ألصمت كلام العجز

لأخي د.عادل سمارة

لأخي د. مسعد عربيد

بقلم أحمد حسين

اشكرك على رسالتك اللطيفة، ونبل اهتمامك بي. وفي الحقيقة أنني توقفت عن الكتابة لأنني أحتاج لمن يشرح لي أسرار المشهد الدائر في المشاعة الهجرية. فكيف أحاول شرحه لغيري وأنا نفسي عاجز عن فهمه؟ إن محاورة ظواهر المشهد بالشجب، هي انغماس في خدمة خفاياه وتكريس أهدافه، لآنه مشهد يجري برمته خارج منطق العقل والوعي العادي. نحن ضحاياه بشهادة دمنا المسفوك، ونحن أيضا أداته في التنفيذ، بشهادة الربيع العربي. فما هو منهج العقل الذي يمكن استعماله لوعي مشهد صهيومريكي ودولي، لا يعترف بسيادة المنطق العقلي أو الإنساني أو الحضاري على مشروعه في المشاعة الهجرية، وشعب ما بالمقابل يتطوع بدمه ووطنه وإنسانيته ضحية إيجابية لرغبات أعدائه؟

هذا هو المشهد القادم إلينا من الغرب الصهيومريكي. وهو مشهد تهجيناه في التجربة، عبر سلسلة من الإعتداءات والمذابح وحظر التنمية ونهب الجغرافيا والتاريخ والتنكيل المنهجي بكرامة الإنسان العربي وإنسانيته ووعيه وسيكيولوجيته بوحشية فاقت قدرته على المقاومة، ونجحت في تحويله إلى بنية مشوشة، وعديمة الإرادة. وعاجزة حتى عن التساؤل.

ولا يهم لماذا أراد الغرب الصهيوني ذلك، فهذا كلام يطول. ألمهم أن سياق المداهمة التصفوية الحالية للوجود العربي، تجري بإشهار علني واضح على يد مرتكبيها، ليتساند الشكل المذل للأداء مع المضمون التصفوي، ويحققا معا هدف التفريغ الشامل للحركة الذاتية، في المشاعة الهجرية. وقد تحقق هذا الهدف إلى درجة تتاخم الكمال، ولم يعد من الممكن في اعتقادي فعل أي شيء بهذا الشأن من جانبنا.

لقد أثبت الربيع العربي، خلو فضاء المشاعة العربية من أية قابلية أو مؤهل للحركة الذاتية. كل ما هو موجود في هذا الفضاء هوعينة بشرية صممت تاريخيا لتكون قابلة للتحريك من جانب ادأعدائها فقط. عينة لا تكون شعبا، أو حتى مشروعا لتكوين ومجتمع متماسك، تعيش خارج أي التزام جمعي أو هوية ثقافية أو انتماء أو مشروع معرفي. ترتبط بوعائية الموقع الجغرافي كحاوية حيادية للتواجد، وبالمجتمع كسوق لتبادل الخبز بالخبز. عينة ليس لها معقول وجودي محدد سوى اعتقادها الجازم بأن التبعية والتراتب هي جوهر الحياة. وأن الحرية مطلب أنوي داخل لعبة الإستبداد، يتحقق بخضوع الفرد لمن فوقه، واضطهاد من تحته. هذا التوازن المدهش مع العبودية، هو مبرر بقاء هذه العينة الوحيد، كخامة لوجستية لوجود الآخر. وهذا المبرر الوظيفي يكفي الأخر مصلحيا، ولكنه لا يلزمه بأية علاقة سياسية محددة في التعامل مع عينة كهذه، ترى في التبعية للآخر شرطا للأمان، وتعتقد إن الإنتهاك شر لا بد منه، لأنه حق من حقوق السيادة. ولا يمكن للعقل أن يتريث موضوعيا لمناقشة هذا الكلام، لأن يقين الواقعة ليس بحاجة لاعتراف العقل.

