شهرزاد أو البنفسج الذي لا يخون

قراءة في رواية واسيني الأعرج:

سيدة المقام: مراثي الجمعة الحزينة. وموت البنفسج”[1]

عادل سمارة

لست ادري لِمَ لم يسمها: شهر زاد أو موت البنفسج.

غادرتُ الصفحة الأخيرة، السطر الأخير والكلمة الأخيرة مبتعدا عن القلم، ففي حضرة انتحار وطن ممثلاً في امرأة بنفسجية، لا يعود ممكناً حشر كل هذا في سطور، ولا يعود سهلاً تجميع نفسك ومشاعرك ورؤياك في كلمات. نعم، إلى الهروب من الكتابة بل الهروب من النفس المليئة بما يثير الخوف. عبء القلم، بل ثِقل الفكرة والشعور حين يتحول المعنى إلى حمولة لا تطيقها انت. هكذا يحولك الحزن الزمني الممتد من وجع الجزائر إلى وجع العراق وليبيا فوجع ربيع الدين السياسي في سوريا ومجمل الوطن الكبير الممتد كجريح عملاق غائر الجرح.

هي خُطىً قليلة بالابتعاد عن الطاولة والقلم والورق الأبيض إلى صوت فيروز في فضائية الشام تغني شهر زاد، ومتى في صباح حملت معه الشاشة تحت صورتها وصوتها الذي يحملها كلها إلينا جميعا، كان مكتوباً بالخط الأحمر: “تفجيران إرهابيان في دمشق”.

الخوف من الكتابة وانت لست غِرَّاً في ذلك الخوف من الموت من الحب ام من موت الحب أم منها جميعاً… تحتمي بالناس كي لا تكتب بل كي لا تفكر حتى لو كانت الجلسة عن عرب ستار حيث السباق على فقدن الملابس. فليس أكثر إيلاماً من أن نقرأ برد الشتاء الوطني في شتاء الوطن حيث تكتمل الكآبة التي تفترسك كي تتلقى وتفترسك بالحزن الممتع والمؤلم كي لا تُنتج، لكن الحزن في النهاية قوة دفع للإنتاج. ها انت تكتبي رغم اصابعك ولوحة الحاسوب. إنه الشتاء، حالة الحمل التي تورق في الربيع وهكذا يكون المعنى معنى الوجود الذي لا يمنع استمراره بؤسنا أو كآبتنا او…خيانتنا للوطن.

المقاومة بالرقص من يجرؤ يا واسيني الأعرج على فعل هذا بين اللحى؟ كيف اخترعت هذه الحالة من التناقض الذي لا بد تناحرياً أو انتحارياً، بل كيف تجرأت حتى أن تكتب عن حالة كهذه في مناخ كهذا؟

رواية تضج بالتناقضات وتناقض المتناقضات ولعل خصبها وحملها الثقيل ذلك الذي يجمع بين البنفسج والموت بل القتل المجاني. آهٍ ما اقسى هذا التناقض. فالقتل والبنفسج هما المكونان الرئيسيان لشخص مريم التي اولجت نفسها في الرقص وتمثلت دور شهرزاد. ولكن، لئن كانت شهرزاد قد غلبت ملك الموت، فإن مريم، وهيهات لها أن تغلب قاتلوا الحياة على الأرض.، كلهم ملوك وما أكثرهم واسهل تناسلهم. لكن الخطر منهم من ليسوا اصحا لحى. هل تدري كم هو قاتل أن يكون الوطن كزغلول حمام يتناتشه صراع اصحاب اللحى ومن بدون لحى! كلاهما من نفس الطبقة وتحت كل منهما أتباع من الطبقة البائسة نفسها يقتتلون ويقتلون لتحيا ملوك حقبة العولمة! وننتهي إلى دولتين في غزة ورام الله.

لولا التفارق بين الديالكتيك ونهاية الرواية لقلنا إن تناقض فساد جبهة التحرير الوطني مع ظلامية قوى الدين السياسي في الجزائر قد افرزت الطباق الأعلى وهو مريم في شهر زاد والرقص. لكن نهاية الرواية كانت موت شهر زاد والطباق في الديالكتيك حالة خلق لا موت.

لقد ترك واسيني الأعرج النهاية مفتوحة وغير تقليدية. فلم تكن القفلة لا خطابية ولا إيديولوجية، بل كانت تعبيراً عن أمر أوسع بكثير، إنه التأشير إلى أن هذا التذابح إن تواصل فهو يفتح باب الفناء للبلد. ومن هنا كانت قوة القفلة بان تمترس الكاتب وراء الشعب الذي عليه أن يدرك كاكثرية ساحقة صامتة أن الحياة بيده، وأن بطلة الرواية ليست نهاية مرحلة بل الشمعة الأولى لشق الظلام.

