأميركية التي ملأت الدنيا وألبست أميركا لبوس العلمانية والديمقراطية والحضارة والحداثة؛

ــ كشف تأثيرات هذه الإدعاءات وتفنيد الأكاذيب حول الصورة التي رسمتها أميركا لنفسها لدى شعبها والعالم باسره.

* * *

لقد حاولت في هذه الدراسة تفكيك دور الدين في تكوين الهوية الأميركية وتجليسه ضمن البنية الإجتماعية ـ الطبقية والأيديولوجية للرأسمالية الأميركية، وذلك من خلال قراءة الأوضاع الإجتماعية والتاريخية في الولايات المتحدة بهدف إظهار تقاطع الدين وترابطه مع الهوية الأميركية. ولا يساورني الشك، إذ أقدم هذه المساهمة المتواضعة، بان هناك العديد من الجوانب المتصلة بهذا البحث التي لم يتسع لي المجال لمعالجتها، كما أنني متيقن من ان هناك اكثر من نهج للإقتراب من موضوع الدين والخطاب الديني كأحد مكونات الهوية وكعامل إجتماعي سواء في الحالة الأميركية او غيرها. وقد يخالفني كثيرون في الرأي ونهج التحليل، إلا انه يحدوني الأمل بان تكون هذه الدراسة حافزاً على المزيد من الحوار والمشاركة.

اختتم بالقول أن هذا البحث يكون قد أخفق في مهمته والوصول الى غايته المنشودة وإكتمال معانيه، إلا إذا تأسس على الإدراك الواعي بان أميركا اليوم هي مشروع رأسمالي وإمبريالي، وهكذا كانت منذ نشأتها ككيان إحتلالي إبادي إستيطاني أوروبي أبيض حمل معه بذور نموه وتطوه الرأسمالي وإنفلاته المتوحش نحو التوسع والهيمنة الإمبريالية على العالم باسره.

ملحق

أهم مراحل التاريخ الأميركي

ــ الفترة الكولونياية: بدأت مع وصول المستوطنين الاوروبين البيض الى اميركا الشمالية وإمتدت الى حين إعلانهم استقلال المستعمرات الثلاث عشر والإنفصال عن بريطانيا عام 1776.

ــ تشير حقبة “إعادة البناء” في التاريخ الاميركي Reconstruction Era بشكل عام الى مرحلة إعادة بناء الدولة التي تلت الحرب الاهلية الاميركية وتمتد بين عامي 1865 و1877.

ــ الحقبة الفكتورية: سُميت بالفكتورية من تاريخ اميركا وبريطانيا نسبة الى ملكة بريطانيا فيكتوريا 1819 ـ 1901 وقد إمتدت هذه الحقبة بين عامي 1837 و 1901 وإتسمت بالعديد من التطورات الاجتماعية والدينية والفلسفية ليس أقلها تأثيراً ظهور الشيوعية والمادية والداروينية وغيرها من المدارس الفكرية والفلسفية الناقدة للفكر الديني المسيحي المهيمن آنذاك.

بعض المراجع الهامة:

1) Rodolfo Acuna, Occupied America: The Chicano’s Struggle Toward Liberation, Canfiled Press, San Gransisco, USA, 1972.

2) Samir Amin, Eurocentrism, Monthly Review Press, New York, 1989.

3) Talal Asad, Chapter 8: The Construction of religion as an Anthropological Category (pp. 114-132). In the book: Michael Lambek, edit.: “A Reader in the Anthropology of Religion”, USA and UK, 2003.

4) Henry Goldschmidt and Elizabeth McAlister, ed. Race, Nation and Religion in the Americas, Oxford University Press, Oxford – New York, 2004.

5) Michael Omi and Howard Winant, Racial formation in the United States: From the 1960s to the 1990s, Psychology Press, USA 1994.

5) منير العكش، أميركا والإبادات الثقافية، رياض الريس للنشر، بيروت ـ لبنان، 2009.