أي نوع نوع من الإذلال والتنكيل المادي والإنتهاك والمعنوي والسيكيولوجي لم يمارسه العالم المعاصر علينا في حدوده الشاذة؟ هل مارست الصهيومريكية علينا سياقات من القهر والعبث بإنسانيتنا، يمكن القول بأن لها سابقة في التاريخ من حيث الشكل أو المضمون؟ المجتمع الدولي أصبح يرى في التنكيل بنا، شاهدا على التقدمية والحرص على حقوق الإنسان وحضارة البشر. أصبح اضطهادنا وشجبنا وتهميجنا في وعي نخب المرحلة، دليل براءة من العنصرية، وفضيلة سياسية. من الذي ظل في هذا العالم لم يرمنا بإهانة أو رصاصة أو حجر؟ ألم تسلح كونداليسا رايس على رؤوسنا شعوبا وأوطانا وحضارة حينما قالت في إسرائيل أن فزع طفل يهودي واحد من أصوات القصف، أهم من دم ألف طفل عربي حرقهم النابالم والفوسفور الأبيض، ثم تابعت جولتها في المشاعة الهجرية وسط الترحيب، دون أن يرتفع ضدها صوت واحد؟ فماذا يريد الكلام من أمة ليس فيها محتج او غاضب واحد يرفع صوته ضد هذا التسليع المتدني لإنسانيته وإنسانية شعبه؟ لماذا نجد عشرات بل مئات الأدباء والمثقفين يملآون الدنيا عواء في تمجيد الربيع العربي وجرائمه المبتكرة ضد شعبهم، ويستصرخون أمريكا والمجتمع الدولي ومجلس الأمن ويطالبونهم بغزو سوريا دفاعا عن “حرية الشعب السوري وكرامته ” من الأسد، بينما عدمت الساحات أديبا أو مثقفا عربيا واحدا، يعاتب تلك المسخة البيولوجية على امتهانها العنصري للعرب؟ أليس هذا وضعا سورياليا يوحي بأن الهجري يحترم ” شرف ” رايس أكثر مما يحترم ” شرفه “؟ فعن أي شيء ندافع إذن