وأبعد من هذا، لقد نقلتنا الرواية من صراع البشر الفانين على عَرَض الدنيا لتقدم لنا ما هو أبقى وجزء من الأبدية. فديالكتيك الرواية قائم على الرقص والموسيقى اللذين في تآلفهما يخلقان إنسانا آخر وهذا يعني ان موت الإنسان لا يعني موت الحيز اللامحدود أي الطبيعة والتي جمالها في الموسيقى وديمومتها في الرقص كفعل بشري فعل الإنسان بما هو الزمان، فعله في المكان أو الحيز. هذا هو الأبقى.

وإذا كان لنا أن نقرأ تجربة الجزائر والتي تزامنت مع تجربة العراق فإنها درس لسوريا التي تتزامن محنتها واغتيالها مع مذبحة ليبيا التي نُشرت على الفضاء ومورست من الفضاء. هكذا يكون الشغل، الغربي “العالي بل المتعالي” يذبحنا من السماء، أقرب نقطة إلى الله، وثوار الناتو يذبحوننا على تراب طرابلس وسرت والذبيحة الأولى ليبيا باتجاه اربعة دول إسلامية عظمى، وقاعدة لتخريب الجزائر، بل الوطن العربي. لا أحد مصان ولا محصناً ابداً وعليه، إما الطبقات الشعبية بوعي وإما الثورة المضادة.

الرواية محملة حتى الإشباع بتجربة الجزائر، من النضال الوطني للتحرر إلى الفساد وإضاعة منجزات الثورة إلى مناخ فرز جماعات الدين السياسي إلى أعداد لا تحصى من الشهداء وممن بقوا بعدهم بين اليُتم وبين الثكل.

بين نتائج الثورة الجزائرية في استشهاد أكثره من الرجال، وبين استلهام الشيخ والمُريد كانت تجربة الحب بين مريم وأستاذها. هل كان وراء ذلك حبها للأستاذ أم لكونه حالة موسيقية أم لأن مناخ التجربة الجزائرية تقود إلى هذا. لكن الحب كالعمل والثورة لا يقيم للزمن أو للعمر شأناً ومقاماً. من هنا لا معنى للقول: لماذا تأخرت، لماذ ذهبت، أو لماذا اتيت، أو لماذا صمتَّ كل هذا الزمن؟ فالحب والعمل والثورة محكومة بقوانين الطبيعة.

هناك تناظر لا بد أن يلحظه القارىء للرواية وهو إعطاء مساحة ضئيلة للجنس في الرواية بما أن ممارسة الجنس شأن عادي في حياة كل إنسان، وهذا مختلف عن روايات يشكل الجنس مكوناً “حجمياً” كبيرا، فيها، وهذا بالمقارنة والتناظر مع قلب الرواية أي مشهد ليلة الرقص الأخيرة لمريم على موسيقى رامسكي كورسيكوف. هناك تجلت قدرة السرد المكثفة لدى الأعرح بنفس طويل لا يخالطه التكرار مما يضعك في شك انه هو نفسه المحب الذي بالرواية يقدم العمل ومريم الراقصة بجنون تمثل الثورة.

في نقده ل “بني كلبون” يقصد جبهة التحرير الوطني بعد فسادها وتبقرطها وحراس النوايا، اي جماعة الدين الإسلامي السياسي الذين أوغلوا في دماء الناس، يُعيدنا الأعرج إلى المسألة او الحكم الأساس وهو حب الوطن. ومن هنا كان وجعه الرئيس. فلو انتزعنا الشخصية العادية لبطلة الرواية مريم، لأدركنا أن بطلة الرواية هي الجزائر البلد. ولذا قال في ص 184، “لويس الرابع عشر…الرجل كان انانيا. لكنه كان يحب على الأقل وطنه”. وهذا يطرح السؤال الأساس: اين يقع حب الوطن في معركة الصراع الطبقي؟ ومن هي الطبقة التي تحب الوطن. لكن هذا ليس شرطاً فالبرجوازية الإنتاجية تحب وطنها وتبنيه، كل هذا وهي تلعق دم الفقراء. سأخرج عن الرواية، هناك فلاديمير بوتين في روسيا، يقولون أنه نصف ديكتاتور، ربكما لأنهم يقرأون اسمه الأول فيتذكروا فلاديمير لينين! هل هو نصف بلشفي؟ حبذا، لكنه نعم يحب وطنه. من اين لنا حتى بهؤلاء! بل بمن لا يكرهون الوطن ويكرهوننا.

