العميد الدكتور أمين حطيط
عندما تفكك الاتحاد السوفياتي في العام 1989 شعرت اميركا ان الساحة العالمية فرغت لها لتنطلق الى انشاء امبراطوريتها الكونية مرتكزة الى ورقتي القوة الاساسيتين بيدها: قوة الاقتصاد التي رأته انه الاقوى فيه في العالم، والقوة العسكرية الذاتية و التحالفية (الاطلسي واسرائيل) التي اعتبرتها قوة لا يجرؤ احد على مواجهتها، و اضافت اليها القوة السياسية و الدبلوماسية التي اعتقدت ان احداً في العالم لن يغامر في قول “لا ” لها، دون ان ننسى قوة الاعلام المميزة، و بهذه الاوراق انطلقت اميركا معتمدة و واستراتيجيات و نظريات صاغتها خدمة لاهدافها ومستعملة ادوات اهمها:
1) مجلس الامن الدولي الذي تحول الى مكتب في وزارة الخارجية الاميركية بجهوزية كاملة لاصدار اي قرار تريد ليشرع لها عملاً او عدونا او احتلالا.
2) البنك الدولي الذي تتحكم عبره باقتصاديات الدول خاصة الفقيرة و النامية عبر سياسة اقراض ومراقبة ظالمة تضع تلك الدول في قبضة القرار الاميركي.
3) القضاء الجزائي الدولي سواء في ذلك المحكمة الجنائية الدولية (التي لم توقع اميركا بروتوكولها و لم تنضم اليها ) او المحاكم الخاصة التي انشئت غب الطلب الاميركي لملاحقة هذه الدولة او الهيئة او الحزب او الشخص او ذاك.
4) اطلاق نظرية “التدخل الدولي الانساني” و ” نشر الديمقراطية” و ” الحماية الدولية” و حقوق الانسان ” وسيادة “المجتمع الدولي” التي تعلو السيادة الوطنية.و تسويق فكرة محاربة الارهاب (دون تحديد تعريف له رغم السعي الدولي الحثيث من اجل ذلك كما طالب الرئيس حافظ الاسد اكثر من مرة ) و اطلاق مصطلحات من قبيل ” محور الشر ” و “الكيان الارهابي” و “رعاية الارهاب.”
5) جعل الدولار الاميركي – الذي يطبع بقرارها من غير تغطية بالذهب – عملة للعالم و مراقبة حركة التحويلات النقدية عبره.
6) واخيرا اعتماد “استراتيجية القوة” لارساء هذه الامبراطورية مبتدئة ب” القوة الصلبة ” التي ترجمت حروبا و احتلالات في خمس مناطق من الخليج الى افغانستان الى العراق الى لبنان وصولا الى غزة، ثم انقلبت بعد حرب لبنان و هزيمة الغرب فيه الى ” القوة الناعمة” و التي ترجمت تحريكاٍ للشعوب ضد الانظمة كما حدث في ايران و اعمال اغتيال و قتل و ضغوط اقتصادية و عقوبات و حصار لكل دولة لا تنصاع للسياسة الغربية.
وبهذه المنظومة انطلقت اميركا للتفيذ مستبيحة العالم الذي ظهر منصاعاً لها حتى باتت و كانها قائدته الوحيدة، و لم تستعص عليها الا مقاومات الشعوب المحتضنة من قبل محور ممانع اطلقت عليه تسمية “محور الشر” و هو محور الشر على سياستها و خططها ما يعني انها خير للشعوب.
هنا برزت سوريا و ايران و المقاومة في لبنان و من تبقى من فصائل فلسطنية مؤمنة بخيار المقاومة في طليعة من يرفض و يقول “لا للاذعان لاميركا، قالتها ايران متمسكة ب “لا شرقية و لا غربية ” بل استقلال حقيقي و سيادة فعلية و حقوق لا تنازل عنها، و قالتها سوريا – بشار الاسد ل كولن باول وزير خارجية اميركا متمسكة بكامل الحقوق الوطنية و القومية، و قالتها المقاومة في لبنان فحررت معظم الارض المحتلة ثم منعت اسرائيل من احتلالها، ولهجت بها المقاومة الفلسطنية في غزة فاخرجت المحتل من داخل القطاع، و قالتها المقاومة العراقية فاخرجت الاحتلال الاميركي المباشر من العراق، و تستمر اليوم المقاومة الافغانية بالعمل لتحقيق طرد المحتل…
رفض استلزم مواجهات ادت الى كبح الجموح الاميركي و دفعه الى اخفاق تلو اخفاق حتى كانت ظاهرة الشارع العربي التي استغلتها او حركتها اميركا لتعوض من خلالها كل اخفاقاتها، و قد منت اميركا النفس باقتلاع قلعة المواجهة في سوريا و اعادة فتح الطريق امام مشروعها الاستعماري.
