فلسطينيو سورية بين مطرقة الجوع وسندان طائفية الثورة السورية

 

مرح ماشي

يفترش الرصيف المقابل لإحدى المباني الفخمة في شارع الجمهورية، ويضع أسماكه أمامه.. فيتساءل أهل الحيّ ماذا يفعل هذا البائع الجوّال ههنا؟ ليجيب أحدهم: “لعلّه عنصر أمن!”، إلا إن جاراً يتدخّل بالقول: “بل لعلّه جاسوس مندسّ أتى ليأخذ معلومات عنّا لتسهيل عمليات خطف في الحي!”.

وحيد خالد (والاسم الأول وهمي) صياد فلسطيني يحمل آلام نكبة وطنه الأصلي إلى وطنه البديل الذي لم يعرف فعلياً سواه، فإذا به يعيش خيبات الوطنَين وبذات الحجم.

الصياد الذي لم يمتهن السياسة ولم يمالئ السلطة ليسجّل موقفاً مؤيداً، كما لم يبع نفسه لأنصار السلفيين الجدد في الرمل الفلسطيني خلال أحداث اللاذقية، فيصبح ثائراً بعُرف الثورة السورية، أتى بأسماكه مع أوجاعه بحثاً عن زبائنه الذين قاطعوا سوق السمك في منطقته، فقاطعتْه معهم لقمة العيش.

أن تقترب لتشتري السمك منه، فيغمر الفرح تجاعيد وجهه الخمسيني وتضحك عيناه الذابلتان.. بلطف سيتحدث معك، إنما بحذر يجيب عن الأسئلة الصحفية اللحوحة: “ينظر جيرانكم إليّ بريبة، أتيتُ إلى هنا طلباً للرزق فقط، لم يعد أحدٌ يرتاد السوق في الرمل الفلسطيني بعد الأحداث التي وقعت مؤخراً.. أنا فلسطيني ولا شأن لي بما يجري، وتورّط بعض الفلسطينيين بالأحداث الأخيرة لا يعني تورّطهم جميعاً”.

أكثر ما يرهق وحيد في الأزمة هو القطيعة الاقتصادية. هو لا يأبه بكل ما يجري من هلع خشية الاقتتال الطائفي سيما بعد التحريض الأخير والمجازر التي عرضتها الفضائيات المناوئة للسلطة في السورية، يقول ببساطة: “لا تهمّني طائفتك. لا أكفّرك. وحده الجوع كافر يابنتي”.

يحمد الله على ما تعطيه من نقود، دون أن يناقشك في السعر الذي يطلبه. فمبلغ 250 ليرة كافٍ كثمن 2 كيلو سمك سردين، كما لو أن الصياد الفلسطيني يقول: “لا مشكلة المهم أن أبيع أسماكي فلا تفسد.. وتجوع عائلتي”، ويبدأ الحديث بودّ: “أيهما سيشغلني؟ القصف على غزّة أم الأزمة في سوريا؟ لا شأن لي في السياسة إلا إنني ورثتُ عن والدي أن الإسرائيلي طردنا من منزلنا واغتصب أرضنا، ورثتُ عداوتي للإسرائيلي. ولا أحتاج عداوات جديدة مع أخوتي في سوريا، كل ما أريده أن أعيش بسلام”.

“ما باليد حيلة” يقول وحيد تعليقاً على ما يجري في غزّة. ويهزأ من مظاهرات خرجت في الداخل الفلسطيني نصرة ل “الشعب السوري”، في حين أن المتظاهرين لا يثورون على حكّامهم الذين صادروا القضية وضيّعوا الأرض.

ويكفي لكي تتأكد من كلام وحيد أن تستقل سيارة الأجرة.. وتقول للسائق: “إلى الرمل الجنوبي لو سمحت”، فينظر إليك باستغراب. يفكّر للحظات. ثم يمضي إلى هناك، ولكنه سرعان ما يتناول لفافة تبغ باستياء، ولا يلبث أن يسأل: “منظرك لا يوحي بالذهاب إلى تلك المنطقة!!”.

إذاً لكي تذهب إلى الرمل الجنوبي “الفلسطيني”، عليك أن تتمتع بمظهر معين أوّل دلالاته ملامح الوجه المستاءة، فما إن تدخل المنطقة حتى تفهم سرّ عذابات الصياد وحيد خالد، إذ ليس مهمّاً أن يكون الجو ماطراً أو صحواً هُنا كي تلحظ حالة الفراغ الواضحة في السوق.

أبو محمد، صاحب بقالية، يقول: “تغيّرت الأحوال، إذ كانت المنطقة تعجّ بالغرباء القادمين لابتياع الأسماك أما اليوم فكما ترين السوق فارغ، ويقتصر البيع والشراء على البقاليات الصغيرة لسكان المنطقة فحسب”.

