فاتح جاموس:

نحن نندفع إلى ما هو أبعد من قلب الجحيم..  إذا غابت فرصة الإمساك ببداية خيط الحوار على الطاوله المستديرة

حوار: علي حسون

أثار موقفه منذ انطلاق الاحتجاجات في سورية الكثير من الجدل، ولاسيما في صفوف المعارضين، لكنّ فاتح جاموس، مع ذلك، يصرّ على أن النخب المثقفة والمعارضة يجب أن تجعل بينها وبين الحراك مسافة نقدية لا أن تلتحق به على عواهنه، معتبراً أنّ الانتقال التدريجي السلمي الآمن نحو الدولة المدنية الديمقراطية التعددية هو خشبة الخلاص الوحيدة، معترفاً بأنّ النظام بشكله السابق تغيّر، ولم يعد موجوداً، حتى دون أن يسقط بالمعنى المتداول للكلمة.

 ¶قبل انطلاق الربيع العربي.. هل كان يخطر في بالكم، كشيوعيين ومعارضين دفعتم ثمناً غالياً، وناضلتم في سبيل الوصول إلى دولة مدنية ديمقراطية، ما حصل على مساحة الوطن العربي، وهل يمكن القول إنّ هذا السيل الجارف استطاع، عبر أيام في بعض الدول وأشهر في أخرى، أن ينتج ويثمر أكثر ممّا ناضلتم من أجله لعقود، وهل تعتقدون بأنكم أضأتم الشعلة لهؤلاء المحتجين، أم أنّ هناك قطيعة بين أفكاركم وأفكارهم.. وكم كان الفرق بين ما تسعون لأجله وما تحقق على الأرض؟


حتى أكثر الناس، أو النخب، تفاؤلاً منّا، وقدرةً على المقاربات التحليلية، وثقة بشعوبهم وبأنها ستتحرك يوماً من أجل مطالبها الأساسية؛ لم يكونوا ليستطيعوا أن يتوقعوا الأمر، ولا سيما ـ كما جاء في الشروط واللحظات الزمنية ـ طرق وأسباب التفجير الأولى، ووتائر التصاعد في الحراكات الشعبية من زوايا المطالب، وسعة الاشتراك الشعبي، وقوة التأثير، وتحقق الأهداف. بالنسبة إلينا، كنخب سياسية وثقافية، قمنا بأكثر من إضاءة شعلة للمحتجين. إن الأعداد الهائلة من المعارضات التي سيقت إلى السجون والمعتقلات راكمت عميقاً وكمّاً من حيث الاتساع، على صعيد الوعي السياسي المطلبي والثقافة السياسية البرامجية، وكذلك على صعيد أشكال النضال وقضايا التجرؤ على النظم القمعية والديكتاتورية، لاسيما في تلك الأزمان الصعبة والخطرة من الخوف والرهابات وغياب الحركة الشعبية أو ضعفها.. كلّ ذلك لم يذهب سدىً بالتأكيد، وأسهم جيداً في البدايات مع الانطلاقات السلمية والمشروعة في العديد من البلدان.
وعلى الرغم من ذلك، فإنّ كل بلد، (أو جغرافية سياسية)، فرض شروطه، وقامت العناصر الأساسية فيه برسم مسارات محددة خلقت مفارقة مهمة هنا، أو جاءت بتقاطع عميق هناك على صعيد المستوى في علاقات الترابط بين عمل النخب والحركة الشعبية.