أخي عادل

أخي مسعد

لولا حلقة الخلاص المفقودة، التي كشف عنها الربيع العربي، لظللنا نستعمل ليت ولعل وربما , في مقاربة وضعنا. ولكن يبدو أن الصهيومريكية، وجدت أن الساعة قد حانت لإغلاق ملف التوهمات لدى من تبقى من مهووسي المشاعة المزمنة، فقررت صعقهم بالصدمة التي كانت تعد لها. كانت مقدمات الربيع العربي تتراكم من حولنا دون أن يحس بها عقلنا. كنا منشغلين بانتظار ثورة قومية، فدوهمنا من الخلف بثورة قرداتية. وظهر أننا لم نكن نعرف ما تحت جلودنا. هجسنا بعبد الناصر فجاءتنا الصهيومريكية بطنطاوي. وعبد البديع،والغنوشي، وعبد الجليل. حلمنا بنهضة ثقافية قومية، فطلع لنا برهان غليون، وهيثم مناع، وعزمي بشارة، وبطن العجل. حلمنا بتحرر المرأة الماجدة الصاعدة القائدة التي تقود التنمية المعنوية والمادية إلى جانب الرجل، فداهمنا الربيع العربي بكتائب من ليبراليي وليبراليات السي آي أي الذين لا يجتمعون إلا للمضاجعة أو تأجير المواهب الخاصة لآمريكا أو شتمنا. ووجدنا أنفسنا نقوم بدورالجلاد والضحية في مذبحة الخلاص الذاتي لأمريكا وللعولمة المترنحة. بأيدينا وسلاح أمريكا نقوم الآن بتصفية ما ومن تريد الصهيومريكية تصفيته. لم يعد لدينا بعد الناصرية والصدامية والقذافية، سوى بؤرة شرف قومي واحدة هي سوريا. ولكننا احتفظنا بأدوات التمني، إلى أن كشفت لنا صدمة الربيع العربي، أنه لم يعد حولنا سوى الخراب. أوطان محتلة ومنتهكة بأصحابها، ليس فيها إلا الموتى والعمي والعملاء. ولولا صدمة الربيع العربي المباركة لم نكتشف ذلك. لم نكتشف أن شعوبنا الهجرية قد تجاوزت الخطوط الحمراء التي يسمح بها التاريخ للتخلف وشذوذ الوعي الوجودي. وأن تلك الشعوب قد غادرت أي احتمال من احتمالات المصير الحي. اكتشفنا أن الإغتراب الذاتي قد وصل حدود التنازل عن الإنتماء أحيانا بدون ثمن سوى الإحساس بعبثية الإنتماء إلى أمة فاشلة لفظت المعقول في حركتها فلفظها التاريخ. فالحي البيولوجي يظل حيا في كتب المعرفة ما دام يترك بصماته على البيئة البيولوجية بما فيها بيولوجية البشر. فكيف بالبشر أنفسهم؟ هل يعتبر حيا في البيئة الإنسانية من لا يمارس إنسانيته إلا في حدودها البيولوجية؟ ألإنسانية في جوهرها هي بيئة الوجود المعنوي. وهي نهائية التطور البيولوجي وقفزة البشر النوعية من بيئة الإنسياق الغريزي إلى بيئة الوعي. هذا هو شرط الوجود الإنساني…. وعي الوجود. وهو وعي لا يمكن تأجيله إلى ما بعد التاريخ كما يفعل الهجريون. إن المشيئة هي أن نحاسب في الأبدية على ما فعلناه في التاريخ.أي التزام معنانا الإنساني، الذي هو الشيء الوحيد الذي يمكن اعتباره غاية الوجود. هذا هو جوهر كل دين. والهجري أقل ما يهمه المعنى لأنه لم يمارس إنسانيته التي هي شأن الدنيا والدين. حشره الفقهاء في أنبوب ضيق خال من حرية الحريات وهي التعقل، لينتهكوا فيه المعني، فيتحول إلى تابع وهم متبوعون، ويخدم بيولوجيتهم الشبيهة ببيولوجية العجول المسمنة. حجبوه عن القرآن يتدبره، لكي يتدبرونه هم له. فنشأ كما أرادوا على طقوس الدين الشكلية التي دسوا معظمها من عندهم تأليفا أو نسبة كاذبة إلى الرسول. فعاش في أحضان التبعية والتخلف عقيدة، مرتاحا من المعنى، فاستشرت بيولوجيته العجلية مثلهم، وتعلم كيف ينافق ويكذب ويذل ليعيش. لم يدرك معنى الوطن والكرامة الإنسانية والأخلاق إلا تظاهرا. واكتفى من المعرفة بعلم نواقض الوضوء، وعلم الصدقة التي تفقده إنسانيته وكرامته، ولم يسهم في بيئته كإنسان بما يترك ولو بصمة واحدة على جدار التقدم أو المعرفة. وحتى لا يطول الكلام أكثر، خذ اليابان أو الصين أو الهند أو إسرائيل التي عمرها التاريخي 64 عاما. لم نكن أقل حضارة من هؤلاء حينما كان عريا قبل الأسلام وحينما كنا عربا في الإسلام. فقدنا شرفنا ودورنا الإنساني حينما أفقدتنا الكنيسة الهجرية عروبتنا وإسلامنا.

أجبرنا العالم على احتقارنا والإستهانة بحقوقنا وشرفنا، بما قدمنا لهم في مجال الحكم والسياسة والأدب والثقافة والسلوك، من مسوخ مزرية تثير الغثيان نبذت أي شرف إنساني على الأطلاق.

وقدمنا لهم الجامعة العربية، الملهى الليبرالي السُنّي لأمريكا، فاشتراها حمد آل مديتشي بطاقمها، وحولها إلى مبغى شرعي بفتوى من بطن العجل.

وقدمنا لهم بمبادرة منا بغالا خشبية لتلعب دور حصان طروادة في إسقاطنا،لأنه ليس لدينا أحصنة نقدمها لهم. المهم أننا فعلنا كل ما يمكن فعله، لنصبح ضحايا عبوديتنا واستبدادهم. إذا كان هناك شعب يستمريء انتهاكه فهو نحن فقط.

وهذا الكلام، إذا دققت النظر، وأطلقت ألم الذاكرة، هو أقل بكثير من الحقيقة. لقد وصلنا مرحلة من الدونية لا تستطيغ اللغة الحالية قراءتها. وأصبح علينا، لو كنا نخجل من شيء، ألا نقرأ الصحف، أو نشاهد التلفزيون. لأننا سنرى هناك أحدا يشتمنا، وله الحق في ذلك.

