والضباع
وكلاب الصيد..
تحسسوا عقولكم
محمد الأسعد
خُدع العرب في غمار الحرب العالمية الأولى ورُسمت مصائرهم في اتفاقيةٍ عرفت باتفاقية سايكس-بيكو بين أبرز دول حلفاء ذلك الزمن، بريطانيا وفرنسا، وانجلى الغبارُ عن بلاد تقاسمها الانكليز والفرنسيون والأمريكيون والصهاينة وخدمهم من حطابين وسقائين، وطمرت الرمالُ جثث “الثوار” العرب ملفوفة بأحلام بعضهم وأوهام بعضهم الآخر.
لا تحتاج واقعة حدوث الخداع والمخادعين والمخدوعين هذه إلى براهين وأدلة، فهي متناثرة يمكن التقاطها بأهون الطرق. ويمكن البرهنة على نتائجها، ليس بوصفها استحواذَ أقطاب التحالف الغربي هؤلاء على القرار السياسي والاقتصادي والثقافي والعسكري العربي فقط، بل بوصفها تغييرا بنيوياً في مجتمعاتٍ أصبحت مجتمعاتٍ استهلاكية ملساءَ غير منتجة، بلا ماضٍ ولا حاضر ولا مستقبل، مجتمعاتٍ أصبح يحكمها قانونُ أمثال “برنارد لويس” القائل إن من السهل على أية قوة غربية احتلال قلبها، ولا يمكن إخراج هذه القوة إلا على يد قوة غربية أخرى.
المثيرُ الآن إن خدعة مماثلة أشد بروزاً تأخذ طريقها إلى مسرح الأحداث؛ المسرح نفسه الذي شهد خدعة دول سايكس-بيكو. والأكثر إثارة إن “الخادع” و”المخدوعين” و”المخادعين” القدماء أو ورثتهم يعودون إلى تكرار اللعبة القديمة نفسها، مع إضافة مخدوعين جدد. ومثلما تقدم الجنرال الانكليزي “اللنبي” واقتحم القدس في العام 1917 على رأس جيشه صارخاً “الآن انتهت الحروب الصليبية”، ومثلما تقدم الجنرال الفرنسي “غورو” واقتحم دمشق ووقف عند قبر “صلاح الدين” متبجحاً:” ها نحن عدنا يا صلاح الدين”، يقف الآن جنرالات الغرب، فيومئ ساركوزي وبجانبه هذه المرة ثوار الناتو إلى قبر “عمر المختار” :” نحن هنا.. يا مختار”، ويستعد الصهيوني وبجواره هذه المرة ذو لحية أمعط ليقول: “هانحن في قلب دمشق يا صلاح الدين”.
كلهم يواصلون حربهم التي اختاروا هم تسميتها “الحرب الصليبية” وليس نحن، ويواصل المخادعون من بعض عصابات العرب الحاكمة بأمر التحالف الغربي دبكاتهم ورقصاتهم ابتهاجاً بقدوم الغزاة البرابرة، رافعين الشعارات القديمة نفسها: حرية.. حرية.. ثورة.. ثورة!!
كل الثورات انتهت في العالم بتحرير الشعوب إلا هذه “الثورات” التي انتهت كبراها بخيولها وجمالها بتحرير العرب من أرضهم وثرواتهم ووضعت مصائرهم بيد الغرب الاستعماري، وليس لنا أن نتوقع من أصحاب اللحى الشعثاء ممن أصبح مطلع عرضاتهم الحربية دفاعاً عن “إسرائيل” عرضة: ” يا ويلك يللي تعاديها.. ياويلك ويل”، شيئاً مختلفاً عن عرضات أصحاب الولائم أمام “لورنس” و “جرترود بيل” و”روزفلت” صاحب الكرسي المتحرك.
* * *
سايكس- بيكو، كما يزعم “المخدوعون” و”المخادعون” وورثتهم، لم تُكشف أسرارها في تلك الأيام إلا بعد فوات الأوان، ولكن اتفاقيات هذا الزمن، زمن الثورات التي يمتطيها “فيلتمان” و “أردوغان” و” وساركوزي” و”برنار ليفي” ومن لف لفهم من كلاب صيد، منشورة ومعروفة منذ سنوات، بل لا يترك هؤلاء الذئاب فرصة إلا وتحدثوا علناً عن شهيتهم للنفط والممرات وإعادة تفتيت ما فتتوه في العام 1917، ومع ذلك يزداد هياج كلاب الصيد والضباع من عدة دول عربية وغير عربية للمشاركة في حفلة صيد الشعوب العربية واحدا بعد الآخر، ما استسلم منها و ما لم يستسلم على حد سواء.