لقد حبس العالم انفاسه في البدء و لستة اشهر و هو يراقب ما يحدث في سوريا من حركة قيل زوراً انها “سلمية “و لكن كان واضحاً انها كانت مدعومة و موجهة باعلام النفاق و التضليل من اجل خداع الشعب السوري لدفعه الى محاكاة اكذوبة الثورات الملونة وتاكيد وجود ربيع عربي لنشر الديمقراطية، لكن وعي الشعب السوري و صلابة نظامه و قواته المسلحة و احتضان محور المقاومة لقلعتها سفه الاحلام الاميركية فانقلبت كذبة ” المظاهرات السلمية ” الى حقيقة وجود الاعمال الارهابية و هنا تمكنت سوريا مع حلفائها من استيعاب الهجوم، وفتح الطريق امام القوى الدولية الصاعدة للتقدم و احتلال الموقع الملائم لحجمها الاستراتيجي الفعلي على الصعيد الدولي فبدأت مسيرة دولية فاعلة شكلت “الكارثة الاستراتيجية الكبرى” لاميركا و تمثلت بصعود دول تملك الاقتصاد القوي، والقوى العسكرية، و الموقع الاستراتيجي و الحجم الديمغرافي الكبير (44% من سكان العالم). و التقت هذه الدول في قمة اولى في العام 2009 تحت عناوين اقتصادية بحثت عبرها عن مخارج تقيها ترنح الاقتصاد العالمي الذي تقوده او تسيطر عليه اميركا. ثم رأت ان تطور اللقاء ليشمل السياسة و العلاقات الدولية العامة و الامن بعد ان لاحت فرصة ثمينة بعد ستة اشهر من الصمود السوري و انكشف الدور الغربي في ليبيا، و كان الموقف الصدمة: الفيتو الروسي المزدوج في مجلس الامن في ايلول 2011 قيتو اعلان بداية حقبة جديدة في العلاقات الدولية و النظام العالمي.
لم تستطع اميركا ذات الاقتصاد المهتز والقوى العسكرية المرهقة و التحالفات المترنحة ان تخيف روسيا او الصين و تمنعهما من المجازفة، فصرخت صرخة الم لم تمنع المتغيرات، و كان في في ذلك تشجيع للقوى الصاعدة بان تتقدم في احتلال مراكزها في الخريطة الدولية المستجدة، و بعد ان ثبتت المشهد في مجلس الامن بفيتو مزدوج آخر مارسته في شباط الماضي كانت القمة المفصلية بعده في نيودلهي في الايام الاخيرة من اذار الماضي 2012 لتكرس النجاحات ببيان اقل ما فيه القول بان دول “بريكس ” و هي الدول الخمس الصاعدة (برازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب افريقيا B BRAZIL – R RUSSA – I INDIA – C CHINA – S SOUTHRIC: AFRICA BRICS:) التي باتت تشكل جبهة دولية تنزع انياب الولايات المتحدة الاميريكية التي بها نهشت العالم و جاء بان بريكس ليكرس واقعا جديدا يقول:
1) ان مجلس الامن لم يعد اداة اميركا فهناك دولتان تملكان حق تعطيله بالفيتو، و هناك دولتان على الاقل يجب ان تدخلا و بعضوية دائمة عبر حركة اصلاح للامم المتحدة لا بد منها.
2) ان سياسة “التدخل الدولي الانساني” هي كذبة اميركية يجب التوقف عن اعمالها و العودة الى احترام السيادة الوطنية للدول، و الامتناع عن التدخل في شؤونها الداخلية.
3) ان البنك الدولي يمارس سياسة قهر للشعوب و الدول باشراف اميركي و يجب اصلاحه و الا فان دول بريكس ستقيم منظومة اقراض و تنمية بينية و دولية تتخطى فيها هيمنة ذاك البنك.
4) ان الدولار الاميركي – كما اليورو – لا ينبغي ان يستمر سيفاً على اقتصاد الدول الصاعدة و تاليا اقتصاد العالم لذا ستعتمد العملة الوطنية لدول “بريكس” في التجارة البينية بينها
5) ان التهديد بالقوة العسكرية باتت طريقه مقطوعة على خطين: داخلي بسبب القوة الذاتية للدول والشعوب التي تمارس المقاومة و خارجي بسبب سقوط خدعة “التدخل الدولي الانساني”.
6) و اخيرا فقد سقطت المقولات الاميريكية بالديمقراطية والارهاب بعد ان ضبطت اميركا في خندق واحد مع من تسميه “منظمات ارهابية” ثم تحالفها مع الكيانات الاقصائية الاستبدادية و تصديها للمطالب الاصلاحية الشعبية كما هو الحال في مشيخات و مملكات الخليج عامة و في البحرين خاصة.
هذا ما اكدت عليه قمة “بريكس”، و اطلقته في بيانها التاريخي الذي كرس واقع النظام العالمي الجديد الذي اصبح حقيقة قائمة، بعد ان ولد في الحضن السوري من رحم ازمة شاءتها اميركا حلاً لازمتها في الشرق وان تجعلها ازمة لسوريا و لمحورها، فارتدت عليها كارثة ظهرت بنظام عاملي جديد متعدد القطبية اعلنت ولادته الرسمية في قمة بريكس في نيودلهي… القمة التي سيكون العالم بعدها مختلف كليا عما قبلها.. قمة خاطبها الرئيس الذي ولد النظام العالمي على ارض بلاده سوريا (سوريا التي اخرجتها جماعة الاعراب من صفوفها لان عربانها لا يتحملون وجود الاقوياء بينهم) خاطبها بكلام الكبير للكبار قائلاً معاً في نظام عالمي جديد تفرضه قوتنا و شجاعتنا و ارادتنا.