ماذا يمكن للآخرين المتربصين بنا أن يستنتجوا حينما يرون ممثلينا في بلادهم، سوى أن هناك شعبا، لا يشبه أي شعب أخر في الدنيا. وكيف لا يظنون أننا قطيع من الماعز وأن ما نرسله لهم من التيوس المقرنه، هم خير ما لدينا؟

كيف نطالبهم، بعد ذلك، بغير ما يفعلون بنا؟ هل يخالفون بنا طبيعة الأشياء؟ كل مسخر لما خلق له ! الأسد يفترس التيس، وينزو الذكر على الأنثى.

حينما يكون الأحمد بن جبر الخشبي، هو عميد الديبلوماسية العربية !!!! فكيف نستغرب إذن أن يخرج العرب من التاريخ بمؤخرات حمراء؟

أربعون سنة قبل الربيع العربي ومصر وتونس تحكمها العجول والثعالب والقرود. وبعد الربيع تغير الحال وصارت تحكمها القرود والثعالب والعجول، بدليل أن كلا البلدين تتصدران الحملة القرداتية العربية ضد سوريا. فأية شعوب هذه التي استقبلت ماضيها بحذافيره بالزغاريد لأن طربوش مبارك وزين لبسه الإخوان المسلمون؟ وماذا يريد فقراء مصر وتونس من سوريا، وهم الذين لم ينبت لهم ربيعهم سوى اغتيال الشهداء وزيادة الفقر وتحكم القرود؟ لماذا يريدون تصدير ربيعهم البنّي إلى بلد لا يوجد فيه جياع، ولا حالة طواريء , ولا نظام عميل لأمريكا، كما يوجد لديهم؟ فهل يرون في بقاء سوريا والأسد خطرا على الحرية والبحبوحة التي حققتها لهم ثورتهم الكوميدية؟ إن شعوبا تقف خارج عقلها ومصلحتها وإنسانيتها باختيارها، لا يمكن أن يتغير فيها شيء سوى إلى الأسوأ. لأن العلم ينمو بالعلم والجهل يتزايد بالجهل. والهجري لا يكون وحتى قيام الساعة إلا سائمة في حظائر الأخوان. والإخوان شركة أمنية مثل بلاك ووتر مهمتها ذبح الأنظمة القومية في المنطقة الهجرية على الإطلاق. وهم اليوم يريدون إلحاق النظام القومي الأخير، بمن سبقه. فما هي المنفعة التي ستعود على الشعب المصري أو التونسي من ذلك؟ لماذا لا يقولون لحكامهم الجدد : أعطيناكم أصواتنا من أجل مصر وتونس ومن أجل الخبز، فما ِشأننا وشأنكم بسوريا؟ بايعناكم على التبعية المباشرة لأمريكا، فهل أصبحت التبعية ل ” كيوسك ” قطر جزءا من برنامج الثورة؟ ما لنا ولسوريا وليس بيننا وبينها خلاف. هل أرسلت سوريا متطوعين لمحاربتنا في بلادنا، يوم عقدنا معاهدة ” معسكر داوود ” مع أمريكا وإسرائل والسعودية؟ فما معنى أن ترسلوا عجولكم المسلحة إلى سوريا لإسقاط الأسد؟

لا يوجد عربي واحد يمكنه الإدعاء أن مشهد الربيع العربي الذي يجري من حوله يمكن أن يخدعه. الآ يكفي أنه مشهد يتحدث فيه كل أعداء الشعب العربي بلسان واحد؟ إنه كورال غنائي واحد يردد الجميع كلمات أغنية واحدة. أمريكا وأوروبا والإخوان وكل أنظمة العمالة العربية والليبراليين وقنوات المارينز والمجلس الإسلامي والجامعة العربية وتركيا وعملاء المفرق ومرتزقة مصطفى عبد الجليل كلهم يقون على مزبلة واحدة يسمونها الربيع العربي ويتكلمون بكلام موحد. هؤلاء جميعا وغيرهم من أمثالهم ومعهم عزمي بشارة القادم من الكنيست إلى كازينو قطر، يندفعون بصوت واحد وجيش واحد وعزم واحد إلى سوريا رصيد الشرف العريي المتبقي والمقاوم، ليحرروها من شعبها ونظامها ورئيسها ليعطوها للبيانوني وبرهان غليون كما فعوا بمصر المنهوبة وتونس الأعجوبة وليبيا المنكوبة. ألا يكفي هذا الرتل من شرار العالم وعلى رأسهم الصهيومريكية، لتقول للعرب ما هو الربيع العربي؟ تكفي بالطبع ولكن الهجريين شيء والعرب شيء آخر. فإلى من نتوجه في الكتابة. الكتابة في مثل هذا الوضع المتوج بالخيانة والخزي الهجري، عيب وتمظهر فارغ.