ولنبدأ بما سجله الاستراتيجي الأمريكي “زبغنيو بريزنسكي” في كتابه المتعجرف “رقعة الشطرنج الكبرى” حين دفع في العام 1997 بأن قوة غير أوروبية-آسيوية حققت السيادة لأول مرة، وعليها أن تحكم قبضتها على القارة الأوروبية-الآسيوية إن كانت ستظل القوة العالمية السائدة. الحديث هنا يدور حول أمريكا، والجائزة الجغرافية السياسية التي تنتظرها هي “أوراسيا”، قلب العالم. فهنا حسب بريزنسكي، ” يعيش 75% من سكان العالم، وتحظى هذه الرقعة بحوالي 60% من الدخل القومي العالمي، وبحوالي ثلاثة أرباع مصادر الطاقة المعروفة في العالم”. وهذا هو ما يجعل لعاب ذئاب الطغمة الحاكمة في الغرب يسيل بشراهة لا حدود لها، ويجعلها لا تطيق صبراً، حسب تعبير د. مجاهد كمران من جامعة البنجاب.
ومن أجل كل هذا عملت أمريكا على تغيير الأنظمة في وسط آسيا، ودمرت يوغوسلافيا وأفغانستان والعراق وليبيا، وأقامت قواعد عسكرية في شرقي أوروبا وأواسط آسيا، وذهبت إلى إقامة قاعدة عسكرية في قرغيزستان على مبعدة 500 ميل من حدود الصين، وانشغلت بإقامة قواعد صواريخ على مبعدة 30 ميلا من الحدود الروسية. والهدف إقامة ” وسط آسيا كبرى” من أفغانستان إلى المغرب العربي، مرورا بإيران فالعراق فسوريا وشواطئ المتوسط، أي مرورا بمسار كبير سيتدفق عبره نفط وغاز وثروات هذه المنطقة المعدنية إلى خزائن ذئاب الغرب على حساب سكانها.
* * *
ويكمل عسكري أمريكي آخر هو “رالف بيترز” رسم خريطة ما يسمى “الشرق الأوسط الجديد” في مجلة القوات المسلحة الأمريكية في شهر حزيران 2006، أي قبل شهر واحد من إطلاق الحرب على لبنان، حرب السيطرة على شرق المتوسط عسكرياً والتي هُزمت فيها الولايات المتحدة بأعنف مقاومة واجهت قاعدة أسلحتها وجنودها في المنطقة، أي “إسرائيل”، فيطرح بوضوح من يمسك بيديه القلم والمسطرة الصورة المتخيلة لشرق أوسط تقوم فيه شظايا دويلات على أساس روابط الدم، أي العرق، وروابط المذاهب الدينية.
كل الدول القائمة الآن إنما تقوم حسب رؤيته الذئبية ضمن حدود غير “طبيعية”، ولهذا يطرح ضرورة صناعة حدود طبيعية أو عضوية. ويبدأ بما يسميه ” أكثر ظلم يثير الحنق في الأرض” بين جبال البلقان وجبال الهملايا، وهو غياب دولة كردية مستقلة. ويقول إن أمريكا وحلفائها فقدوا فرصة ذهبية بعد سقوط بغداد، فرصة تصحيح هذا الظلم، وكان يجب أن يقسم العراق ” المخاط من أجزاء غير متلائمة، إلى ثلاث دول أصغر فوراً، ويفوز الأكراد بالاستقلال، كما سيفعل أكراد تركيا الذين سيحظون بخمس تركيا الشرقي، وأكراد سوريا وإيران الذين سيندفعون للانضمام إلى كردستان مستقلة إذا استطاعوا.. وستكون دولة كردستان حرة مثل هذه أكثر الدول موالاة للغرب بين بلغاريا واليابان”
وتعود الشهية الذئبية وتكمل رسم طريقها:” إن تقسيم العراق إلى ثلاث دول سيترك الجماعة السنية في شبه دولة مبتورة ربما ستختار الاتحاد مع سوريا التي ستفقد ساحلها لصالح لبنان أكبر ذي توجه متوسطي تولد منه “فينيقيا” مرة أخرى. وسيشكل جنوب العراق أساس دولة عرب شيعة تحيط بالكثير من الخليج الفارسي. وستحتفظ الأردن بأراضيها الراهنة مع توسع نحو الجنوب على حساب السعودية. وستعاني السعودية غير الطبيعية من تفكيك يماثل تفكيك باكستان. وما تفقده أفغانستان لصالح فارس غرباً ستكسبه شرقاً مع قبائل باكستان على الحدود الشمالية الغربية التي ستعود إلى الاتحاد مع أخواتها الأفغانية. وستفقد باكستان، الدولة غير الطبيعية الأخرى، منطقتها البلوشية لصالح بلوشستان حرة.. وسيكون مصير دول المدن في الإمارات العربية مختلطاً، بعضها قد يندمج في دولة العرب الشيعة التي تحيط بمعظم سواحل الخليج (دولة تنشأ على الأرجح كثقل موازن أكثر منها حليفة لإيران)، وسيسمح لدبي بالاحتفاظ بمكانة ملعب للأثرياء الفاجرين، وستحتفظ الكويت بحدودها الحالية، وكذلك عمان”
* * *
هذه الحدود باختصار هي بالتمام والكمال الحدود التي تستجيب لشهية الذئاب الغربية، فهي كما يقول “بيترز”: “تعكس صلات النسب العرقية والدينية في بعض الحالات، وأحيانا كلاهما معاً”، وستكون هي الملائمة لكي يقول بعد ذلك: ” إثناء ذلك سيواصل رجالنا ونساؤنا، ببزاتهم الرسمية، القتال ضد الإرهاب، ومن أجل الديمقراطية والوصول إلى موارد النفط في منطقة مقدر لها أن تقاتل ذاتها”!!!.
