عودة الى مالابد لنا من قوله

عبداللطيف مهنا

في مقال سابق قلت إن مشكلة المشاكل في نضالات الشعب الفلسطيني وعلى مدى ناف على القرن كانت تكمن في قياداته. وردني لاحقاً أن ماكان مني قد أثارإستياءً لدى البعض واستحساناً لدى آخرين كأنما هم غير معنيين به أوهو لايشملهم. قلت في حينه إن التاريخ ربما لم يعرف شعباً قد ضحى ويضحي وسيظل يضحي بكل ما لديه من غالٍ ورخيص من أجل قضيته العادلة مثلما كان ديدن هذا الشعب العنيد المناضل على مدار مازاد عن القرن من عقود الصراع العربي الصهيوني. لكنما قياداته، ومن أسف، لم ترتق يوماً إلى مستوى أسطورية نضاله… ومن ثم كان لابد لي من انتقال الى الكل، فقلت إن الأمة، وعنيت الشعب العربي مستثنياً غالب أنظمته، رغم قسوة وفداحة تغييبها القسري المديد، لم تبخل على مدار الصراع ولا هى ستبخل ببذل كل ماسمحت وستسمح لها به أحوالها دعماً ومعاضدةً لنضال شعبها الفلسطيني. وقفت من ورائه وامتزجت دماء أبناء أقطارها البعيدة والقريبة بالدم الفلسطيني على تراب هذا الجزء السليب منها، لإدراكها بحسها العفوي أن فلسطينها كانت وستظل قضيتها المركزية واستعادتها عبر تحريرها هو وحده بوصلة مستقبلها. بيد أن مشكلة الأمة بدورها كانت في أنظمتها القطرية التي فشلت في غالبها فشلاً مشهوداً في كل مايبرر وجودها… الإنفكاك من التبعية. صون الكرامة الوطنية. الحفاظ على السيادة الوطنية. تحقيق حلم الوحدة. بسط الديموقراطية. العدالة الإجتماعية. توفيرالرغيف لجوعى تتوالى الزيادات المضطردة في طول طوابيرهم… وصولاً إلى إضاعة فلسطين الأمة، بل حتى تفشي عدم المناعة من هبوطٍ لدرك التواطوء في إستدامة ضياعها. وقد ينسحب ماتقدم على النخب التي لم ترتفع بدورها الى مستوى هموم وعذابات وانكسارات الأمة، هذا إذا لم نقل مستوى سمو آمالها واحلامها ونبل نضالاتها وتضحياتها ومشروعية تطلعاتها. كل هذا في حين أنها تظل الأمة المتفردة بين الأمم بكونها كانت دائما مدرسة شهادة وهي تدفع ضريبة اتواقها للإنعتاق وإيبائها للضيم ومقاومتها للغزاة.

ماقلته ربما قاله سواي من قبلي وسوف يقال من بعدي، بل لاأشك أنه لسان حال الشعب الفلسطيني وبعض ما يعتمل في وجدان بسطاء الأمة، وأحسب إن الراهن يدفعني الى تكراره، وأن اضيف له، لوكانت الموسوعة المعروفة ب”غنس” تعني بنضالات الشعوب وتضحيات الأمم أوتهمها مثل هذه الأمور، وهي ليست كذلك ولن تكون، لكان الشعب العربي الفلسطبني هوضيفها الدائم المتربع في صدارة المسطرمن أرقامها القياسية لجهة تضحياته في سبيل قضيته الوطنية. ولكانت الأمة العربية عبر تاريخها قد حظيت بكونها صاحبة الرقم القياسي فيها من حيث مواجهاتها للمحن وتصديها لتكالب الطامعين ومجالدتها لهم، وكأنما قدرها الأبدي، لتاريخها وجغرافيتها ودورها ورسالتها، قد جبل بالإنتصارات والإنكسارات والنهوض إثر الكبوات…واقع الحال الفلسطيني والراهن العربي يزكى ماكنت قد ذهبت اليه ويبرهن عليه ويلِّح على وجوب قوله. من ذلك إن آخر قرارات التهويد الجاري للبقايا المتبقية من فلسطين، والذي يتم تحت أنف السلطة الأوسلوية وبصرها وبشهادتها ومرأى ومسمع عرب الأنظمة، وبعد الفروغ من تهويد القدس جغرافياً ومواصلته ديموغرافياً و الإلتفات الى النتف التي لم تهوَّد من حولها وعلى أطرافها بعد، كان قرار هدم مطار قلنديا وتحويله الى مدينة صناعية، والأمر ذاته ينتظر مزق وكانتونات التجمعات البشرية الفلسطينية في بقايا الضفة المقطَّعة، وقد لايكون ببعيد ذاك اليوم الذي يقررالمحتلون فيه هدم المقاطعة في رام وتحويلها، مثلاً، الى مدينة ملاهي… رغم ذالك ليس هناك مايجعلنا نتذكّرأنه على مقربةٍ من قلنديا توجد ما يطلق عليها”سلطة” قد يتردد فيها نفس أوهى تسمع أزيز جرافات التهويد تضيّق الخناق من حولها قاضمةً أطرافها، ذلك بعد أن نسينا أنه في عهد قريب كانت قد ملئت هذه الصامتة الدنيا ضجيجاً حول نيتها الذهاب للأمم المتحدة لانتزاع إعتراف بدولتها، ثم لم يلبث ضجيجها وأن سحب من التداول ليحل محله آخر لاقى ذات المصير ألاوهو الملازم لآخرحلقة في مسلسل كرنفالات المصالحات التي غدت دورية دونما  مصالحةٍ وتسفر قعقعتها عادةً بلا طحنٍ.

أما في الراهن العربي فالقوم مشغولون بربيعهم الذي كان واعداً قبل أن يسارع الخارج فيحوله بعونٍ من اعوانه وامتداداته في الداخل وتسهيل من قبل تهالك مستجدي السلطة خريفاً… مشغولون عن ماتكابده القدس وماتلاقيه غزة، التي تعيش المذبحة  تلو المذبحة والوساطة تلو الوساطة والتهدأة تلو التهدأة وتنام لياليها في إظلام دامس وتصحو في أيامها عل مسغبةٍ، وبعضه بفضل من إضافة حصار الأشقاء إلى حصار الأعداء…مشغولون بمتابعة المبارزة الروسية الأميركية آخذين على الروس إختطاف عروبتهم منهم حين يجهدون بدلاً عنهم وعلى الرغم منهم لمنع تكرار ما فعله الغرب بمظلة منهم في ليبيا مرةً أخرى في سوريا!

إذأً مالذي يحول بين ضمائرنا والبوح المستوجب بما لابد من قوله، سواء أأغضب من يغضب أوإستحسنه من يستثنى نفسه مما لايستثنيه، لاسيما والحال الفلسطينية هي الحال، والعربية يحاصر خريفها المبكِّر ربيعها المفاجىء وينبىء راههنا، وفق القول المأثور، بصيف ضيعت أللبن… مالعمل ؟؟!!

مرة أخرى، إن شعباً سجَّل سفراً من البطولات والتضحيات الإسطورية ويصمد في وجه أعتى هجمةٍ إستعماريةٍ مدججةٍ بأفتك آلات الموت ألغربية المتطورة وأضخمها سيظل القادرعلى إبتكار جديده النضالي واستنساب أشكاله المناسبة وتجاوزفاشلها، وأمة قدرها  مواصلة القيامات وديدنها النهوض بعد الكبوات لن تستسلم لراهنها بعد ان دق في أعماقها ناقوس التغيير… راهنها مخاض لسان حاله يردد قول الكميت: أرى حلل الرماد وميض جمرٍ… وافضل ما يمكن قوله فيه هو قول مالابد من قوله!