تصور، يا أخي، أن أمريكا تحارب شعبا تعداده اربعمائة مليون نفر، بواسطة دياييثه وقواديه وعاهراته وتتغلب عليه. تصور أن الصهيومريكية لديها بيننا من يضحي بدمه وشرفه وإنسانيته لخدمتها ضد شعبه، وليس لدينا، بالمقابل، من يدافعون عن أوطانهم أو حريتهم أو دينهم أو قوميتهم أو إنسانيتهم، سوى قلة متلاشية. لا ننكر أن استخدام الدياييث والقوادين والعاهرات ظاهرة تاريخية معروفة، ولكننا لم نسمع قبل اليوم عن شعب يحكمه ويقوده دياييثه وقوادوه وعاهراته حصرا، سوانا.

وأهم عوامل اليأس الموضوعي في حالتنا، أنه لا يوجد في الوضع الهجري حالات شلل أو شذوذ عابرة. كلها حالات مزمنة تحولت مع الوقت إلى خاصيات بنيوية راسخة، ومهارات سلوكية دسها العقل الخبيث في العقل المريض. وصحونا فوجدنا كل شئ لنا ضدنا. تاريخنا ضدنا، وأوطاننا ضدنا، وديننا ضدنا، ووعينا ضدنا، وثقافتنا ضدنا، ونحن ضدنا. داهمتنا الثورة من الخلف وناولتنا للصدمة. ثم أطلقوا علينا زوبعة الشياطين والقوادين والديايثث والعاهرات فحملتنا من الصدمة إلى مضارب الحلم الخليجي بقيادة الإخوان المسلحين. وأخرجت لنا الجنة القطرية شهواتها المعلبة، وخمرها المعتقة في البراميل الخشبية، وموزها المقشر، وحورياتها الجميلات المطموثات بالمارينز وشيوخ الماعز والمال. وفقد الفقراء هواجس الجوع، وركبهم حلم الصدقات.

الشعب ثقافة ووعي سائد. وليس كل شعب مؤهلا أن يقبل أو أن يرفض، أي أن يختار. لأن الإختيار ليس موجودا في وعيه. فالإختيار هو وعي البدائل. ولكن القاعدة لدى الهجري هي التبعية، والشذوذ هو الإختيار. فوعي البدائل ليس شأن الشعب بل شأن النخب. وينطبق هذا على الشعببين التونسي والمصري حرفيا. سار الشعبان مع نظام مبارك وزين إلى أن أسقطتهما ” الثورة ” المفاجئة، فسار الشعبان معها. وتبعا نخبها ديموقراطيا هذه المرة، كما أخبرتهم القنوات الفضائية، فالدعوة كانت عامة لإسقاط مبارك. ولكنها لم تكن عامة في الشؤون الأخرى. فتوزعت تبعية الشعب ديموقراطيا بين نخب الربيع العربي البارزة، فقسم مع العسكر، وقسم مع الإخوان، وقسم مع الليبرالية وقسم مع المصراوية وقسم مع التونسة، كأن المشكلة عندهما كانت مشكلة عصبيات وتسميات. لذلك كانت الثورة حميدة، أي سلمية , طالبت الرئيس أن يسقط فسقط. ولكن لماذا أصبح كل شيء أسوأ مما كان؟ الثورة بخير وعافية، فلماذا ساء الوضع الصحي العام للناس؟ لا أحد يمكنه أن يعرف. وكان لا بد من توسيع المهزلة لتسوية الوضع الغريب. فقررت النخب في مصر وتونس أن تتبنيا قطريا الهجمة الدولية على نظام الأسد. وتبع الشعبان نخبهما، في وجوب العمل على إنجاح الربيع العربي والديمقراطية في سوريا كما حصل لديهما.