6) منير العكش، تلمود العم سام: الأساطير العبرية التي تأسست عليها أميركا، رياض الريس للنشر، بيروت ـ لبنان، 2004.

7) مسعد عربيد، دراسات ذات صلة:

(نشرت في فصلية “كنعان” التي تصدر في فلسطين المحتلة وفي بعض المواقع الألكترونية)

ــ العُنْصرية في اميركا: جدلية بَياض البَشْرة والعِرق والطبقة

ــ الفاتيكان في خدمة رأس المال: البابا بندكت السادس عشر نموذجاً

ــ التوظيف السياسي للدين: الولايات المتحدة نموذجاً

ــ الديمقراطية الاميركية: أسطورة الزمن المعاصر (قراءة الكذبة من خلال الوثائق الاساسية)

ــ نشأة الرأسمالية الاميركية ومحو الآخر (قراءة في العدو الرئيسي وما يجب ان يعرفه كل عربي)


[1] بقيت هذه الحقوق “حبراً على ورق” رغم إقرارها “دستورياً” حتى حقبة النضال من أجل الحريات المدنية في ستينيات القرن المنصرم وما زالت موضوع جدل حاد في مجتمع يسوده الإستقطاب العنصري والطبقي.

[2] بلغ عدد المهاجرين الى أميركا بين عامي 1820 و1910 ما يقارب ثمانية وعشرين مليوناً، أي أن نسبة المهاجرين بلغت حوالي الثلث (33 %) من مجمل زيادة عدد سكان الولايات المتحدة في تلك الفترة. وقد شملت موجات الهجرة هذه مئات الآلاف من المهاجرين الجدد الذين قدموا من أصول اوروبية بيضاء (اوروبا الغربية والشرقية والجنوبية) واسيوية (الصين مثالاً) وغيرها من بقاع العالم. المصدر:

Statistical Review of Immigration 1820-1910. US Senate Documents, Vol. 20, December 5, 1910 – March 4, 1910. URL for this document is located at:

http://www.latinamericanstudies.org/immigration/immigration_1820-1903.pdf

[3] أصدر الرئيس الأميركي إبراهام لينكولن إعلان تحرير العبيد وإلغاء العبودية عام 1863، وفي عام 1865 تم إدخال إقرار التعديل الدستوري رقم 13 والذي حرّم العبودية في كافة أنحاء البلاد.

[4] كانت أغلبية السود الأميركيين في تلك الآونة قد تنصرت، إلا ان الأميركيين البيض ظلوا، بالرغم من ذلك، يهزؤون من طرائقهم في التعبد وممارستهم لشعائرهم الدينية.

[5] Daniel B. Lee, ibid., pp. 106-107.

[6] للاطلاع على عينة من هذه الكتابات والنصوص النادرة والمغرقة في عنصريتها والتي تسلط الضوء على مدى عنصرية الخطاب الديني والعِرقي وإحتكامه للتمييز والفصل بين الأميركيين البيض وغيرهم من الأعراق غير البيضاء حتى بعد أن إعتنقت المسيحية، انظر

Daniel B. Lee, ibid. pp. 85-110.

[7] المقصود بمصطلح “العَرقَنة racialization بشكل عام هو فرض طابع عِرقي على سياق أو خطاب ما، وان يستوعب المرء أو تتلقى او تستدخل تجربة معينة من منظور وبفهم عِرقي. ولعل أهم ما يتضمنه هذا المصطلح هو فكرة العرق كمبنى إجتماعي والذي هو في الحقيقة جوهر عملية العَرقَنة وهو الذي يؤول الى أفكار ومفاهيم وممارسات عُنْصرية وتمييز عنصري عندما يتشرب بالافكار والمواقف السلبية حيال الآخر والمعادية له وإلصاق صفة الدونية به.

انظر مسعد عربيد في: “العُنْصرية في اميركا: جدلية بَياض البَشْرة والعِرق والطبقة”.

[8] Henry Goldschmidt, ibid., pp. 3-31.