روسيا الكبرى تتوج قيصرها!

عبداللطيف مهنا

كانت حملة انتخابية محتدمة ولا يمكن وصفها بالمعتادة، وانتخابات جرت ولم تخلو من كثيرلغطٍ وغير قليلٍ من إثارةٍ، وكان كل ما احاط بها ونجم عنها ينبىء بأنها، من حيث الأثر والنتائج والدلالات، ليست كسواها ممن سبقنها من الإنتخابات غير الكثيرة التي عرفها مجرى الحياة السياسية لروسيا مابعد انهيار السوفيت وانتهاء الحقبة السوفيتية. وهى إذ انتهت بفتح صناديق اقتراعها فإن وطيس سجالاتها لازال مستمراَ، وسيظل أوارها يتردد صداه وتتوالى تداعياته لفترةٍ روسيةٍ قادمةٍ… بعيد إعلان نتائجها، وكانت المتوقعة سلفاً، وقف قيصر روسيا المتوَّج وعيناه تدمعان تأثرا وزهواً بمبايعة روسياه “الكبرى” له، روسياه التي يدعو لتشييدها وبعثها من جديد، ولفترة رئاسية تستمر لستة اعوامٍ قادمةٍ، وقال مخاطباً جماهيره المحتفية بمبايعته والمبتهجة بتتويجه : “لقد انتصرنا في معركةٍ شفافةٍ وشريفةٍ… شكراً لكل من قالوا نعم لروسيا الكبرى”!

قال أنه قد انتصر في معركة “شفافةٍ وشريفةٍ”، فكان هذا توصيفاً منه لعله كان رداً على ماسبق ورافق الحملة الإنتخابية وأعقب إعلان نتائجها من حملات تشكيك واسعة النطاق حاولت الطعن في “شفافيتها وشرفها”، وكانت ذات شقين : خارجي اطلق الغرب فيه آلته الإعلامية الطاحنة، حاكماً على الإنتخابات الروسية سلفاً بعدم النزاهة، ليتردد من ثم هذا الصدى المشكك في جنبات الإرض، وكالعادة، لم تنجو من لوثة ترداده ببغاوياًغير قليل من وسائل إعلامنا العربي من تلك الجاهزة أبداً للوك مايصلها وترداد ما يغشاها من أصداء دون تردد أو عناء تمحيص. وشق داخلي، من قبل معارضة روسية توزَّعت اطرافها يساراً ويميناً، واتفقت على أمرٍ واحدٍ ماثم سواه وهووسم الإنتخابات حتى قبل بدء الإقتراع بعدم النزاهة والإعلان سلفاً بأنها لن تقبل بنتائجها.

إجمالاً، إنه لمن عدم الموضوعية المقارنة بين “شفافية وشرف” إنتخابات تجري في روسيا، التي لازالت حبيسةً في قمقم خصوصيتها وتاريخها الذي لم يعهد سابقاً مثل هذه الأشكال “الديموقراطية” الغربية، وبين سواها مما تجري في الغرب المهتاج الآن مشككاً، ولإسباب لاعلاقة لها بالحرص على الديموقراطية الروسية، والذي عادة لايرضى إلا على ماهو نسخة عنه، أويفضل فحسب الحالة المستلبة له، أوالتي تخدم مصالحه أو لاتهددها. في الحالة الروسية، سارع الغرب لإقتناص الحدث منذ بدايته للإفادة منه في سياق جاري توظيفاته الإنتقائية المعهودة لذات الشعارات المحقة المراد منها باطلاً، والتي أدمن استخداماتها في حروبه الباردة والساخنة ضد الآخرالرافض لهيمنته، أو الممانع غير القابل خضوعاً لإملاءاته وسياساته. في الحالة الروسية، تحدث روس بوتن كثيراًعن أموالٍ غربيةٍ ضخَّت لصالح مايعرف بهيئات “المجتمع المدني”، التي فرَّخ جرادها في روسيا مابعد الإنهيار السوفيتي، وطال فيض هذه الأموال صحفاً ومحطات تلفزة وقوى ليبرالية ومتغرِّبة اسهمت في الحملة التي شنت على بوتن والبوتينية.