¶ بالنسبة إلى الحالة السورية.. هل تجدها مختلفة ومتمايزة عمّا جرى في دول “ الربيع العربي” الأخرى، من حيث أسبابها وتداعياتها، وبالتالي النتائج المتوقعة منها؟
بالنسبة إلى الحالة السورية، بالرغم من إمكانية إيجاد تقاطعات مهمّة أو إمكانية القيام بتجريد كبير في الأسباب العميقة والتداعيات بينها وبين أخواتها، لاسيما طبيعة الأسباب والتناقضات والتراكمات الداخلية على مدى طويل، وأشكال الصراع بين القوى الشعبية ونخبها من جهة، والأنظمة من جهة أخرى، إلا أنّ هناك تمايزات مهمة تتعلق أيضاً بالسمات المحددة والعناصر الأساسية المتجادلة في كلّ ساحة أهمّها التاريخ الخاص لكل نظام من منظور اجتماعي، وعلاقته بالقوى الاجتماعية ومشروعه التاريخي وما كان يمثله، وحدود الثغرات في ذلك الترابط بين القضايا القومية والوطنية، وشكل ومحتوى الصراعات مع الخارج والكيان الصهيوني، ودور مؤسسات الدولة ومستوى الاندماج بين النظم والدولة، لاسيما دور الجيش والمؤسسة الأمنية ومسألة استمرار التماسك في البنية الاجتماعية والسياسية والأمنية لكل نظام، وتاريخ وطبيعة البنية المجتمعية والسياسية لكلّ بلد، ودور التركيبة والعصبيات الداخلية المتخلفة، والبناء الفوقي وحدود هامش المجتمع المدني، وحقيقة وجود قوى وتجارب صراع عنيف، وأخيراً حقيقة وجود أسباب للتدخل الخارجي ودور كلّ بلد، ومستوى الشهيّة للتدخّل الخارجي الذي طرحها، أو سمح بها، أو أسهم فيها نظامه..
من تلك الاعتبارات، كان بديهياً أن تتمايز الحالة السورية أو تختلف بصورة غير بسيطة، كما نلحظ على مستوى تماسك النظام الاجتماعي والسياسي والأمني ودور الجيش والدور الخطر للعصبيات المتخلفة ودور الصراعات السابقة، وتاريخ البنية السياسية والاجتماعية السورية وحدود إظهارها أو استعدادها للعنف، ومخاطر بروز أشكال من الاقتتال والحرب الأهلية والطائفية، وأخيراً أسباب ومستوى التدخلات الخارجية بأشكال مختلفة والاستقطاب والخلافات في مستوى المجتمع الدولي، وسيبرز ذلك في وتائر الحلول والنتائج وأشكالها والتكاليف والأثمان الباهظة.

¶ أثار موقفك جدلاً كبيراً، لاسيما في أوساط المعارضين للنظام المطالبين بإسقاطه.. أنت قلت إن الاحتجاجات اتّسمت بالعنف أحياناً، وبالطائفية أحياناً أخرى، وحذّرت من العنف والشحن الطائفي.. بعد عام على بدء الاحتجاجات وتحوّلها إلى العسكرة في كثير من المناطق.. هل ترى أن ما توقعته قد حدث بالفعل؟
من المنطقي، إن لم أقل من البديهي، أن يثير موقف أيّ ناشط سياسي أو مثقف أو معارض، دفع ثمناً كبيراً في معارضة النظام الديكتاتوري، ولا يزال، ردودَ فعلٍ عندما يظهر وكأنه أقام مسافة نقدية بينه وبين حراك شعبي كان يدعو إليه وينتظره.
سيظهر الأمر وكأنّه خروج مبكر على موجة سياسية وأخلاقية ونفسية عارمة، خاصة إن جاء الموقف مبكراً وصادماً في أهم المسائل المتعلقة باستراتيجية الصراع مع النظام (تغيير سلمي تدريجي وآمن.. أم إسقاط) كذلك في التحفظ على مسألة ثورة، أم حراك شعبي، والتناول الصريح للسمات بوجهها السلبي الذي يفترض النقد (كمظاهر الدعاوى والتحريض الطائفي وبعض الشعارات في البداية)، وبروز مظاهر عنفية، والتنبيه على خطورتها وأسبابها الكامنة في تاريخ الصراعات السورية والبنية المجتمعية السورية.
بعد عام على بدء الاحتجاجات، أعتقد أنّ ما أطلقته من ملاحظات نقدية مبكرة على الحراك الشعبي والأسباب، وما قلته من تحفظات على مفهوم الثورة وحقيقتها، واستعداد البنية السورية للعنف، ووجود قوى داخلية وخارجية جاهزة لاستغلالها، وحول الطابع المذهبي العمودي للحراك الشعبي، وغياب اشتراك الأقليات، وحول طبيعة النظام وحدود استعداده لممارسة عنف شديد وقمع متنوّع وحدود تماسكه الاجتماعي والسياسي، وكذلك مظاهر ووقائع وإمكانية التدخل الخارجي وأسبابه.. أعتقد أنها كانت صحيحة وضرورية، وكان على النخب السياسية والفكرية والثقافية أن تمارس ذلك بصوت مرتفع، وأن تترك مسافة نقدية بينها وبين أيّ حراك شعبي، وأن تسعى بقوة كي لا تتحول الحركة الشعبية لتفرض استراتيجيتها وخطابها وتكتيكاتها في الصراع مع نظام نعرف سماته.

