“بؤرة إستيطانية فلسطينية”!!!

عبداللطيف مهنا

 

بالرغم من كل ما جرَّته خطيئة التغريبة الأسلوية من وبال على القضية الفلسطينية، وما ألحقته تداعياتها الكارثية من أذى فادح بالنضال الوطني الفلسطيني، ثم ما وفَّرته من ذريعةٍ لأن يتنصل المتنصلون من العرب من إلتزاماتهم إتجاة قضية العرب المركزية في فلسطين ونفضهم اليد منها كقضية قومية، إلا أنه لا زال هناك في الساحة الفلسطينية من أدمن الحديث إياه عن “السلام خياراً إستراتيجياً وحيداً”، ويتمسك بجدث ما كانت تدعى ب”المسيرة السلمية”، التي دفنها الصهاينة منذ أمد، ولا زال يتشبث بعبثية “المفاوضات” المعلقة الى حين الفروغ من تهويد بقايا النتف التي لم تهوَّد بعد من فلسطين، بعد أن وفَّرت هذه التغريبة المدمَّرة للعدو الوقت والغطاء لتهويد ماهوَّد وفرض المزيد من حقائق الأمر الواقع التي يريد فرضها على الأرض. أصحاب هذا الخيار البائس بعد عقدين مريرين من تراكم كوارثة واصطدام رؤوسهم بجدار التعنت الصهيوني، وهو الأمر الموضوعي نظراً للطبيعة الإستعمارية الإستيطانية الإحلالية للعدوالمحتل وطبيعة الصراع معه، ورغم تبدد كل ما تعلقوا بها من أوهام تسووية تصفوية يعقدونها معه، يلجأوون اليوم، بدلاً من العودة عن مسارهم هذا، إلى التغنِّي بما يدعونها “المقاومة المدنية” تنصلاً من مفترض المقاومة الشاملة وبشتى صورها وأولها وعلى رأسها المقاومة المسلحة…المقاومة على الطريقة “البلعينية” التي باتوا يشنّونها دورياً، حيث يتوجه مقاوموها الى أطراف قرية بلعين التي نكبت بالتهويد الزاحف متلفعين بالكوفيات رافعين الأعلام والرايات التي تظهر مشاركة بعض الفصائل الحريصة على أن لا تفوتها مثل هذه المناسبة النضالية إعلامياً، مصطحبين بالضرورة ما يتوفر من وسائل الإعلام، ويستحسن مشاركة بعض المتعاطفين من الأجانب والأحسن أن يكون من بينهم يهوداً، وعندما يصل المتظاهرون إلى تخوم المنطقة المهوَّدة يداهمهم جند الإحتلال بقنابل الغاز فيردون بالحجارة، ليتفرق جمعهم في النهاية وقد أُعتقل من أُعتقل وضُرب من ضُرب وتعرَّض للإختناق بالغاز من تعرَّض، ثم لتمر مشاهد الحدث كالعادة من على شاشات التلفزة مرور ما اعتاده مشاهدوها، وكفى الله المؤمنين شر القتال…لو ترافق هذا، ولا نقلل من أهمِّيته، مع المقاومة المُسلَّحة وسائر أشكال المقاومات الأخرى لكان بحقٍ أمراً رائعاً ومفيداً، لكنما إعتماده بديلاً عنها ليس من شأنه إلا أن يوفِّر للغزاة إحتلالاً مريحاً، أو كما هو حال راهنه في الضفة، حيث غدا في ظل هكذا خيار وبفضلٍ من التنسيق الأمني مع العدو إحتلالاً من فئة سبعة نجوم!