وهذا هو ما كان مخططاً له منذ بداية الشروع بالسيطرة عسكرياً على مسار خطوط النفط والغاز والثروات المعدنية الممتد من أفغانستان إلى شرقي المتوسط وصولا إلى المحيط الأطلسي.
جاء في رواية متلفزة للجنرال الأمريكي “ويسلي كلارك” الذي قاد حملة تدمير يوغوسلافيا، إنه التقى بوزير الدفاع الأمريكي آنذاك “دونالد رامسفيلد” ونائبه “فولفيتز” بعد أحداث 11 سبتمبر بأيام، ثم مال في طريقه إلى خارج وزارة الدفاع إلى الطابق الأسفل للسلام على بعض معارفه في هيئة الأركان من الذين عملوا معه. وهنا طلب منه أحد الجنرالات إعطائه دقيقة من وقته، فقال له “ولكنك مشغول جداً”، فقال الجنرال “لا..لا.. لقد قررنا الذهاب إلى الحرب على العراق”.
كان هذا في 20 سبتمبر كما يقول”كلارك”، وعندها سأل ” لماذا؟” فرد الجنرال ” لا أعرف.. وأظن إنهم لا يعرفون أي شيء آخر يفعلونه”، وسأل “كلارك”
“.. طيب.. هل عثروا على معلومات تربط صدام بالقاعدة؟”
قال “لا.. لا.. جديد في هذا الأمر..لقد اتخذوا قرار الذهاب إلى الحرب على العراق.. هكذا بكل بساطة.. وأظن الأمر يشبه إن لدينا قوة عسكرية ممتازة وإننا نستطيع بها إسقاط حكومات” وأضاف هذا الجنرال:
” إذا لم يكن لديك سوى مطرقة، أعتقد إن كل مشكلة ستبدو مثل مسمار”!
بعد بضعة أسابيع عاد “ويسلي كلارك” ليرى زميله وروى:
ــ “.. كنا بدأنا بقصف أفغانستان، فسألته “هل ما زلنا ذاهبين إلى الحرب على العراق؟”، قال ” اوه.. الأمر أسوء من هذا..” ومد يده وتناول ورقة وقال :” حصلتُ عليها للتو من الطابق الأعلى (من مكتب وزير الدفاع) اليوم.. هذه مذكرة تصف كيف إننا ذاهبون إلى أخذ سبع بلدان خلال خمس سنوات، بدءا بالعراق فسوريا فلبنان فليبيا فالصومال والسودان.. وانتهاء بإيران”.( لقاء مع ويسلي كلارك، قناة الديمقراطية الآن، 23 مارس 2007).
* * *
خلال هذا الحديث الأخير لجنرال النجوم الأربعة، ويسلي كلارك، كان الصحافي “سيمور هيرش” ينشر تحقيقا على صفحات مجلة “نيويوركر” تحت عنوان ” إعادة التوجيه: نقلة استراتيجية”، يروي فيه حكاية التوجه الأمريكي الجديد الذي انتقل إلى شن الحروب السرية في الكثير من مناطق الشرق الأوسط، بما في ذلك لبنان وسوريا وإيران، وهي حرب تقوم على تمويل وتقوية “جماعات إسلامية” ودفعها لمواجهة قوى المقاومة، واحتل التفاهم استراتيجياً بين بعض الدول العربية و”إسرائيل” واسطة العقد في هذا النوع من الحروب.