وككل عمل أدبي متماسك واصيل، لا بد ان تحضر فلسطين، ولدى واسيني االأعرج حضرت إنسانياً، دون صراخ سياسي، بالطبيب الفلسطيني الذي كان يأوي إليه بطل الرواية ليشعر باطمئنان ما، وربما كان الفلسطيني الشخصية الوحيدة بعد بطلي الرواية، التي حضرت على طول مسار الرواية، أو بالإشارة النقدية لوجود منتجات صنعت في الكيان الصهيوني. الفلسطيني في الروابة هو فلسطين، التي يبكي العرب أوجاعهم على صدرها بما هي تجسيد العمل والحب والثورة.

لا تتعب جماعة الدين السياسي نفسها في الفرز الطبقي والاجتماعي والعقيدي، فهي ترفض اي لو أو هوية أخرى، تعدديتها في تعدد ضحاياها كما قالت تلك السيدة لمريم:

تقول مريم: وشكون أعداء الله؟

قالت:” الشيوعيون، حزب فرنسا، البربر، البعثيون، الملحدون، العقلانيون، اللائكيون، وأصحاب دعوات تحرير المرأة،، نساء الجمعيات النسوية، جمعيات العهر والفسق، والحكام والرعية، ومسسؤولوا اجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئئية…وكل من يحذو حذوهم.(ص 196)

في غير مكان يرى الأعرج مريم بنفسجة، ملاية بنفسجية غيمة بنفسجية، بنفسجة تقانل الموت بالحب، في لحظاتها الأخيرة تصر على الانفراد بأستاذها الذي أحبت، بالحب تغالب سكرات الموت.هذه لحظة صراع لم نعرفه، صراع اللحظة الوسطى حيث تشتبك الحياة مع الموت اشتباك وجود وبقاء، صراع المرححلة الانتقالية بين الحياة الخالصة والموت الخالص وصراع ما بعد الموت، هذه اللحظة المجهولة التي تحمل نصف الحياة ونصف الموت. في لحظة الانتقال تقصُّ مريم على الموت معنى الحياة. فتقول له:

 ” وإذا شئت أن ننجب طفلة” (ص 213). لا يمكن للإنسان أن يتخيل الموسيقى والبنفسج يتجاهلان الموت في جبروته اللانهائية. “أريد لها قلبَكَ الذي لا يعرف سوى الطيبة والمقاومة والشجاعة… جاء بنو كلبون، وها هم يمضون. يأتي حراس النوايا ويمضون. وتأتي فلول أخرى وتمضي ونأتي نحن ونمضي. لكن شيئا واحدا سيبقى ابدا هو هذا الصدى المليىء بالعشق والحب والحنين الذي يحول قلوبنا إلى نور مشع” (ص 214).

هنا يظهر الطباق الذي غفلنا عنه، هو الطفلة التي ينجبانها، وليس الطفل في رمز إلى المرأة سيدة الإنجاب وإعادة إنتاج الناس. طفلة مضمخة بالطيبة والمقاومة. نعم اليست الحياة مقاومة؟ إنه الحب والعمل والمقاومة، هذا جدل المرحلة. في الحب وحده نتذكر الحياة، وأكاد أجزم أن كل من أحب، قادته المرأة إلى الرغبة في الإنجاب! وإذا كان الرجل شهرانياً فالمرأة مُنجبة تحرص على استمرار الحياة بالإنجاب لأنها الأم التي تتغذى على الطبيعة فتنجبنا. ربما لهذا…نحبها.

ولماذا لا تكون المقاومة وهو يقول: ” “انت من رعاية هذا البلد. لم تملك بعد حق المواطنة”. (ص 232). في هذا الوطن الكبير افتقرنا جميعاً لحق المواطنة يا ياسيني الأعرج، سواء باغتصابه على يد الصهيونية أو الديكتاتوريات، وها هي الغيمة البنفسجية التي هي مريم، آه ايها البنفسج كم أحبك! ولكن، هل خنت الوطن؟ مريم التي رتفعت من تراب الأرض إلى غيمة بنفسجية في السماء ها هي ملاية سوداء تطارد الغيمة البنفسجية. الا يثير هذا حزناً عتيقاً حملنا مع اقدمية هذه المدى؟ بلى.

وتقول مريم: “يجب أن نحزن يا حبيبي حتى نملك جرأة القول ثم ننام بشوق” (ص 223). هكذا يكون الحزن، حزن الخريف الذي يفتح السماء للشتاء كي تحمل بالربيع. ماذا تبقى في الروح هذه اللحظة للقول غير أن أختم، إقرأ كثيرا كي تكون وطنياً.

 


[1] من منشورات ورد للطباعة والنشر والتوزيع ـــ دمشق 2006. وقد نشرت كنعان الإلكترونية في العدد 2064 3 تشرين الثاني نوفمبر 2009، قراءة لرواية واسيني الأعرج الكتابة على الماء كتبتها الزميلة بادية ربيع.