¶ مواقف متباينة من الأحداث ظهرت ضمن حزب العمل نفسه، مثّل كل منها قطباً من أقطاب الحزب وقياداته.. (فاتح جاموس وعبد العزيز الخير وأصلان عبد الكريم).. هل تعتبر هذا التباين حالة صحية.. ومن يمثل وجهة نظر الحزب ممّا يجري؟ وهل يمكن أن يقود هذا التباين إلى انشقاقات في الحزب أو ولادة أجنحة ضمنه؟
تتسم تجربتنا في حزب العمل الشيوعي بغنى كبير جداً، وبصورة خاصة على صعيد الوعي والمفاهيم المتعلقة بقضايا الديمقراطية الحزبية والممارسة الجادة والناضجة لذلك، والمواقف الخلافية والمتباينة، وكانت بديهية، ولاتزال، وفي كلّ مرحلة من مراحل تطور الحزب وعلاقتها بمستوى تطور القيم الإنسانية والمجتمعية نطوّر مفاهيمنا وعلاقاتنا الداخلية الحاكمة لتصبح أكثر رقياً وديمقراطية لنتعايش مع الخلافات وحريتها والحقوق البديهية فيها وحمايتها، والأمر لم يظهر في حدود هذه الأسماء؛ بل كانت هناك دائماً أقليات وأسماء لأفراد آخرين على الرغم من إمكانية بروز أهمية لهذا الشخص أو ذاك في فعالية موقفه وقدراته الشخصية، وكان ذلك حتى داخل المعتقلات.
بالطبع أصابتنا كلّ التأثيرات الكبيرة عالمياً ومحلياً: سقوط الاتحاد السوفييتي، وتجربة الاعتقال الطويل، واستمرار الأنظمة القمعية، والغياب الصريح للتأثيرات المباشرة في الحركة الشعبية، والشعور بالإحباط أحياناً، وموجة انتصار الرأسمالية العالمية، وتنوع المراجعات الفكرية والسياسية، ما جعل بعضنا يندفع ليكون خارج إطار الحزب، لكن أهمية التجربة ستبقينا جميعاً على حسابها حتى زمن آخر، ما يعني أن مسؤولية طاقمنا القيادي كانت كبيرة وسلبية في المساهمة بالمزيد من الاختراقات والتمزق وتسلل أسباب ومظاهر الضعف.
في كل الأحوال موقف الحزب الرسمي اليوم يؤخذ من جريدته الرسمية “الآن”، خاصة أنّ الظهور على وسائل الإعلام يتميّز بتقديم المواقف الشخصية، أو مواقف الأطر التحالفية التي نعمل من خلالها. أقل ما يبرز موقف الحزب الرسمي عبر الأشخاص، وكل هذا خاطئ وخطر ومختلف عن تقاليد الحزب، لكنه يدلل على مستوى مشكلاتنا الحزبية وضرورة تجاوزها بتطوير عملنا المؤسساتي والقيام بمراجعة شاملة خاصة بعد مرور أكثر من عام على الحراك الشعبي وتكشف وجود ثغرات عميقة في موقفنا من دون ذلك قد يدفع الأمر إلى المزيد من الخلافات وضياع أسس ضبطها ديمقراطياًَ، ما يعني المزيد من الضعف والتفكيك والتمايزات غير المنضبطة على أسس تنظيمية معاصرة وراقية وفعالة في الوقت نفسه لتطوير نشاطنا وتأثيرنا السياسي.