وجاءت في تحقيق النقلة الإستراتيجية المنشور في 5-3-2007، تفاصيل مثيرة كشفت في الحقيقة عن ما حارت البرية فيه منذ ثمانينات القرن العشرين حين جندت أجهزة الاستخبارات الأمريكية وأذرعها في المنطقة أفواجا من المقاتلين تحت لافتة “الإسلام” لإسقاط الحكومة الأفغانية الاشتراكية، وما تبع ذلك من استعانتها بالقوات السوفياتية، وتحول الرئيس الأمريكي “جيمي كارتر” إلى “مجاهد أكبر” “ومؤمن” يجب نصرته على “الكفار” في أكثر من “فتوى” تصدر من وهناك، على رأسها “فتوى” ذلك الشيخ المتلفز”متولي شعراوي” بضرورة مناصرة “مؤمني” اليوم، أي الأمريكان، على كفرة اليوم، أي السوفييت.
ما حارت فيه البرية آنذاك، وما يراد لها أن تحار فيه الآن، هو كيف استطاعت أجهزة الاستخبارات مصادرة “الإسلام”، وحولته إلى أداة مقاتلة بيد الذئاب الغربية التي تفترس البلدان العربية والإسلامية بلداً بعد آخر؟ هل هذا هو الإسلام حقاً أم إنه إسلام فقد عقله؟
تحقيق “سيمور هيرش”، مع تحقيقات لآخرين بدأت تتوالى في هذه الأيام وتؤكد ما نقله مبكراً، يكشف عن حقيقة ما يجري حول الوطن السوري تحديدا في هذه الأيام من حشد للذئاب والضباع وكلاب الصيد، ونهش تتولاه فضائيات مسعورة لم تترك أسلوبا في التلفيق والكذب والاختراع إلا واتبعته. يقول “هيرش”:
” سياسة إعادة التوجيه الاستراتيجي التي اعتمدتها الحكومة الأمريكية بدأ يستفيد منها الإخوان المسلمون، وجبهة الإنقاذ السورية، وتحالف جماعات معارضة أعضاؤها الرئيسيون عصابة يقودها عبد الحليم خدام والأخوان المسلمون”.
يكتب “هيرش”:
” وأخبرني ضابط استخبارات أمريكي سابق رفيع المستوى إن الأمريكيين يقدمون الدعم المالي والسياسي، وكذلك تتولى الدعم المالي واللوجستي دولة نفطية كبيرة..”
وينقل عن “جنبلاط” ما يلي “.. قلنا لتشيني إن الرابطة الأساسية بين إيران ولبنان هي سوريا، ولإضعاف إيران، أنت بحاجة إلى فتح الباب أمام معارضة سورية فعالة”.
هل نستغرب إذا ونحن نسمع كل هذا العواء وصرير الأسنان وحشرجة الضباع حول الوطن السوري؟ أعني سوريا الكبرى التي نعرفها؟
تحالف هذه الكائنات ليس تحالفا جديداً، فقد عرفناه طيلة القرن الماضي، إلا إن ما تغير اليوم هو إن لحم الشعوب أصبح مراً، ولم تعد الضواري وكلاب صيدها قادرة على التهامه ببساطة كما فعلت في مطلع القرن العشرين. والأكثر أهمية إن ساحة حرب بهذا الاتساع، من أواسط آسيا إلى أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية، من المنطقي أن تحشد غالبية سكان الكرة الأرضية ضد ذئاب الغرب، وهذا هو ما يحدث الآن بالفعل، حيث تتجمع دول أمريكا اللاتينية وتنزل الأساطيل الصينية إلى المحيط الهادي، وتتحرك الأساطيل الروسية إلى البحر الأبيض المتوسط، ويفقأ عيون الذئاب التي تسمي نفسها زوراً وبهتاناً “المجتمع الدولي” فيتو روسي-صيني لأول مرة في التاريخ، فيحدث التحالف الذي كان يرتعب منه الاستراتيجي المتعجرف “بريزنسكي”؛ التحالف الروسي الصيني. ويعود “بريزنسكي” هذا في يناير 2012، ليقر بواقعة انحطاط القوة الأمريكية وانحسارها عن وسط آسيا وشرقها، وتركها لوكلائها في حالة ضعف في الفضاء السوفييتي السابق، وشرق آسيا، والخليج العربي. ومع إن عجرفته لا تفارقه حين يلاحظ متحسراً إن لا قوة صاعدة قادرة على تنظيم الشؤون الدولية في غياب وانحطاط أمريكا، إلا إن الكأس التي بدأ يتجرعها مرّة وواضحة في نقله عن مسؤول صيني رفيع المستوى قوله لمسؤول أمريكي من الطراز نفسه: ” لنا طلب وحيد.. أن لا تجعلوا انحداركم بالغ السرعة” (مجلة فورن بوليسي، يناير/فبراير 2012، مقال ما بعد أمريكا). ويعلق “بريزنسكي”: ” قد لا تكون النتيجة التي توصل إليها الصيني، انحطاط أمريكا وصعود الصين حتماً، أمراً يقينياً، إلا إنه محق في حذره وهو ينظر إلى الأمام، إلى موت أمريكا”.