من المفارقة هنا إنهم ليسوا في حاجةٍ لمن يخبرهم بأنه، وعبر التاريخ وفي كل ازمنته وأمكنته، لم يصدف أن فهم غازٍ محتلٍ غير لغة المقاومة، كما لم يسبق لمحتل أن تخلى عن ما يحتله دونما مواجهةٍ تحوِّل إحتلاله عبئاً لايحتمله وتكبده خسارةً بشريةً وماديةً لا يقوى عليها، فكيف ونحن إزاء أسوأ وأبشع صور وأشكال الإستعمار الإستيطاني الإحلالي الذي عرفه تاريخ البشرية منذ أن كانت وأكثرها خبثاً… وتكفينا حكاية قرية سوسيا الفلسطينية مثالاً، باعتبارها أحدث الأمثلة لا آخرها:

في العام 1968 هدم المحتلون قرية سوسيا واقاموا معسكراً لجيشهم مكانها، ثم جاء مستعمروهم فاستولوا على أرضها واقاموا مستعمرةً لهم فيها أطلقوا عليها ذات الأسم، أي سرقوا حتى إسمها… تشردت إثر ذلك 500 عائلة، ولم يبق من أهلها سوى 350 نسمة لجأوا إلى الكهوف والمغاور في الجبال القريبة ولسان حالهم ما قاله قائلهم: هنا قريتنا وهذه ارضنا “لم نتركها ولن نتركها”. و بعد كل هذا لم يترك الغزاة ما تبقى من منكوبي سوسيا وشأنهم، أعلن المستعمرون الأراضي المحيطة بمستعمرتهم “حزاماً أمنياً” يحظر على أهلها دخولها “لأسباب أمنية”، وعندما يدخلها أحدهم للفلاحة أو رعي ماشيته، يكفي إتصل هاتفي من المستعمرة إلى معسكر الجيش ليسارع الجند لطرده خارجها…إلى هنا ولا من جديد في هذه الحكاية الفلسطينية تحت الإحتلال، لكنما جديدها يتمثل في أن مستعمري سوسيا قد قدموا مؤخراً إلتماساً الى ماتدعى “محكمة العدل العليا” يطلبون منها حكماً بأزالة “بؤرة إستيطانية فلسطينية”، مبررين طلبهم هذا بكونها “تهدد أمن المستوطنة” التي أقاموها على أنقاض قرية وأراضي أصحاب هذه “البؤرة” المطلوب إزالتها أوإزالتهم من الكهوف التي لجأوا اليها!!!

قد لا يكفي قول المحامية الفلسطينية قمر مشرقي المدافعة عن مشردي سوسيا: إنه “لا توجد وقاحة أكثر من هذه… للمرة الأولى في حياتي أسمع هذه الصفة: بؤرة إستيطانية فلسطينية. لكن من الآن ربما علينا أن نعتاد عليها”، لكن المهم فيما قالته هو ما تضمنته عبارتها الأخيرة والذي هو بمعنى، وما الذي يمنع عدواً من صنف هكذا عدوٍ، يحظى بإحتلالٍ ولا أريح، يوفِّره له دعاة الإقتصارعلى الأسلوب ألأوسلوي “البلعيني” المسالم للمقاومة، ويضمن له أمنه جاري التنسيق الأمني الأوسلوي معه…مالذي يمنعه من الإمعان في المزيد من هكذا وقاحات لانملك في مثل هكذا حالة سوى إعتياد سماعها؟!

ما الذي يمنع مزوِّري التاريخ، وسارقي الجغرافيا، والساطين على أساطير الغير لتلفيق روايتهم وتدبيج أكاذيبهم، وفارضي واقعهم العدواني ووقائعهم المزيفة بفضلٍ من ما حبتهم بفيضه أحدث ما حوته ترسانات الموت الإستعمارية الغربية المتطورة والفتاكة، من المضي قدماً في تهويد الأرض العربية الفلسطينية المغتصبة، أكان هذا بذرائع وقحة أو من دون الحاجة أليها، ما داموا لا يواجهون إلا “المقاومة السلمية” ألأوسلوية سلطوياً، وإعتماد “السلام خياراً إستراتيجياً وحيداً” عربياً ؟!…ما الذي يمنعهم غير المقاومة بكافة أشكالها وأولها وعلى رأسها المقاومة المسلحة ؟ّ! رحم الله عبدالناصر…ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة…