عليان عليان – كاتب وباحث
الحديث والكتابة عن تجربة شيخ المناضلين بهجت أبو غربية وتراثه النضالي والفكري والسياسي على مدى 80 عاماً بعد أن شق طريقه في النضال منذ أن كان عمره ستة عشر عاماً أمر صعب جداً لعدة اعتبارات منها:
أولاً: لأن هنالك المئات من الشهادات بشأن دوره الفكري والنضالي منذ مطلع ثلاثينات القرن الماضي الموزعة على أكثر من قطر عربي لم يجر جمعها وتوثيقها حتى الآن.
ثانياً: أن هنالك مفاتيح عديدة لشخصيته، تتوزع ما بين الفكري والسياسي والنضالي والتنظيمي والإنساني.
ثالثاً: الخشية من أن لا نعطي القائد الكبير حقه في تأريخ تجربته الممتدة، على طول القرن العشرين وعلى ما يزيد عن ثلاث سنوات عن العشرية الأولى من القرن الحالي.
صحيح أنه أرخ لتجربته، عبر مذكراته الموزعة على جزئين، الجزء الأول (في خضم النضال العربي الفلسطيني من عام 1916 وحتى عام 1949) والذي صدر عام 1993، والجزء الثاني (من النكبة إلى الانتفاضة من عام 1949 وحتى عام 2000) والذي صدر عام 2004، لكن هنالك الكثير الكثير لم يرد في هذه المذكرات ولم يأت على ذكرها تواضعاً منه، ما يستدعي من الذين عاصروه أن يضيفوا لهذه المذكرات، شهاداتهم في تجربة وحياة ومسلكية شيخ المناضلين.
الريادة الكفاحية قبل عام 1949
لقد حقق أبو غربية رمزيته الاستثنائية الأولى وريادته الكفاحية قبل عام 1948 من خلال العديد من المواقف السياسية والفكرية والكفاحية الميدانية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً: أن رؤيته النضالية والسياسية القومية لم تكن غائمة أو عفوية بل استندت مبكراً إلى قراءة دقيقة لمخططات الاستعمار الواردة في تقرير لجنة كامبل بانرمان، وتأكيده على ضرورة التصدي لها من من خلال استراتيجية قومية، ذلك التقرير الصادر عن مؤتمر للدول الاستعمارية عام 1907، والذي شخص الخطر الأكبر الذي يهدد بقاء الدول الاستعمارية في مستعمراتها” ممثلاً بما يلي:
– بوجود شعب واحد يعيش على الشواطىء الشرقية والجنوبية للبحر المتوسط، له ماض تاريخي مرموق ويتكلم بلغة واحدة ويدين كله تقريباً بدين واحد وتوجد في بلاده إمكانات الرقي والتقدم.
– أن هذا الشعب مجزأ إلى أقاليم، ويجب أن تعمل الدول الاستعمارية بكل الوسائل على استمرار هذه التجزئة وتعميق أسبابها.
– ويجب أن يقام فاصل بشري غريب في أنسب مكان من هذه البلاد ليفصل بين عرب المشرق وعرب المغرب ويقطع الامتداد العربي، وهذا المكان هو فلسطين.
وقد اعتبر أبو غربية أن معاهدة سايكس بيكو ووعد بلفور وكذلك صك الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1922 ما هي إلا ترجمة دقيقة لتوصيات تقرير كامبل بانرمان. (الجزء الأول من مذكرات أبو غربية، في خضم النضال العربي الفلسطيني، ص 6)
ثانياً: دوره كمقاتل وقيادي صلب في صفوف الثورة الفلسطينية والكفاح الشعبي بكافة أشكاله عام 1933 وفي ثورة 1936 بمراحلها التي امتدت حتى عام 1939، وكذلك من خلال منظمة الحرية” منظمة ثورية مسلحة” التي شكلها ورفاقه منذ أواخر 1934 والتي استمرت في القيام بنشاطاتها الوطنية خلال فترة الحرب العالمية الثانية (1939 -1945) على نحو: التحريض على مقاطعة التجار اليهود والبضائع اليهودية، ومقاومة السمسرة وبيع الأراضي والقيام بالمظاهرات في المناسبات المهمة مثل وعد بلفور وشراء السلاح وتخزينه … وعبر دوره كقائد ميداني يخوض القتال مباشرة ضد العدو الصهيوني في فلسطين ودرتها القدس منذ عام 1947 وليس من غرفة العمليات تحت إمرة القائد الشهيد عبد القادر الحسيني، حيث شارك في معظم معارك القدس” أحياء سعد وباب الساهرة و حي الشيخ جراح وغيرها”، ومعارك القرى والمستعمرات المحيطة بها قائداً ومقاتلاً اقتحامياً وخاصةً معركة القسطل وأثخن جسده خلال عشرات المعارك بالجراح،جراء إصابته ثماني مرات في المعارك مع العدو الصهيوني.
وفي سياق قراءته لطبيعة الثورات الفلسطينية بين أن الثورات الفلسطينية وخاصةً ثورة 1936 هي ثورة عموم الشعب الفلسطيني لكنه أوضح أنها لم تكن ثورة بالمعنى العلمي للثورة على أهميتها وعنفوانها، بل تقع في إطار حركة مقاومة شعبية مسلحة ناتجة عن رد فعل طبيعي للغزو الاستعماري الصهيوني، وكذلك الحال بالنسبة للقتال الذي دار في فلسطين، من (1947 – 1949 ).
ثالثاً: من خلال تصديه وبشراسة مع مختلف المناضلين للمؤامرات البريطانية وللجان التي كانت تبعث بها بريطانيا بعد كل ثورة وبعد كل مواجهة بين العرب والعصابات اليهودية بهدف تنفيس الحالة الثورية لدى العرب، ومن خلال نضاله التعبوي والجماهيري لإسقاط مشروع تقسيم فلسطين عام 1937 والكتاب الأبيض عام 1938 ومشروع تقسيم فلسطين عام 1947 ، حيث ذكرنا بالحوار الذي دار بينه وبين عبد القادر الحسيني عامي 1947 و1948 والذي خلص إلى النتيجة التالية” إذا كان لمشروع التقسيم أن يمر فليمر بدون موافقتنا وعلى أجسادنا، ولنحتفظ بحقنا الفلسطيني لأبنائنا والعرب عموماً باسترداد وطننا، في ظروف غير الظروف التي نحياها الآن”.
رابعاً: من خلال قراءته الواضحة لمعسكر الأعداء حيث اعتبر – منذ دخوله معترك النضال في مطلع ثلاثينات القرن الماضي- اعتبر بريطانيا العدو الرئيسي، الذي يدعم اليهود بمختلف الوسائل لإقامة دولة لهم على أرض فلسطين”خاصةً أن صك الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1922 ، نص على وضع فلسطين في ظروف تسمح بتنفيذ وعد بلفور -الصادر عن وزير خارجيتها – لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وتضمن مواداً تسمح وتشجع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتمكن اليهود من السيطرة على مساحات من أرض فلسطين، حيث قدمت قوات الانتداب التسهيلات الإدارية والدعم اللوجستي والعسكري الكبير للعصابات اليهودية المسلحة.
وفي ضوء ذلك عمل أبو غربية على تعبئة وتحريض الجماهير ضد بريطانيا كما أنه اقترب من تصنيف الإقطاع كعدو وكأداة محلية بيد بريطانيا لضرب الثورة والتآمر عليها بعد أن شكل الإقطاع بدعم من دول النظام الاقليمي العربي آنذاك” فصائل السلام” التي لعبت دوراً تآمريا على الثوار الفلسطينيين لصالح الانجليز وفي تسويق المشاريع والمؤامرات البريطانية.
وبناء على هذه التعبئة ضد قوات الانتداب البريطاني في فلسطين كعدو رئيسي،خاض ثوار فلسطين عشرات المعارك الضارية ضد القوات البريطانية، حيث بلغ عدد العمليات العسكرية التي قام بها الثوار ضدها عام 1938 وحده 4969 عملية وأصدرت المحاكم العسكرية في ذلك العام نحو 2000 حكم بالسجن مدداً طويلة و 148 حكماً بالإعدام نفذت جميعها واعتقل إدارياً خمسون ألف شخص. ( الجزء الأول ، ص 125 )
خامساً: من خلال نظريته القائلة بضرورة عدم الاستكانة والهدوء في مراحل الجزر النضالي عبر التأكيد على الاستمرار في مشاغلة العدو ولو بأبسط الوسائل النضالية العسكرية وبوسائل المقاومة الشعبية المختلفة، وبمقاطعته والتعبئة ضده والتحريض عليه، وذلك حتى يبقى العدو الصهيوني في حالة من الارتباك وعدم الاستقرار.
سادساً: من خلال تركيزه على دور الشباب في الثورة، حيث عمل على تنظيم رحلات للطلاب العرب والكشافة إلى مختلف مناطق فلسطين،وخاصة البلدات التي شهدت معارك ضد العدو الصهيوني،وكان يتولى شرح المعارك التي تمت ومدى الاستبسال في القتال ضد العصابات الصهيونية، وضد قوات الانتداب البريطاني ودور القيادات ولمقاتلين العرب فيها بهدف ضمهم للثورة على قاعدة من الوعي القومي لطبيعة الصراع.
سابعاً: من خلال قناعته الكاملة وممارسته في المرحلة التي سبقت نكبة 1948 بأن معركة تحرير فلسطين هي معركة قومية لان العدو الصهيوني كان يستهدفها الأمة العربية بكاملها، وبهذا الصدد قال في مذكراته” لم يكن شعب فلسطين مسؤول عن التقصير في وصول العدو الصهيوني إلى أهدافه أو عن عدم تحويل المقاومة الشعبية المسلحة إلى ثورة شاملة ، بل كان ذلك مسؤولية الأمة العربية بكاملها التي كان يستهدفها العدوان الاستعماري الصهيوني”، والثورة الشاملة من منظور بهجت أبو غربية لا تكون ثورة قطرية ولا تتحقق إلا على أساس أن تكون ثورة قومية.
ثامناً: من خلال استخلاصه الدروس من نكبة 1948 وما يجب أن يبنى عليها على النحو التالي:
الدرس الأول: أن العدو الحقيقي بعد الكيان الصهيوني هي الدول الامبريالية وعلى رأسها بريطانيا، ومن ثم الولايات المتحدة نظراً لتوفير بريطانيا كافة الإمكانات المادية واللوجستية والتسليحية والسياسية للعصابات اليهودية من أجل إقامة دولة لهم في فلسطين ونظراً للدور الذي لعبته الإدارة الأميركية في عهد الرئيس ويلسون مبكراً في مباركة وعد بلفور،عام 1917 وصك الانتداب عام 1922 والدور الذي قامت به في عهد الرئيس ترومان عام 1947 ، للتأثير على موقف مختلف الدول للموافقة على قرار التقسيم.
أما الدرس الثاني: فيتمثل في الحذر المطلوب من الأنظمة العربية الاقليمية، حيث أن هذه الأنظمة أثبتت فشلها وعجزها عن تقديم أي عون لمواجهة التآمر الدولي الصهيوني، وتآمر بعضها على ثورة 1936 ، وخذلت قوات الجهاد المقدس عام 1948 .
وفي الذاكرة- كما قال أبو غربية- رفض رئيس اللجنة العسكرية العربية في دمشق آنذاك اسماعيل صفوت باشا الاستجابة لطلب عبد القادر الحسيني بتزويده أي قطعة سلاح للدفاع عن القدس ولتحرير بلدة القسطل، ورفضه وساطة وضغوطات كل من أمين الجامعة العربية آنذاك عبد الرحمن عزام، والحاج أمين الحسيني وغيرهما بشأن تزويد عبد القادر بالسلاح، ناهيك أن هذه الأنظمة سهلت الكثير من الخطط الصهيونية والأميركية لتمرير قرار التقسيم ، وقاتلت فقط في حدود قرار التقسيم
وقال بهجت أبو غربية: أود أن أشير إلى ما ورد في كتاب جلوب باشا 1956 ” أنه في شهر مارس آذار 1948 توجه (جلوب) وتوفيق أبو الهدى إلى بريطانيا واجتمعا مع مستر بيفن واتفقوا على تنفيذ قرار التقسيم، وأن لا يجري قتال بين الجيش العربي والقوات الصهيونية قبل 15 أيار 1948 .
والدرس الثالث المستخلص من نكبة 1948: هو أن مقاومة العدو الصهيوني استناداً إلى القوى الشعبية، لعبت دوراً محورياً في الحرب على الرغم من كل ما صادفته هذه القوى من عوائق وتآمر رسمي عربي ودولي إمبريالي، إذ أنه رغم عدم توفر السلاح والتنظيم لدى شعبنا العربي في فلسطين، وعلى الرغم أن العدو الصهيوني كان يملك قوات كبيرة نظامية وغير نظامية، وأنه كان الباديء بإشعال القتال بمجرد صدور قرار التقسيم،إلا أن كفة المقاومة الشعبية الفلسطينية رجحت على القوى المعادية في شهر ابريل نيسان 1948 .( لقاء صحفي مع مجلة الهدف الفلسطينية أجراه عليان عليان بتاريخ 20 -6- 2006 )
ولم تنل جروح معارك الدفاع عن القدس والتي ظلت آثارها بادية على جسده حتى وفاته – من إرادته الصلبة ومن روحه الوطنية والقومية المتقدة، بل زادته إصراراًًً على السير في طريق تحرير فلسطين، قناعة منه أن الكيان الصهيوني إلى زوال إيماناً منه وقناعة لم تتزحزح- رغم حالات الجزر والنكسات – بأصالة الأمة ودورها في إزالة هذا الكيان السرطاني من جسمها.
الريادة الكفاحية من عام 1949 – 1963
“الربط بين الخاص الوطني والقومي العربي”
حقق أبو غربية رمزيته الاستثنائية الثانية وريادته الكفاحية في المرحلة الممتدة من عام 1949 وحتى عام 1963عندما استخلص الدرس الرئيسي من نكبة 1948 حول أساسية العمل القومي والوحدة لتحرير فلسطين، ومن هنا جاء انتسابه لحزب البعث العربي الاشتراكي في الأردن عام 1949 وتبوأه موقع عضو القيادة القطرية للحزب.
لقد حقق أبو غربية ريادته الكفاحية في تلك المرحلة التي برز فيها كقائد استراتيجي لايساوم على الثوابت، ويوظف التكتيك في خدمة الاستراتيجية، وقد تبدت تلك الريادة من خلال العديد من المواقف السياسية والفكرية، ومن النضالات الميدانية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً: تجسيده وتمثله العميق لجدلية العلاقة بين العام القومي والخاص بشقيه الأردني والفلسطيني، وتجسيده بالقول والممارسة في الربط بين النضال من أجل الوحدة وتحرير فلسطين، فقد خاض مع رفاقه البعثيين وغيرهم من القوميين والوطنيين نضالاً فكرياً وسياسياً وميدانياًً مميزاً ليحفر في أذهان الشعب والأمة ، بعد النكبة وعياً وقناعةً جوهرها “أن الطريق لتحرير فلسطين والقضاء على الكيان الصهيوني هو طريق الوحدة العربية وتحت شعار ” وطن عربي واحد- جيش عربي واحد – أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” وبدون ذلك لا يمكن التغلب على القوى المعادية، ولا يمكننا تحرير فلسطين.
ثانياً: ومن خلال دوره في صياغة برنامج الحزب في الخمسينات الناجم عن المؤتمر القطري(1952- 1953 ) – والذي كان له بصماته الرئيسية فيه – حول تحرير الجيش الأردني من القيادة البريطانية بطرد قائد الجيش الإنجليزي جلوب باشا، وفصل الشرطة والدرك عن قيادة الجيش وإلحاقها بوزارة الداخلية (أولاً) والاستغناء عن المعونة المالية البريطانية والاستعاضة عنها بمعونة عربية (ثانياً) وإلغاء المعاهدة البريطانية- الأردنية (ثالثاً) حيث رأى برؤيته الثاقبة مع رفاقه بضرورة التدرج في تحقيق هذه الأهداف، كون تكتيك تحقيق الهدف الأول، يصب في خانة تحقيق الهدف الثاني وتحقيق الثاني يفتح الطريق أمام تحقيق الهدف الثالث ممثلاً في إلغاء المعاهدة البريطانية- الأردنية. (مذكرات بهجت أبو غربية، الجزء الثاني- من النكبة إلى الانتفاضة –ص42)
وهذا ما تحقق عبر عملية نضالية متصله لعب فيها أبوغربية دوراً مركزياً وميدانياً، مع رفاقه في الحزب والحركة الوطنية الأردنية” الشيوعيون والقوميون العرب،والحزب الوطني الاشتراكي ونواب المعارضة في البرلمان” والضباط الأحرار على النحو التالي:
– تم طرد كلوب باشا ووحدات الجيش البريطاني وفق خطة وافق عليها الملك حسين في 29 شباط 1956 وتم تنفيذها في 1 آذار 1956 .
– وتم الاستغناء عن المعونة المالية البريطانية في 18 – 1- 1957 إثر الضغوط التي مارسها الحزب، وبقية أطراف الحركة الوطنية و وموافقة حكومة النابلسي والقصر على ذلك، بعد إجراء اتصالات مع الرئيس عبد الناصر للتعويض عن المعونة البريطانية، وكان الملك حسين تلقى رسالة خطية موقعة من الرئيس جمال عبد الناصر والملك سعود والرئيس شكري القوتلي بعد طرد كلوب باشا بأسبوع أي في 8 مارس- آذار 1956 بشأن تعويض الأردن عن المعونة البريطانية.
وتم إلغاء المعاهدة إثر بيان صادر عن حكومة النابلسي 27 -11- 1956 وبناء على توصية من لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأردني وتبناها المجلس، وحيث بعد مفاوضات استمرت حوالي ثلاثة شهور اضطر الوفد البريطاني المفاوض إلى الموافقة على إصدار البيان المشترك مع الوفد الأردني بإنهاء المعاهدة.
ثالثاً: دوره مع رفاقه في الحزب والحركة الوطنية في النضال الشرس لإسقاط حلف بغداد، حيث قاد أبوغربية مع رفاقه في الحزب والحركة الوطنية المظاهرات الشعبية الواسعة والاشتباكات العنيفة التي جرت عام 1955،عندما حاول الانجليز إلحاق الأردن بحلف بغداد، مما حمل بريطانيا على إرسال ” تمبلر” رئيس أركان الجيش البريطاني إلى عمان وبذل هو وكلوب كل ما لديهما من وسائل في سبيل ذلك وباءت جهودهما بالفشل بسبب عنف المظاهرات واتساع نطاقها وتعاطف العديد من ضباط الجيش مع الجماهير.
وقد لعب أبو غربية دوراً مركزياً في إفشال زيارة الرئيس التركي جلال بيار -التي استهدفت ضم الأردن إلى حلف بغداد الاستعماري من خلال إنجاز الإضراب في القدس يوم وصوله للمدينة، ومن خلال دور الحزب في الإعلان عن الإضراب في 2-11- 1955 ، حيث تحدى أبو غربية قرار محافظ القدس آنذاك حسن الكاتب- فارس فرسان الإمبراطورية البريطانية- بمنع الإضراب.( الجزء الثاني، ص109 )
يضاف إلى ذلك دوره الرئيسي في قيادة المظاهرات ضد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وللتصدي لمبدأ أيزنهاور عشية وغداة مؤتمر الحركة الوطنية في نابلس في نيسان 1957
رابعا: دوره الرئيسي المبكر في إفشال مشروع الصلح مع (اسرائيل ) في صيف عام 1950 إبان حكومة سعيد المفتي، عندما جمع المفتي بالتنسيق مع محمد علي الجعبري ووديع دعمس 200 شخصاً من أهالي القدس وأريحا ورام الله وبيت لحم والخليل، من البسطاء وكبار السن، – وليس بينهم أحد من النواب والناشطين سياسياً – في مدرسة الرشيدية في القدس ليوافقوا على مشروع الصلح مع (اسرائيل) فكان أن تمكن ورفيقاه النائبان عبدالله الريماوي وعبدالله نعواس من الدخول إلى القاعة وإفشال الاجتماع بعد أن ألقى أبو غربية كلمته التحريضية التي قلبت السحر على الساحر التي بدأها بقوله: يا باشا تقطع أيدينا! تقطع أرجلنا! تقطع أعناقنا إذا وقعنا صلحاً مع اسرائيل.. نحن لا نوافق على الصلح مع اليهود ولا نوافق على الاعتراف بدولة العدو، وندعو جميع العرب والمسلمين إلى العمل على استرداد بلادنا وأرضنا… فهذه الأرض لدى جميع العرب ، وإذا كان استردادها غير ممكن حالياً فإن الاوضاع يمكن أن تتغير في المستقبل ، والعربي ينام على ثأره 40 سنة ويقول استعجلت والأيام بيننا وأضاف: كيف يجري الصلح قبل أن نأخذ ثأر شهداءنا الذين لم تجف دماءهم بعد…ونحن العرب في عاداتنا العشائرية يكون الكلام عن الأرض والعرض والدم للصغار وليس للكبار! نحن الصغار أبناء الشعب لا نوافق على الصلح، وأنا شخصياً استشهد أخي في الحرب ومن حقي كصاحب دم أن أرفض الصلح، وسأقتل من يطايب على دم أخي وأعتبر من يوافق الصلح مع اليهود قبل أن تعود الأرض وقبل أن يغسل الدم والعرض، خائناً لأمته ولوطنه ولحقوق العرب والمسلمين في فلسطين” (الجزء الثاني من المذكرات ص 34 ) وعند إنهاء كلمته ثارت في القاعة ضجة وصرخ أكثر من شخص 7 .
خامساً: من خلال ولائه للعقيدة القومية أولاً ورفضه العديد من رفاقه للتعصب التنظيمي الأعمى، عبر تأييده الكاسح لثورة 23 يوليو في مصر وأهدافها الستة بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر، إذ أكد في مذكراته ولقاءاته الصحفية على التكامل بين البعث ومبادئ ثورة 23 يوليو في قضايا الوحدة العربية، والعدالة الاجتماعية،ومحاربة الاستعمار والصهيونية.
وجاء في مذكراته أن وفداً من القيادة القطرية للحزب مؤلفاً من كل من عبدالله الريماوي وعبدالله نعواس، زارا مصر بعد الثورة للتعرف على قيادة الثورة وتوجهاتها، والتقى مع عبد الناصر، وعندما عاد الوفد قدم للقيادتين القومية والقطرية، تقريراً عن انطباعاته وتقديراته أكد فيه على أن الثورة وطنية وليست صنيعة جهات أجنبية، وأن عبد الناصر من أصول شعبية وطنية،وتوجهاته ضد الاستعمار وضد الإقطاع وضد الرأسمالية، ويؤمن بالقومية العربية .. وخلص التقرير بتوصية مفادها” وجوب الاقتراب من قيادة الثورة المصرية وتعميق الاطلاع على توجهاتها، ومحاولة التأثير على خط سيرها في الاتجاه التحرري القومي الاشتراكي”( الجزء الثاني من المذكرات ص133)
سادساً: إصراره على ضرورة إنجاح تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر، بوصفها خطوة مهمة باتجاه تحقيق الوحدة العربية،وبصفتها تهديداً حقيقياً للقوى الاستعمارية والصهيونية و كخطوة كبيرة على طريق تحرير فلسطين، ذلك الإصرار الذي فجر خلافه وخلاف رفاقه في القيادة القطرية للحزب في الأردن مع مؤسس الحزب ميشيل عفلق في مؤتمر الحزب في بيروت عام 1959 حيث أصر أبو غربيه ورفاقه على ضرورة معالجة قضايا الوحدة وثغراتها داخلياً دونما نشرها في العلن أمام المتربصين بالوحدة، وبشأن اعتراضه على سحب وزراء البعث من حكومة الوحدة كما كان يريد عفلق.
وفي ضوء هذا الخلاف غادر أبو غربية الحزب تنظيمياً مع معظم رفاقه منذ عام 1959 ولم يغادره فكرياً، حيث أنصف الحزب بتأكيده أن الحزب في تلك المرحلة في عقيدته ونضاله، كان يتبنى الوحدة والتحرير كنهج ثابت ومقدس وليس تكتيكاً سياسياً.( الجزء الثاني من المذكرات، ص 218 -220 )
سابعاً: من خلال قدرته على تحمل مسؤولية قيادة الحزب في مرحلة العمل السري بعد حل حكومة حسين الخالدي عام 1957 وإعلان الأحكام العرفية وما نجم عنها من اعتقال بعض قيادات وكوادر الحزب وأبرزها أمين شقير والدكتور منيف الرزاز ومغادرة آخرين مسبقاً إلى دمشق مثل عبدالله نعواس وعبدالله الريماوي ومن ثم مغادرة عضوي القيادة القطرية أيضاً إلى دمشق وهما: حسني الخفش وحمدي عبد المجيد..وما مكنه من قيادة الحزب في هذه المرحلة توليه سابقاً مهام طباعة النشرات ومهمات المالية وسجلات العضوية واعداد تقارير ،وقيادة جميع المظاهرات واتصالاته مع الضباط الأحرار ومشاركته الفاعلة في كافة الاجتماعات والاتصالات الحزبية التي كانت تجري مع الأحزاب الأخرى (الجزء الثاني من المذكرات ، ص 205)
ثامناً: من خلال قدرته على الصمود الخارق في ظروف الاعتقال في مختلف السجون وفي ظروف النفي إلى كل من الأزرق والشوبك، حيث كان السجن بالنسبة له محطة نضالية تزيد من قدرته على مواصلة النضال.
تاسعاً: قدرته من خلال مسيرته الكفاحية وبصيرته النافذة على الفرز بين مدرستين بلونين سياسيين، مختلفين متناقضين ومتصارعين انضوى فيهما قادة ورؤساء منذ الخمسينات وحتى اللحظة الراهنة هما مدرسة الشعوب التي ضمت مختلف القوى الوطنية المناهضة للاستعمار، والمدرسة الأخرى مدرسة نوري السعيد الموالية للاستعمار التي انضم لها رؤساء وحكام وأدوات وأزلام عديدون حيث أكد أن استراتيجية العمل القومي يجب أن تنطلق من هذا الفرز دونما خلط للأمور.
ورأى شيخ المناضلين أن هذه المدرسة الاستسلامية جرت الويلات على الأمة العربية.. وقد قامت عقيدتها على ما يلي:
أ- أننا شعب متخلف وضعيف، بما يعنيه ذلك من الاستهانة بالقوة الشعبية والتيئيس من إمكانية الاعتماد على الذات.
ب- أن الامبريالية والصهيونية قوة جبارة لا قبل لنا بها، ولا نستطيع مقاومتها.
ج- أن لهذه القوى مصالح في بلادنا ولا يمكن أن نمنعها عنها.
د- أن تعاوننا مع هذه القوى الأجنبية، يمكن أن يوصلنا إلى صيغة تضمن مصالحها ومصالحنا. ( الجزء الثاني ، ص6 )
الريادة الكفاحية منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية
وحقق أبو غربية رمزيته الاستثنائية الثالثة وريادته الكفاحية ابتداء من العام 1964 في مرحلة تأسيس منظمة التحرير ونشوء الكيانية الفلسطينية، والتي واصل فيها دوره كقائد قومي استراتيجي، وقد تبدت تلك الريادة من خلال العديد من المواقف الثورية والممارسات النضالية نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أولاً: دوره الفاعل عام 1964 في تأسيس وبناء منظمة التحرير على أسس تجسد العلاقة بين الخاص الوطني والعام القومي دون الانزلاق في مستنقع القطرية، تلك العلاقة التي تجسدت في صياغة الميثاق القومي للمنظمة وما تضمنه من مواد، وخاصةً المادة(13) التي تنص على ” أن الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان يهيء الواحد منهما للآخر، فالوحدة العربية تؤدي إلى تحرير فلسطين، وتحرير فلسطين يؤدي إلى الوحدة العربية، والعمل لهما يسير إلى جنب إلى جنب” .
وما كان أبو غربية ليقبل عضويته في أول لجنة تنفيذية لمنظمة التحرير إلا بعد أن تأكد أن المبادىء التي قام عليها الميثاق القومي الفلسطيني جيدة نصاً وروحاً بما عبرت عنه من مواقف وأهداف ووسائل، وأن المنظمة ستكون رأس الرمح في حرب التحرير وأنها لن يجر استخدامها للتفاوض مع دولة العدو الصهيوني والاعتراف به أو كأداة لإجهاض المنظمات الفلسطينية السرية التي بدأت تتشكل لاستئناف الصراع مع العدو الصهيوني.( الجزء الثاني، ص 262 ، 264 ، 265 ) حيث أكد بوضوح “أنه كان وما زال من المؤمنين بأن الوحدة العربية هي طريق التحرير، ومن الداعين لها، وأن نضال عرب فلسطين مهما تعاظم لا يتمكن من حسم المعركة ما لم تصبح المعركة قومية “( الجزء الثاني من المذكرات، ص 265 )
وثانياً: من خلال موقفه الصلب والمتكامل مع موقف رئيس اللجنة التنفيذية أحمد الشقيري وبقية أعضاء اللجنة التنفيذية بشأن التمسك بانشاء جيش التحرير الفلسطيني ورفض أن يكون البديل مجرد كتائب مستقلة فكان أن وافقت القمة العربية الثانية عام 1964 على هذا المطلب بعد أن هددوا بتقديم استقالة جماعية.
ثالثاً: رفضه ومقاومته العنيدة لسياسة التفرد في اتخاذ القرار من قبل رئيس منظمة التحرير آنذاك، المرحوم أحمد الشقيري الذي اختلف مع تنظيمياً، ولم يختلف معه وطنياً وسياسياً. ورفضه لاحقاً لسياسة التفرد لرئيس اللجنة التنفيذية ياسر عرفات الذي اختلف معه تنظيمياً وسياسياً.
ورابعا: عبر تصديه المبكر مع الشقيري ومع بقية أعضاء اللجنة التنفيذية لأي صلح مع الكيان الصهيوني، وفي الذاكرة رفضه لدعوة بورقيبة لعقد صلح مع الكيان الصهيوني عام 1966 ، حيث قاد المظاهرات احتجاجاً على دعوة بورقيبة بالضد من موقف أعضاء اللجنة التنفيذية، وبالضد من طلب محافظ القدس آنذاك داوود أبو غزالة ، حيث قال قولته المشهورة” إذا كان علي أن أختار بين عضوية اللجنة التنفيذية وبين قيادة الجماهير في الشارع فإنني أختار قيادة الشارع، مع أنه ليس هناك ما يمنع أن أجمع ما بين الناحيتين” … ورفضه كذلك مع زملائه لمحاولة البروفسور الأميركي (فشر) عام 1968 لحمل المنظمة على الالتزام بالعمل السياسي فقط والتخلي عن ميثاقها القومي من أجل عقد تسوية مع الكيان الصهيوني.( الجزء الثاني من المذكرات، ص 367 )
وخامساً: من خلال دوره في نقل منظمة التحرير في تلك المرحلة من خانة الارتباط بالأنظمة، إلى خانة التحرر من هذا الارتباط بعد هزيمة عام 1967 ، وتأكيده على الدور المركزي لفصائل الثورة فيها وذلك في الدورة الرابعة للمجلس الوطني(10 -17 1968 ) الذي حضرته فتح وعشر منظمات فدائية أخرى وجيش التحرير الفلسطيني وقوات التحرير الشعبية وشخصيات مستقلة… وقبل ذلك وبعده دوره الأساسي في تشكيل قوات التحرير الشعبية كفصيل فدائي منبثق عن المنظمة، وجيش التحرير الفلسطيني وكذلك جبهة النضال الشعبي الفلسطيني، حيث لعب دوراً فاعلاً في قيادة وتوجيه العمل الفدائي في الأغوار.
لقد سرد البعض ممن عايشوه في تلك المرحلة في أواخر الستينات أنه كان يمضي ، بين قواعد الفدائيين متحدثاً إليهم كقائد وكأب وكمرشد، يضع بين أيديهم خبرته الثورية في ثورة 1936 ، عندما كان شاباً يافعاً، وخبرته في حرب 1048 وكان مقاتلاً بارزاً يقدم لهم الرؤية البسيطة والعميقة في مواجهة نكسة 1967 القائمة على تلازم لا ينفصل بين فلسطين والعروبة، بين الشعب والثورة، وبين الغاية والوسيلة، بين الفكر والممارسة.
سادساً: رؤيته الثاقبة في أن مباركة العديد من الدول العربية لأن تكون المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كان حقاً يراد منه باطل، والهدف منه ضرب البعد القومي للقضية الفلسطينية وفلسطنتها تحت شعار” ” دعم القرار الفلسطيني المستقل” وذلك خدمة لنهج التوجه نحو التسوية، وهذا ما تحقق حسب رأيه عندما استثمر النظام العربي الرسمي مسألة استقلالية القرار الفلسطيني المستندة إلى أن المنظمة ممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ليتنصل من التزاماته القومية وليرفع شعار حق أريد به باطل وهو” نقبل ما يقبل به الفلسطينيون” لدفعهم إلى متاهة التسوية وحي ثبت بالملموس، أن استقلالية القرار هي استقلالية عن الشعوب العربية وليس استقلالية عن الأنظمة.
سابعاً: مقاومته العنيدة لنهج التسوية بعد عام 1967 الذي بدأ يعبر عن نفسه ابتداء في طرح” الدولة العلمانية”( دولة واحدة لليهود والعرب في فلسطين) عام 1969 عبر مقال لعضو اللجنة المركزية لحركة فتح أبو إياد في أحد الصحف المصرية وفي طرح ” حكومة المنفى” – وحسب مذكراته- ان ياسر عرفات هو الذي أوعز لأعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، الترويج لهذه الحكومة ورأى في ذلك كله تناقضاً صارخاً مع الميثاق ومع ما تنادي به “فتح” حول تحرير كامل التراب الفلسطيني، ورأى ببصيرته الثاقبة أن هذا التصريح وغيره، كان مقدمةً للدخول اللاحق في متاهات التسوية . (الجزء الثاني من المذكرات، ص 360 )
ورفضه المبكر للتسوية دفعه لتقديم استقالته من اللجنة التنفيذية عام 1971 مبرراً ذلك بعدة أسباب عديدة من ضمنها توجه قيادة المنظمة نحو التسوية، حيث قال في مذكراته:” لقد تعاونت مع عرفات في مرحلة المقاومة لكني لن أتعاون معه في مرحلة الاستسلام”.
ورغم استقالته من اللجنة التنفيذية إلا أنه حافظ على عضويته في المجلسين الوطني والمركزي، واستمر في تصديه لنهج التسوية الذي أخذ عنواناً جديداً (البرنامج المرحلي- النقاط العشر) في الدورة 11 للمجلس الوطني، والذي شكل في نظره مقدمة للقبول بمشاريع التسوية اللاحقة .
ورأى أبو غربية أن البرنامج المرحلي كان مقدمة لأوسلو وأن دورة المجلس الوطني التي سميت بدورة الانتفاضة عام 1988 كانت مؤامرةً على الانتفاضة الأولى وأهدافها، وأن الانتفاضة كانت الغائب الرئيسي عنها مبيناً أن إعلان قيام الدولة الفلسطينية طغى على القرارات الخطيرة، وخاصة الاعتراف بالقرارين 242 و338 والدخول في دهاليز التسوية التي أوصلتنا إلى أوسلو كمشروع جدي لتصفية القضية الفلسطينية وفقاً للشروط الصهيو- أميركية… حيث أنه في ضوء ما تقدم قدم استقالته من كافة مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية عام 1991 ( الجزء الثاني من المذكرات، ص 505 )
لقد رفض أبو سامي اتفاقات اوسلو وحاربها وعمل على تفنيد تفاصيلها الخطيرة وأبعادها، وعمل على التعبئه ضدها سياسياً وفكرياً وإعلامياً مبرهناً أنها مشروع لتصفية القضية الفلسطينية، وفقاً للشروط الصهيو- أميركية حيث جاءت تجربة الحياة لتؤكد صحة ما ذهب إليه شيخ المناضلين العرب.
وأكد أبو سامي أن اتفاق أوسلو وما تبعه كان نهجا استسلامياً خطيراً حقق للعدو مكاسب عديدة، وأتاح له وقتاً ثميناً لتنفيذ مراحل هامة من برنامجه، حيث أوقف انتفاضة الحجارة التي انطلقت في 8-12- 1987 واستمرت أربع سنوات، واعترف بدولة العدو وشرعية احتلاله وتوسع الاستيطان في ظله، وألغي الميثاق الوطني الفلسطيني، وارتكب العديد من جوانب التفريط والخطايا الأخرى المعروفة.
لقد قدم أبو غربية قراءة علمية موضوعية للحركة الصهيونية وعلاقتها بالدول الاستعمارية والامبريالية، وخلص إلى استنتاج محدد- يجب تثبيته كبند رئيسي في استراتيجية المواجهة مع الكيان الصهيوني – وهو:” أنه لا يمكن التعايش مع هذا الكيان أو الوصول إلى حل وسط أو تسويات معه، ولا يمكن أن يكون الاستسلام للعدو والقبول بما يخططه طريقاً لتحقيق مصالح أمتنا وانهاء الصراع، فقد فرض علينا إما نحن وإما هم، ولا خيار لنا سوى المقاومة”.
كما رفض معاهدة وادي عربة وحاربها أيضاً وعمل على تحليل وتفنيد أبعادها، وعمل أيضاً على التعبئة ضدها سياسياً وفكرياً وإعلامياً ونضالياً حيث كان له فضل السبق في المناداة بتشكيل اللجنة الشعبية لمقاومة الإذعان والتطبيع.
ورأى “أن الواقع الملموس أثبت أن الاتفاقات والمعاهدات التي عقدت مع العدو الصهيوني، كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة وما تفرع عنها جاءت لصالح العدو، وأن شعبنا رفضها ولم يلتزم بمقتضياتها، وهو يسعى إلى إلغائها، وقد أسقط فعلاً بعض جوانبها”( الجزء الثاني من المذكرات، ص 550 )
وظل شيخ المناضلين على قناعته بحتمية انتصار الأمة العربية رغم حالة الجزر التي تمر بها حيث قال” تختزن الشعوب والأمم ومنها أمتنا العربية طاقات وامكانات كبيرة جداً، تستطيع بها أن تقاوم من يعتدي عليها وأن تنتصر، وأن تحصل على حريتها التي يسلبها الحكام المستبدون أو المتعاونون مع الأعداء، لا سيما إذا وجد من يفجر هذه الطاقات ويحسن تعبئتها وتوجيهها ويتقن إدارة الصراع”.
ورغم تقدم عمره ظل أبو غربية مرجعية للمناضلين يلجأون إليه قبل حسم مواقفهم وصياغة برامجهم، وكان موقفه المستند إلى حكمته وخلاصة تجربته هاديا لهم وللأجيال، حيث شكل موقفه من التطبيع بعد توقيع معاهدة وادي عربة، بوصلة لحركة مقاومة التطبيع في الأردن والوطن العربي عموماً، حين أعلنها صريحة مدوية ” أن معركة مقاومة التطبيع تستحق التضحية بالنفس، على النحو الذي يضحي المقاتلون من أجل الحرية بأنفسهم في المعارك الحربية مع العدو الصهيوني الامبريالي” .
ولم يجامل شيخ المناضلين أحداً في الثوابت الوطنية والقومية وفي الموقف من المقاومة والتسوية، وأصر حتى آخر لحظة من عمره على أن لا بديل غير المقاومة طريقاً للتحرير والعودة.
ولم تكن فلسطين همه الوحيد بل كانت كافة قضايا أمته محور نضاله واهتماماته وخاصة قضية العراق في مواجهة الحصار والاحتلال الصهيو- أميركي له، وكذلك دعمه ودفاعه عن المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق، وسعيه الدائم لحشد التأييد والدعم لها.
وشاءت الأقدار أن يكحل عينيه قبل رحيله إلى الرفيق الأعلى برؤية الثورات العربية، تنتصر في أكثر من قطر عربي ضد حكام ديكتاتوريين، رهنوا بلادهم وسياساتهم في تبعية رخيصة للامبريالية الأميركية وحليفتها الصهيونية العالمية.
رحم الله أبا سامي فقد أمضى عمره في النضال نظيف الكف واليد واللسان، ولم تشوب ثوبه الأبيض -على امتداد ستة وتسعين عاماً من عمره- شائبة لا في السياسة ولا في المال ولا في الأخلاق، وحافظ على التزامه المبدئي الوطني والقومي حتى آخر لحظة من عمره وظل قائدا استثنائياً وضميراً ورمزا قومياًً، في كافة مراحل العمل الوطني والقومي، واستحق بجدارة لقب” شيخ المجاهدين.
رحم الله شيخ المناضلين بهجت أبو غربية، وعزاء المناضلين والمجاهدين العروبيين والإسلاميين وأبناء الأمة جميعاً، أنه ترك لهم إرثاً نضالياً وخلاصة تجربة، تشكل لها هادياً لهم نحو تحقيق أهدافهم في الوحدة والتحرير والعزة والكرامة.