مثلاً، لم يلتفت الغرب الى قرار بوتن بنصب 180الف كاميرا الكترونية لمراقبة مراكز الإقتراع، أي بمعدل إثنتين لكل مركز، تسمح لمن شاء بمتابعة سير الإقتراع أولاً بأولٍ عبر شبكات الإنترنت. كما لم يلق بالاً إلى تقريره هو المتمثل في تقرير مراقبي منظمة “الأمن والتعاون ” الأوروبية الإيجابي، وهم هؤلاء الذين يتهمهم رئيس اللجنة المركزية للإنتخابات الروسية بأنهم “جواسيس لايهتمون بانتخابات روسيا بقدر مايهتمون بمنشآتها العسكرية”! أولا تعنيه تقارير 185 مراقباً من 56 دولة، ولا شهادة إثنين من اربعة هم أهم منافسي بوتن إنتخابياً، وهما جرينوفسكي وميرنوف، القاضية بنزاهة الإنتخابات واستحقاق الفائز بتهنئتهما لفوزه الكاسح، والذي حاز على مانسبته 63,6 من أصوات المقترعين… لم يحل كل هذا دون استمرار حملة التشكيك الغربية، الأمر الذي دفع بوتن الى التنديد بهذه المواقف الغربية من الإنتخابات التي هى عنده “المعادية لروسيا”. أما بالنسبة لفريقين من المعارضة، الشيوعي يساراً والبليونير برخروف يميناً، فقد اعتبرا فوز بوتن بمثابة “إعلان حرب”… لماذا إذن كل هذه الحملة على بوتن، أو على هذا المنتصر الذي أعاده الروس الى سدة القرار في الكرملن؟!

قبل الإجابة، لابد من إشارة الى أن الغطرسة الغربية قد استفزَّت ثلاثة من أهم وأعتى منافسيه، أولهم الثاني مرتبةً في حصد الأصوات، زعيم الحزب اشيوعي زوغانوف، والثاني القومي الشعبوي العنيد اجيرونوفسكي، بالإضافة الى ماهو بينهما سياسياً ميرنوف، ومعهم أيضاً الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الواسعة التأثير، وحملتهم جميعاً على التضامن مع بوتن في موقفه من هذه الغطرسة الفجة.

قطعاً، إنه ليس تضامناً غربياً مع شكاوى زوغانوف وورثة البلاشفة والمعارضين الآخرين ربما المحقة من اساليب وممارسات نظام الحكم الروسي القائم، إن لم يكن في أغلبها ففي كثيرها، ولا هوحرص على الديموقراطية الروسية الوليدة، وإنما كان لأمرٍ آخرٍ تماماً، وهولأن المنتصر المتوَّج رئيساً لروسيا الناهضة من بياتٍ شتويٍ فرضه عليها إنهيار خيمتها السوفيتية، والساعية بهمةٍ لإستعادة امجاد خلت، يعود اليوم للكرملن ضارباً على وتر الشعور القومي الروسي المتعاظم ويعلنها صريحةً مدويةً جاءت في سلسلةٍ من مقالاتٍ رئاسيةٍ على الطريقة السوفيتية: أن “لاهيمنة من طرفٍ واحدٍ على السياسة الدولية” بعد اليوم. كما، والى جانب خططه وبرامجه العسكرية التفصيلية المعلنة والطموحة المتوازية مع وجوب العودة الروسية المبتغاة لأستعادة مكانة ودورموسكوالغائب في القرار الكوني، يبشَّرالقيصر العائد للكرملن الغرب المتكالب لإطالة هيمنته على العالم ببدء إنبعاثٍ موضوعيٍ وتجسيدٍ عمليٍ مرتقبٍ لفكرة الحلف الأوراسي المنشود… بعودة بوتن، إنحاز الروس إلى البوتينية، هذه التي أفادت في حشدهم من ورائها من الفيتو الروسي لمرتين متواليتين في مجلس الأمن للحؤول بين الغرب المتغوِّل وتكرار فعلته الليبية في سورية، الأمر الذي أكسب القيصر الجديد شعبيةً كبيرةً بعد بعض إهتزاز ترجمت فوزاً مؤزراً في صناديق الإقتراع… أفاد العداء الغربي القيصر فقال الروس “نعم لروسيا الكبرى”!