¶ كيف تقيم موقف هيئة التنسيق الوطنية من الأحداث ومواكبتها لتطوراتها، لاسيما أنك قلت في أكثر من مناسبة إن الهيئة هي التكتل المعارض الأقدر على فهم ما يجري.. وإن مقاربتها هي الأكثر دقة وموضوعية لفكرة الانتقال الوطني الديمقراطي السلمي الآمن.
على الرغم من الطريقة الخاطئة التي انطلقت بها هيئة التنسيق، والتي أتت ببنية متناقضة ومستعدة أيضاً لإظهار مواقف متناقضة.. كلّ هذا بسبب الإصرار الخاطئ على فكرة وحدة المعارضة، والفكرة صحيحة ذهنياً وسياسياً، لكنها لم تقم على أرضية المعرفة العميقة التي نملكها بخصوص خلافات المعارضة وعمقها وإمكانية تفجرها، ولم تقم على الثقة بعد قيام المراجعة وانتقادات المواقف الخاطئة، بشكل خاص المتعلق منها بدور العامل الخارجي، لذلك كان من الطبيعي أن أطور موقفي تجاه الهيئة بين البدايات والمشاريع البرنامجية الأولى، وبين الانزلاقات التي بدأت تدخل بها.
بداية، وبسبب إصرار جزء من المعارضة على رفض الوجود في إطار تحالفي واحد، انطلقت هيئة التنسيق على أساس استراتيجية الانتقال السلمي الآمن والتدريجي في سورية مع رفض استراتيجية إسقاط النظام ومتطلباتها، ثمّ عادت نغمة وحدة المعارضة وبرزت تناقضات التركيبة الداخلية في الهيئة، وبرزت تأثيرات الضغوط الخارجية.
هكذا حصل الانزلاق الأول والخطر في تاريخ الهيئة مع لقاء الدوحة الأول، وبرزت استراتيجية إسقاط النظام “الاستبدادي والقمعي” كبديل لاستراتيجية الانتقال السلمي، ثمّ تطور الأمر إلى التطابق الكامل في هذه الاستراتيجية مع مجلس اسطنبول وتحقّق الانزلاق الثاني والخطر جداً في توقيع الورقة المشتركة، وترافق ذلك مع غياب تام لأيّ موقف نقدي تجاه سلبيات الحراك (التحاق والتصاق وتبعية له في كل شيء) على الأرجح، بدوافع وضرورات قيام تأثير ونفوذ داخله، وهذا لم يتحقق أيضاً في الورقة المشتركة مع المجلس الوطني، فضيّعت هيئة التنسيق ضرورة تأكيد نفسها كمركز معارض داخلي له كامل الشرعية، بينما اعتمدت الاستقواء بالجامعة العربية والرسميين العرب “الخليجيين” الذين يقودون ذلك ووراءهم مراكز خارجية خطرة، كذلك دخلت الهيئة مفاهيم ملتبسة حول التدخل الخارجي وربطها بمفهوم مس السيادة، الذي يحتاج بدوره إلى تفسير وتحديد، أو موقف سريع لحظيّ عند بروزه، ومن سيحدده كذلك، واعتبرت التدخل العربي العسكري غير أجنبي متجاهلة خطورة فكرة التدخل العسكري الخارجي من حيثما جاء ومفاعيله في الشروط السورية، ثم انزلقت إلى التواطؤ الجزئي بمجاملة العنف في صفوف الحراك عندما أثنت على موقف العسكريين الذين رفضوا أوامر إطلاق النار على شعبهم (وهذا صحيح) لكنها لم تتقدم بأي موقف نقدي صريح تجاه العنف والفعاليات التي تستخدمه من صفوف الحراك والدعم الخارجي في ذلك، هكذا قطعت هيئة التنسيق، ولا تزال، الأشواط سريعا وبعيدا عما تعبنا عليه لسنوات في قضية استراتيجية الانتقال السلمي الآمن وأسبابها، وهي تحتاج إلى مراجعة سريعة وقاسية كي تتخلص من هذه الانزلاقات والحجج التي تدفع إليها والبنية الداخلية التي تسمح بها.