أما سليم وهو صيادٌ أيضاً، يتساءل بأسى: “لا تزال تخرج بعض المظاهرات، ونسمع انفجارات ديناميت يومية يستخدمها البعض، ما يسبب نفوراً لدى أهل المدينة من الدخول إلى الحي، كما يتم القبض يومياً على عدد من المتورطين في إلقاء الديناميت على حواجز الجيش وهذا يشكّل سبباً إضافياً لمقاطعة سكان اللاذقية لمنطقتنا”.

يصرّ سليم أن لا علاقة للفلسطينيين بما يحدث الآن، إلا إنه يعترف أن بعضهم كانوا حاضنين للحراك الذي بدأ في المنطقة من باب “نصرة الشعب السوري”، فيقول: “هنالك من الفلسطينيين من تحالف مع المتظاهرين السلميين، وهنالك بصراحة من تحالف مع المسلحين، ولكن الفلسطينيين اليوم يطلبون رزقهم فقط بعدما توضحت الصورة للجميع وتم القبض على المتورطين في حمل السلاح”.

وإلى الجنوب قليلاً.. خارج المخيم حيث صيادو الكورنيش الجنوبي يحاولون البحث عن رزقهم، يجلس العم أبو ياسين على إحدى الصخور ويتحدث بإسهاب عن عدم تأثر رزقه بكل الأحداث التي جرت، فلا زال زبائنه يتصلون به ويوصل لهم السمك الطازج إلى أحيائهم وبيوتهم، إلا إنه يجزم بحزن أن لا أحد منهم يطأ أرض الرمل الجنوبي.

كلام هؤلاء يعزز ما قاله وحيد خالد الذي استرسل في الكلام على باب المبنى الفخم ذاته عن رئيس السلطة الفلسطينية وكأنه متعطش للشكوى: “أخبرتني ابنتي الصغرى أنها سمعت في الإعلام أن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد منح الجنسية الفلسطينية للمطرب فضل شاكر داعم السلفيين في مظاهرات لبنان ضد السلطات السورية مؤخراً. كما ترين لا يوجد أدنى إحساس بالخجل.. انظري إلى الشعب الفلسطيني كيف يُقصَف كلما يحلو للإسرائيلي، وانظري بماذا يفكّر رئيسه”.

حُكماً ليس هذا الخبر هو المأخذ الوحيد على الرئيس الفلسطيني بالنسبة للصياد البسيط، بل هنالك أيضاً “(خِرْج) لم يعد يتسع للمزيد من الخطايا بحق الوطن”، حسب تعبيره.

أما حركة حماس فلحديثه عنها شجون، إذ يقول: “لقد باع مشعل القضية.. قضية خسرها منذ الاقتتال الداخلي على الأرض الفلسطينية، إلا إنه اليوم يعيد تاريخ بداية مهادنات حركة فتح، ومستقبل مشعل يشبه تماماً حال عباس اليوم”.

برأيه حماس بدأت بالتخاذل منذ زمن بعيد، بل يعود بالزمن إلى لحظة فوزها بالانتخابات، ففي رأي الرجل الفلسطيني العتيق أن المقاومين هم لحمل السلاح وليس للسياسة المليئة بالكذب والخداع والجري وراء السُّلطة.

الصياد المناضل مسلم مؤمن، يصلّي ويصوم رمضان، وزوجته وبناته محجّبات وهو يقول في هذا: “أنا أتّقي الله وأقيم فروض ديني، فديني دين يسر وليس دين عسر، وهذا الإسلام الذي يقتل أبناء الطوائف الأُخرى لا أعرفه، ولا أريد أن أعرفه، كما لم يعرفه السوريون الذين عشنا بينهم كل هذه السنوات”.

تمطر سماء اللاذقية، فيبدأ وحيد بجمع أسماكه بقدّه الضئيل وساعدَيه القويّين، والاتجاه نحو مدخل المبنى السكني الفخم المقابل له ملتجئاً من أمطار المدينة الساحلية.. لحظات تمرّ ويخرج أحد سكّان المبنى ويصيح به أن يعثر لنفسه على مكان آخر يشوّهه برائحة السمك “الزنخة”.. ينظر إلى الناحية الأُخرى يحمل أسماكه وأوجاع فلسطين المنكوبة.. وعقوق أخوته في الوطن لأمهم الحزينة، ويغادر آملاً بغدٍ غير ممطرٍ لا يشوّه فيه مداخل مباني الأغنياء.

:::::

المصدر: عربي برس، 2012-03-28

http://www.arabi-press.com/index.php?page=article&id=29583