لم تذكر الثورة السلمية أمريكا والتبعية والعمالة بحرف واحد، أثناء أو بعد اندلاع الثورة في مصر وتونس. فوعي العلاقة بين أمريكا وقضايا الجوع والفقر والإستبداد في مصر وتونس وكل الشعوب المنهوبة، تحتاج إلى وعي بلشفي، أو على الأقل إلى وعي أرضى دنيوي يفهم أن الإخوان لا يمكن إلا أن يكونوا عملاء لأمريكا بسبب تشابه الجينا ت، وشراكات المصلحة نظريا وعمليا. هذ الوعي غير وارد أبدا لدى الفقراء والمظلومين من الهجريين، الذين لا يعرفون بالتفصيل كيف يتم توزيع الأرزاق في مصارف الغيب والبنوك الإسلامية. كما لم يكن لأحد فكرة عن قضية العلاقة بين الفقر التراكمي والغنى التراكمي والرأسمالية والدينوية وتماثلهما في المصلحة والفكرالإيديولوجي كلصوص كونيين. لذلك كانت الثورة بالنسبة لهم “هيصة ” ضد الإستبداد جاءتهم من الخلف. وقالت لهم قناة الجزيرة أن هذه الثورة الخلفية هي المعجزة التي أسقطت مبارك وزين وزوجتيهما، وأن الذي حررهم من مبارك هو الإخوان، دون أن تذكر أمريكا بحرف واحد. وكانت صادقة بنسبة 100% وكاذبة 100%. أي أنها صدقت في ما قالته، وكذبت في ما لم تقله. فالذين دعوا إلى ” الثورة” حقا هم الإخوان. ولكن المشكلة أنه لم يكن هناك ثورة. كان هناك هيصة سياسية فقط لاستبدال عميلين تالفين، بتنظيم عريق وحداثي في العمالة. لذلك حقق الربيع المصري والربيع التونسي كل أهدافهما السياسية، لأن الشعبين يفهمان الهيصة فهما جيدا. ولكن عندما قالت لهم الفضائيات، أن ما حدث هو ثورة، تحمس الناس وواصلوا الهيصة على أنها ثورة.

هذه هي صورة البديل التي قدمتها نخب الثورة الربيعية وقناة الجزيرة للتونسيين وللمصريين. الثورة ليس بديلا عن إي شيء كان قبلها، سوى إسقاط مبارك وزين وزوجتيهما، واستدعاء الديموقرطية. وتبعتهم القوى السياسية الأخرى ومن ثم الشعب كله. ولو قدمت النخب وقناة الجزيرة للشعب أية ثورة بديلة تدعو إلى العودة إلى النظام الملكي ولبس الطرابيش لكان معها. لذلك نجح الإخوان والعسكر والليبراليون وامريكا في تمرير أهداف الربيع العربي التي لم تذكرها قناة الجزيرة. وأقنعوا الشعب أن القاعدة هي أن الماضي دائما أسوأ مما تلاه، حتى ولو لم يبد الأمر كذلك. وعليه فإن الربيع العربي أفضل من نظام مبارك، والإخوان أفضل من مبارك حسب االتبادل الطردي بين الوقت السياسي والأفضلية السياسية في أمريكا. هكذا تحققت الثورتان التونسية والمصرية، وانطلق الربيع العربي إلى سوريا، ليكمل حلقة الفصل والوصل بين الشق الأفريقي والشق الآسيوي اى لما كان يسمى يوما العالم العربي. ليمتد الشرق الأوسط الكبير إلى أعماق القارة السوداء، ويتكامل الربيع العربي مع الربيع الأفريقي القادم.

ولكن لماذا الربيع “العربي “؟ وما شأن العروبة بالأخوان؟ حتى حفنة الناصريين في مصر وسوريا ركبت ترام الإخوان، وهي تعرف أنهم رأس الحربة في الربيع الصهيومريكي، الذي يجمع بين أطرافه شيء واحد فقط، هو الخلاص نهائيا من لوثة الذاكرة القومية التي لا يستطيع الغرب الصهيوني عموما التعايش معها، ولا يستطيع الإخوان سماع اسمها، ويتمنى الليبراليون والليبراليات لو استطاعوا ردها إلى ما قبل حضارة العيب، والمصراويون العودة منها إلى عراقتهم الفرعونية الفاخرة. أما العسكر فهم رعاة الجميع. فلماذا “العربي “، مرة أخرى؟ هل كان على العروبة أن تحمل أوزار الخزي الهجري قبل أن تختفي عن الأنظار؟ أم أن فلسفة الربيع العربي تدهو إلى قتل القتيل والمشي في جنازته؟ ألمهم أن الشعب المصري والشعب التونسي سواء اختارا أو أجبرا على الإختيار لم يتركا لآحد حق الإعتراض. فلا يمكن منطقيا لفرد أو قلة صغيرة المزاودة على موقف شعب كامل مهما كان مصدر هذا الموقف. لذلك يا أخي ” فرات ” لم يعد لمثلنا ما يقوله بهذا الشأن. فنحن حينما نجاهر بعروبتنا فكأننا نضع تاج الخزي العربي على رأس العروبة نيابة عن كل الهجريين. ألمنطق الموضوعي أن نصمت أمام الربيع العربي كما أعتدنا أن نصمت أمام كل الكوارث التي أنزلوها بنا. وأنا شخصيا أفضل إذا انتصر الربيع العربي في سوريا أن أخرج من موقعي المدمر كعربي، بحزني الشديد، إلى موقعي الإنساني حيث لا تزال قضية المصير مفتوحة على الواقع. ولن أمارس الكتابة المجردة التي ليس لها عنوان ولا معنى كترديد الببغاوات.

أخي العزيز

لقد اعتقدت دائما بقطعية تامة، وهذا من حقي وحق أي شخص، بأمور ثلاثة :

أن الغرب لا يمكن منطقيا , ما دام يستطيع ذلك، أن يسمح بقيام مشروع قومي نهضوي أو تنموي في المنطقة العربية المقابلة لأوروبا، لأن التطابق المصيري بينهما يبلغ درجة الكمال من حيث تضاد المصالح والنفي التلقائي المتبادل. وقد أثبت الغرب بالواقعة السلوكية أنه يفضل عربا ميتين، حتى على عرب يجثون على قدميه. لقد تحولت ثقافة التوجس الدائم لديهم إلى ثقافة خوف وكراهية تلقائية ورفد سيكيولوجي لشهوة التنكيل بالعرب.

أن العالم العربي المعاصر لا يمكن له نهوض ولا تطور ولا بناء ولا وعي عقلي ولا تنمية قومية أو دينية أو علمانية، أو إدراك أي أفق إنساني عام، مع وجود حركة الإخوان الهجريين السياسي على ساحته. فالتاريخ الهجري كله حلقات صراع بين التاريخ الفقهي الشعوبي من ناحية، والعروبة والإسلام من ناحية أخرى. والوجه المعاصر لهذه الحركة هو أنها امتداد سياسي علماني في الخفاء داخل الفقه الشعوبي المتوارث، الذي كان هدفه التحرر من هيمنة العروبة والإسلام.

وعن نفسي، فقد توقف وعيي عند هذا اليقين الذاتي. وأصبحت بالقناعة عاجزا عن تجاوزه. وبعد أن ثبت أن أصحاب الشأن، أي الشعوب العربية مسكونة بالهجرية والتبعية وفقه الشعوبية، فكيف يكون لدي منطقيا ما أقوله بهذا الشأن؟ الشعب أدرى بما يريد، وله الكلام الفصل، فما معنى الثرثرة الفارغة بما لا يجدي؟ لقد وصلت أمريكا وزعرانها الدوليون وقحباتهم الهجريات في مبغى الجامعة واسطبلات الخليج إلى ما يريدون. ووصل وكلاء الفقه السياسي الإستشراقي مواقع التحكم في المشاعة الهجرية، وسقطت كل احتمالات النهوض القومي على أي مدى مرئي إلا بانتصار سوريا والفارس العربي الأخير. وفقدنا بعد الربيع العربي الحاجة الموضوعية للإعتراض بالكلام. ولا يبدو أن هناك إمكانية لغير الثرثرة التحليلية الفارغة. فكيف يمكن أن نتدخل، بغير الأسف،في قرار شعب بكامله، حتى ولو كان يساق بالتبعية أو السحر الأسود إلى ما يريده الأخر؟ أضف إلى ذلك أن الذين يقودون الشعب العربي الآن، كما نشاهد، هم دياييثه وقوادوه وعاهراته. وهؤلاء ليسوا حزبا سياسيا أو يمثلون موقفا فكريا مطروحا للنقاش. كل ما يقولونه أو يفعلونه هو تشخيص للعلاقة بين الحمار وسائقه مقابل العلف. فهل للكلام شأن منطقي بهذا الوضع؟ وهل بإمكان أي إنسان يحترم إنسانيته وشرفه أن يفعل بهذا الغرار البشري من الناس، سوى الإستنكاف عنهم، أو تشرفهم بالشتم؟

وعلى سبيل المثال، حول ماذا سنحاور مسخة خالصة كالشيخ “بطن العجل “، مختل الهوى والعقل والنفس ولا يؤمن بأي معتقد، أو يطيع غير بطنه وشذوذه الجنسي الثمانيني. وقد كشف الله ستره أخيرا بالخرف، فأظهر محاكاته لله، بالإئتلاء عليه حينما أقسم باسمه على وجوب غيب بعينه، وخطأ القرأن حينما قال في قناة الجزيرة الإسلامية بتحد قاطع : “قطع يد السارق خطأ !”. وماذا نقول لعبد البديع وعبد الجليل والبيانوني والغنوشي وأمثالهم، وكلهم أعداء قطعيون لنا وللإنسانية عموما؟

من يساجل الليبراليين والليبراليات العرب؟ أنا والله لا أقصد الشتم، ولكن الحقيقة الموضوعية التي تفرض نفسها بالقرائن السلوكية الشاذة والمتحللة من كل احترم للذات وللآخر الصادرة عنهم تفرض، أن كل ليبرالي عربي أو ليبرالية عربية هو ديوث أو قحبة بالإختيار. فمم سيخجل من يفاخر بحثاليته على شاشات الفضائيات؟ وما هو الموضوع الذي يمكن طرحه للنقاش مع شخص تنقل علنا من حمأة إلى حمأة حتى وصل حمأة الربيع العربي واستقر في قطر مفكرا عربيا؟ أو مع شخص لا يصلح إلا لحمل ملابسه، يكاد يكون متأكدا أن الشعب السوري بانتظاره على أحر من الجمر، ليستبدل به بشار الأسد؟ إن الليبرالي العربي إما وغد بعقل فاجر، أو وغد بعقل مختل. فما شأن العقل العادي بهؤلاء؟

أخي فرات

العربي الذي لا يعرف الألم والمعاناة، ولا يشعر بالإهانة، هو وحده المؤهل للصمود أمام مشاهد الربيع العربي. إن كمنا العربي الهائل لم يعد يكفي حتى لإسكات شيطنة عزمي بشارة الفكرية. ولا جموح ليبرالية تتكلم وكأنها تضاجع. ولا وجه مأبون بالوراثة مجهول الهوية، لأن الفقاح تتشابه.

لم يعد للشعوب العربية شيء من الهيبة ما يكف عنها الهوام.

أوغلو يتحدث عنا كمن يتحدث عن دجاجات أمه.

وأوروبا الآيلة للسقوط لم يعد من تضطهده في الدنيا غيرنا.

ساركوزي يتقرب إلى مواطنيه بدمنا وشتمنا والدوس على كرامتنا، ليعطوه أصواتهم.

وخامسة الأثافي بغال طروادة الخشبية، في الجامعة العربية، وعلى عروش القردة، الذين يندد نموذجهم بنا عند اآخر كأنهم وجود فاحش.

والسادسة اللبارلة من منزلة مذيعة أو مذيع يشبهان المبولة، يجودان بما جادوا به عليهما،

فأخبرني من فضلك، أخي ! هل يمكن للعربي اليوم أن يعتز بكونه عربيا؟ هل يساوي في سوق العلاقات بين البشر إنسانا عاديا مثل كل الأنتماءات؟ لا أخول نفسي حق الإجابة عن غيري. أجيب عن نفسي فقط. أنا لا أستطيع. ليس لي بمنطق الأمانه حتى حق التعايش مع ذاتي كعربي، لأن هذا سيكون مكابرة تقوم على خداع النفس، أو على الوفاق مع ما يحدث لنا. والمكابرة الكاذبة والوفاق مع الدونية، هو السبب الجوهري لسقوطنا الحالي، النادر المثال.

لن أصر على المكابرة ككاتب لا يوجد لديه ما يقول. هذا يخجلني. وأنا الآن أنتظر على شاطيء بردى أنتظر المصير.