¶ يطرح الشارع المحتج فكرة وحيدة اليوم، وهي إسقاط النظام، ويغالي في طلبه التدخل الخارجي والتسليح، كيف يمكن عقلنة هذا الحراك وإقناعه بالانتقال السلمي الديمقراطي الآمن..ومن يمكن أن يقنع هؤلاء؟ ألا ترى أن المعارضة ورموزها هم من يحاول اللحاق بالمحتجين لا العكس؟
ليس دقيقاً حتى الآن أنّ الشارع المحتجّ، في مجمله، يطرح فكرة وحيدة هي إسقاط النظام، أو يستدعي التدخل الخارجي، أو يجاري العنف ويترك بحمايته أو يدعو إليه، لكن هذا التيار تقدم كثيراً بفعالية، وأخذ لمعان الحراك السلمي المشروع في مطالبه الأولى والديمقراطية، وهذا يعني استمرار وجود فعاليات سلمية في الحراك ترفض العنف، كما ترفض التدخل الخارجي والاقتتال الأهلي والطائفي، وهذه قوى مهمة جداً بحكم طاقتها وديناميتها واستعدادها العالي للكفاح ضد الديكتاتورية، وهي جزء مهم جداً من صف شعبي واجتماعي وسياسي واسع في سورية من أجل الإصرار على استراتيجية الانتقال السلمي، ورفض الاستقطاب إلى طرفي الصراع، ورفض استراتيجيتهما القصوية ووسائلهما القصوية والأهداف القصوية التي يسعى كلٌّ منهما إلى تحقيقها، وفي كل الأحوال للنظام القائم دور حاسم في إمكانية عقلنه القسم العنيف، أو الذي يستدعي العامل الخارجي، وذلك بطرحه عدداً من الخطوات الأساسية للخروج من الأزمة التي ستقوم بعملية تطوير للخط السلمي ومحاصرة الخط العنفي والخارجي، منها بصورة أساسية السماح للمعارضة السلمية بحصة صريحة في وسائل الإعلام لنشر ثقافتها ونشر ثقافة الخروج الآمن من الأزمة الوطنية، وكذلك فتح ساحات في كل المدن للحراك السلمي لعدد من الساعات يومياً محميّة من قبل مؤسسات وزارة الداخلية وإطلاق سراح سريع وواسع لكل من هو غير متورط في القتل، ووقف عمليات القمع والاعتقال والتعذيب.
هذه الخطوات لوحدها ستترك تفاعلات وتأثيرات وستطلق دينامية تطور جديدة، وفي المقابل هناك دور مهم جداً يقع على المعارضة، خاصة تلك التي لاتزال تشير إلى رفض التدخل الخارجي، ورفض العنف والاقتتال، عليها أن تزيد في مسافة النقد الفاصلة بينها وبين السمات السلمية للحراك، عليها أن تعمق ممارساتها على الأرض مع فعاليات الحراك الديمقراطية والسلمية، وأن تتنبه الآن إلى أن الوطن وصل إلى مرحلة الأزمة الشاملة، ولهذا مفاهيم وأسس وثقافة، تختلف كثيراً عن فكرة متابعة الصراع بالوسائل والشروط القائمة والتكاليف الخطرة.

¶ ثمة حراك وتوافق دولي يتسع أكثر على ضرورة إيجاد مخرج سلمي للأزمة ويستند إلى مهمة عنان التي باتت بنودها معروفة، والنظام قَبِل بنقاطها الست.. كيف ترى فرصة نجاح هذه المهمة، وهل تعتقد أن العالم اقتنع أخيراً باستحالة إسقاط النظام؟
أن تكون الفكرة الخاطئة لايعني أنها مستحيلة، إذ لا يوجد نظام عصي على ذلك.
قوى كثيرة لا تزال تعمل من تحت الطاولة وفوقها على ذلك الهدف، لكنها مضطرة إلى تنويع الوسائل والتكتيكات، بسبب توازن القوى داخل الساحة السورية، وخطورة اشتداد مفاعيل الصراع وأسبابه على المنطقة المجاورة، وهي مضطرة أيضاً إلى لحظ الموقف الروسي والصيني وعدم قدرتها على انتزاع قرارات دولية في التدخلات الحاسمة، لكنها تعمل بورشات منسقة جداً وفعالة على التدمير الداخلي، وانتظار شروط أخرى؛ خاصة أن النظام القائم يحمل بذاته إمكانية السماح واللعب بالشروط الداخلية، وإمكانية السقوط عبر استمرار الصراع واستمرار التكاليف والأثمان الباهظة ودفع حلفائه إلى تغيير مواقفهم تجاهه في حال استمراره في رفض جدلية الوسائل السياسية الضرورية وقضايا الانتقال الديمقراطي الحقيقية، إلى جانب وسائل الدولة في التدخل المتنوع تجاه مظاهر العنف أو أشكال التدخل الخارجي، وهكذا فإن فرصة نجاح مهمة عنان ضعيفة جداً، أولا بسبب وجود قوى داخلية وخارجية قصوية تدفع بكل الوسائل لاستمرار استراتيجية إسقاط النظام، وثانياً لاستمرار تماسك النظام الاجتماعي والسياسي والأمني ورفضه تنفيذ شروط تفرض عليه بصورة غير متوازنة، أو أنه ما زالت لديه قدرات كبيرة على متابعة الصراع ورفض الإملاءات والدفاع عن مصالحه وتحقيق شروط مناسبة قبل أن يحققها.

¶ صدرت مؤخراً وثيقة للإخوان المسلمين تتضمّن رؤيتهم لمستقبل البلاد.. كيف قرأت هذا البيان؟ وهل تنظر إليه باعتباره تحولاً نوعياً في مسيرة هذا التنظيم، أم أنه نوع من التكتيك و”التقية السياسية”؟
من الصعب جداً ـ إن لم يكن من المستحيل ـ على تنظيم ديني من حيث النهج والمنطلقات الفكرية والتاريخية، وخاصة بالنسبة إلى تنظيمٍ أرسى تركيباً داخلياً لا يزال ذا طابع مذهبي، ما ترك وسيترك دائماً حقلاً طائفياً، وحقلاً طائفياً مضاداً في المجتمع.. مثل هذا التنظيم لا يستطيع ذاتياً، ولا يريد ذاتياً إجراء تحول نوعي في مسيرته، وهذا يحتاج إلى حركة ضبط ومعايير سياسية وثقافية على مستوى الوطن تفرض عليه، كما على جميع الأحزاب والفعاليات والحركات السياسية، مفاهيم عمل وثقافة وتركيباً وطنياً وبرنامجياً شاملاً يمنع فيه أيّ عملية ربط مع الدين والمذاهب الدينية.. هذا سيفتح إمكانية قيام تحول نوعي في حياتة وحياة التنظيمات الأخرى، ما سيعني مراجعات نقدية ومفاهيم برنامجية جديدة وتغييراً في التركيبة القيادية؛ أي منطلقات جديدة مختلفة جذرياً عن الماضي في بناء هذا الحزب وغيره، أقول هذا على الرغم من الأهمية النسبيّة لتطوّر مواقف تنظيم الإخوان المسلمين، ففي وثائقهم، وعلى أكثر من مرحلة، بما فيها الوثيقة الأخيرة، لكن بمجملها يستحيل عليها أن تسمح بالتحوّل النوعي المطلوب.

¶ قلت في مناسبات سابقة، إنّ الزمن لا يمكن أن يعود إلى الوراء، والنظام تغيّر، وإن بشكل جزئي، تحت الضغط، وبفعل المتغيرات الداخلية والإقليمية والدولية، هل تعتقد إذاً أنّ النظام بات جاهزاً للتغيّر المطلوب، ولإقامة دولة تعددية ديمقراطية، وهل ترى أنّ ما أنجزه حتى الآن “دستور وقانوني أحزاب وانتخابات وقانون إعلام” ضمن هذا السياق؟
نعم، ذكرت ذلك، وأنا أؤكده بأنّ الزمن يستحيل أن يعود إلى الوراء، وأن النظام، بدوره، قد تغير بشكل جزئي، كما تغيرت جزئياً بقية العناصر والمكونات السورية بفعل المتغيرات العالمية والإقليمية، وخاصة الداخلية والسنوات العشر الأخيرة مختلفة كثيراًَ عن الماضي، لكنّ النظام غير جاهز أبداً للتغيير المطلوب في إقامة نظام تعدّدي أو ديمقراطي؛ الأمر منوط بصراع مجتمعي وشعبي، ومنوط بحركة شعبية فعالة. وبقدر ما تتلافى هذه الحركة سلبيات التركيبة الداخلية إلى عمل شعبي شبه خطي منظم له قيادة طبقية وسياسية، بقدر ما يفرض سريعاً على النظام التنازلات السياسية، أو يجعله ينهار، كل هذه الشروط تجاوزها الصراع القائم، واندفع الوطن إلى حالة أزمة وطنية مستعصية، وكل ما سيفعله النظام أتى وسيأتي بالضغط عليه، وغدت الأمور الآن أكثر تعقيداً وخطورة وتكلفة.
وما أنجزه النظام أعتبره جزئياً جداً في ذلك المجال الذي ذكرته، لاسيما أنه فعله بطريقة ذاتية متعالية، ومن منظور مصالحه أولاً وأخيراً؛ فعله بمحتوى متعلق في العمق بطبيعته، هو لم يستشر به أحداً، وفرضه فرضاً، مع ذلك في بعضه شكّل ويشكّل خطوات مهمة على الأقل من المنظور الشكلي التاريخي، ومنظور وجوده الاحتكاري في قضية السلطة وابتلاع الدولة؛ شكل خطوات يمكن اعتبارها في الثقافة السياسية والفكرية والأخلاقية خلف ظهرنا وظهر المجتمع، ويجب استمرار النضال وتوسيع مستوى الاشتراك الشعبي فيه، لاسيما من بقية فعاليات وأطراف المجتمع السوري التي لم تشارك بعد لانتزاع الخطوات الواحدة خلف الأخرى بصورة سلمية وتدريجية لتحقيق الانتقال الديمقراطي الآمن.

¶ بعد سنة ونيف على بدء الاحتجاجات والحراك، وفي ظلّ هذا الاستعصاء الذي وصلنا إليه، إلى أين تتجه البلاد، وأي مستقبل تتوقعه لها؟
من المرارة بمكان ومن الصعوبة أيضاً، وممّا يستدعي الأسف العميق القول إنّ البلاد تتجه على العموم، كاحتمال رئيسي، إلى المزيد من استفحال حالة الأزمة الوطنية المستعصية، حالة استخدام استراتيجيات ووسائل وتكتيكات ومحاولة فرض شروط، والوصول إلى أهداف قصوية، وكلّه سيجلب المزيد من التكاليف والأثمان الباهظة والخطرة؛ أي أنّنا نندفع إلى ما هو أكثر بعداً من قلب الجحيم، خاصة إذا غابت فرصة الإمساك ببداية خيط الحوار على الطاولة المستديرة للأطراف الداخلية، وأنا أخشى أن هذه الفرصة تضيع بوضوح بحكم مستوى وخطورة القصويات وأطرافها وخطورة ومستوى التدخلات والارتهان للخارج، وكذلك بسبب غياب، أو عدم تحقق، قيام القوة الثالثة على الأرض لفرض إرادتها ووعيها وبرنامجها للتغيير السلمي الآمن ووسيلته الحاسمة والوحيدة الحوار الداخلي.

¶كمحصلة لما أطلق عليه الربيع العربي، كيف تقيم الحصاد في الدول التي انتصرت ثوراتها، وتسلم زمام السلطة فيها الإسلاميون، وهل ترى ذلك خطوة نحو الديمقراطية والتعددية أم عودة إلى الوراء، وهل تتوقع أي إمكانية لفوز الإسلاميين في سورية عند حصول أيّ انتخابات نزيهة وحقيقية؟
إن حصاد “الربيع العربي”، أو الثورات العربية في المحصلة، وعلى الرغم من انتصار الإسلاميين، وتسلمهم زمام السلطة سلمياً أو بتدخل عسكري خارجي، أو بمساومة على أرضيّة التوازن، كما حصل في اليمن، كلها خطوات سمحت بحسم قضية الشكل السياسي للحكم أو النظام من ديكتاتوري واحتكاري وابتلاع الدولة إلى شكل “ديمقراطي تداولي” إلى شكل برجوازي يرسخ وجود النظام البرجوازي في الحقل الاقتصادي والفكري والثقافي والاجتماعي، وقضايا استمرار اضطهاد وظلم الشعب، وإعادة إنتاج كلّ ذلك، وهذا في مجمله خطوة إلى الأمام، “مع تحفظي الشديد على ما جرى في التجربة الليبية ومخاطره”، بالمقارنة مع الحالة الديكتاتورية، لكنه غير مستقر بدوره ويفتح مخاطر جديدة في تلك المجتمعات بسبب الإسلام السياسي والحركة الدينية السياسية المستعدة دائماً، حتى الآن، للخروج على قواعد اللعبة الديمقراطية إلى ممارسة قمعية وخطف الخطوات الإيجابية في مصلحة نهجها وطبيعتها التي لا تتسم أبداً بعمق المراجعة والتحولات الديمقراطية، ما قد يفتح على احتمالات الحروب الأهلية كما يحصل في ليبيا واليمن.
فيما يتعلق بسورية، ليس الخوف أبداً من إمكانية انتصار الإخوان المسلمين، أو الإسلام السياسي في السلطة، واستلام زمامها، هذا شبه مستحيل بحكم التركيبة السكانية السورية؛ إذ من المستحيل أن تنضم الأكثرية المذهبية، بموقف سياسي وطائفي موحد وواحد، إلى أي حركة إسلام سياسي متطرفة وطائفية كالإخوان أو أيّ فصيل جهادي جديد، ومع بقية التركيبة السورية سيكون الأمر على شكل قوة برلمانية كبيرة وفاعلة لكنها خارج فكرة الأغلبية أو الأكثرية القادرة على فرض شروطها ونهجها وثقافتها. الخطر في سورية كمن ويكمن دائماً بإمكانية بروز العصبيات وتقدمها على الثقافة والنشاط الديمقراطي، وبالتالي فتح احتمالات الحرب الأهلية، وتقدّم ثقافة ووقائع المكونات.

¶هناك اليوم اعتراف دولي واسع بـ”المجلس الوطني”، باعتباره ممثلاً للسوريين.. كيف تقرأ مثل هذا الاعتراف، وهل يمكن أن يخدم الحراك والتغيير المطلوب، في ظل المواقف التي يعلنها المجلس منذ قيامه حتى الآن؟
نعم هناك عملية اعتراف دولي واسع ومتطور بالمجلس الوطني باعتباره ممثلاً شرعياً للسوريين.. تقدّم ذلك الاعتراف، وغداً أكثر خطورة، وهو يسير على نفس الأسس. وهذا الاعتراف يمثل توافقاً صريحاً وعميقاً لدور بعض الأطراف الخارجية، وما تريده في الساحة السورية؛ تريد استراتيجية إسقاط النظام وكلّ متطلباتها في العنف والاقتتال الداخلي، وتقدم العصبيات والطائفية منها بشكل خاص، والتقدّم المخيف لدور العامل الخارجي وتدخلاته والارتهان له.
والمجلس الوطني التحق كاملاً بخطاب الحراك والشارع وبرنامجه واستراتيجيته، وقواه المكونة كانت جاهزة منذ زمن بعيد، لاسيما بعد الاحتلال الأمريكي لبغداد، جاهزة سياسياً وثقافياًَ لفكرة دور العامل الخارجي الحاسم في التغيير الديمقراطي والإطاحة بالديكتاتورية، جاهزة لاستدعائه، وهذا توافق وانسجام إضافي في كل ذلك.
أما إن كان يخدم أو لا يخدم الحراك والتغيير المطلوب لسورية، فأعتقد أنّه من جهة سيّئ ويسهم في تدمير الحراك السلمي المشروع ومطالبه، ويسهم في المزيد من القصوية والتكاليف الخطرة، لاسيما تلك الأصوات الجديدة داخل المجلس والتي تدعو إلى المزيد من التصلب والقصوية والعنف؛ أي إلى المزيد من تحقق شروط الحرب الأهلية والارتهان للخارج والدماء والخطوط الحمراء والمكونات وتدمير الدولة ووظائفها التي ستعود لتؤثر سلباً في الشروط الأخرى.
من جهة أخرى، فإن المجلس برمته، خاصّة الاتجاهات القصوية الجديدة فيه يجب الاعتراف بأنّهم بتصريحاتهم وسياساتهم وتحالفاتهم ودعواتهم يخدمون فعاليات أخرى في الحراك؛ الفعاليات العنيفة والقصوية والثأرية التي كانت قد تأثرت في العمق بوسائل النظام العنيفة والعقابية والاستنسابية في معاقبة حركة الإخوان المسلمين وأنصارها ووسطها الاجتماعي، وتذهب الآن إلى المواقف النهائية وكسر العظم في الصراع كصدى عميق للماضي، وكحالة توافق مع جزء من التركيبة والتاريخ والبنية السورية كحالة الدفاع عن النفس، وفي الأخير كحالة أخذ الوطن مع النظام إلى أسوأ الاحتمالات وأكثرها فظاعة وخطورة، وفرض كلّ ذلك على المجتمع السوري والكتلة الأكبر من الشعب، وترك الآثار الخطرة والفظيعة على مدى زمني قادم وطويل جداً.

:::::

12      نيسان 2012

http://www.syriatruth.org/%D9%85%D9%82%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%A7%D8%AA%D9%88%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA/tabid/86/Article/7137/Default.aspx