عبداللطيف مهنا
فعلتها جوبا. أحكمت التوقيت بعد أن بيَّتت التدبير، فكانت المفاجأة من نصيب الخرطوم. إذ بينما كان وفدا السودان وجنوب السودان يناوران ويداوران في جولة تفاوض برعاية ملس زيناوي ومباركة الإتحاد الأفريقي في اديس ابابا لإنجاز مالم ينجز من قضايا السلام العالقة بينهما، كان هجوم الجنوييين المباغت على هجليج الشمالية، وبذا ضمنوا نتيجة المُدبَّر فاحتلوها. لم يكن بوسع الخرطوم إلا تلقِّي الخديعة والخسارة والإهانة بغضبٍ يناسب حجم ماتلقته. البرلمان السوداني أعلن “حكومة جنوب السودان عدواً”، وقرر العمل على إسقاطها. الحكومة أعلنت إن لا تفاوض مع الجنوبيين قبل إنسحابهم من هجليج. أُعلن النفير الشعبي، ووجِّه الجيش لإستعادة المُحتل من التراب الوطني. إتسعت رقعة المعارك فتعدَّت هجليج ففُتحت جبهات حدودية أخرى، ومنها ما فتحها الجنوبيون بالقرب من أبيي … وصل الأمرحد مخاطبة الرئيس السوداني شعبه قائلاً: “هناك خياران، إما أن ننتهي في جوبا، أو ينتهون في الخرطوم، وحدود السودان القديمة لاتسعنا نحن الإثنين…هجليج ليست المعركة النهائية، بل ستكون في جوبا” … لماذا هجليج؟!
قبل أعوامٍ سبعةٍ عُقدت إتفاقية سلامٍ بين السودان وجنوبه في نيفاشا الكينية. كان المفترض أن تنهي أطول حربٍ أهليةٍ شهدتها القارة الإفريقية، كانت قد رافقت تقريباً كامل العقود التي أعقبت إستقلال السودان، فاستنزفت إمكانياته وأخَّرت فرص تطوره وسفحت دم أبنائه واثقلت كاهل شعبه، الأمر الذي أقنع نخباً مؤثرةً وما لايستهان به من قطاعاتٍ شماليةٍ شعبيةٍ واسعةٍ بوجوب الإنفكاك عن الجنوب والخلاص من أوزاره، وبالتالي سهَّل هذا من إستجابة الخرطوم لضغوط رعاة إتفاقية نيفاشا الغربيين والقبول باشتراطاتها الساعية أصلاً لفصل الجنوب. وإذ قبلت بها لم تحسن قبولاً فابتلعت الغام القضايا العالقة التي لم تحسمها الإتفاقية، أوالتي ربما شاء مهندسوها، أو فارضوها، زرعها لإمرٍكان في نفس رعاتها، ومنها، ترسيم الحدود، إستفتاء أبيي، عائدات مرور النفط عبر الشمال، الديون، الجنسية، فمسألة ماتدعوها الإتفاقية “المَشْورة” في منطقتي جنوبي النيل الأزرق وجنوب كردفان… عام 2005 كانت نيفاشا، و 2011 تم الإنفصال، و 2012 العودة إلى الحرب بإحتلال هجليج، بمعنى أن القضايا المعلقة قد بدأت تفعل فعلها… أما لماذا هجليج بالذات؟ فلأن الإنفصال كان قد حرم السودان 75% من نفطه ونصف ال 25% المتبقي منه في هجليج، وبالتالي حرمانه منه يعادل ضربةً قاسيةً لإقتصاده الغارق في أوجاعه، ويسهم في تعطيل عجلة التنمية السودانية، وهذا واحد من العوامل التي ترى قوى إقليميةٍ ودوليةٍ معاديةٍ للنظام أنها قد تسرِّع في إمكانية إسقاطه. كما أنه لا يخفى أن خلف ثغرة هجليج تكتيك جنوبي يهدف إلى إجبار الخرطوم على مقايضتها بأبيي والتي بدورها لا تخلو من النفط، كما لا ننسى أن أغلب حكام جوبا أو الممسكين بالقرار فيها هم من دينكا أبيي وبدون أبيي جنوبيةٍ لن يتسنى لهؤلاء مزيداً من طول الإقامة في سدة الحكم… وهناك من الأسباب الأخرى ما قد تتفق في إيجادها كل من الخرطوم وجوبا، هاتين اللتين درجتا على دعم الحركات والأحزاب والقوى المعارضة والمتمردة لدى كلٍ منهما بهدف استنزافه، وهروباً من الأزمات والتحديات الداخلية أوالتغلب عليها عبرحشد الداخل لمواجهة الخطر الخارجي، الأمرالذي ينبىء بازمةٍ ستطول حتى وإن استعادت الخرطوم هجليج وهو المرجَّح طال الأمر أم قصر…ستطول، لاسيما ونحن نسمع المتحدث باسم حكومة جوبا يردد قولاً من مثل، نحن “حتى الآن لم نتجاوزأبداً حدودنا مع السودان”! ويتحدث الإسرائيليون عن تدارسهم الإستجابة لطلب أممي منهم إرسال “قوة شرطية ” إلى جنوب السودان”!
هناك مفارقة لا يمكن التغاضي عنها بالنسبة لمن يتابع الهم السوداني ويلاحق آخر تجلياته، وهي أن الجنوبيين لم يقدموا على ما اقدموا عليه بدون مباركة غربيةٍ، بالإضافة إلى ضمانهم لأمرين، أولاهما تعويض أميركي إسرائيلي لخسائرهم جراء عواقب إيقافهم لتصدير نفطهم عبر الشمال الذي لا من إمكانية راهنة لتصديره إلا عبره، وبالتالي حرمان الشمال من عائدات مروره وما يتلو هذا من تفاقم أزمته الإقتصادية، أو ما أشرنا اليه آنفاً، والتي لا شك وأنها سوف تؤثر فيما تؤثر أيضاً على قدراته العسكرية في مواجهة الحركات المتمردة وهذه الحرب التي فرضت عليه الآن والتي لايمكنه إلا خوضها، وثانياً ضمان دعمٍ شعبي جنوبي شامل لم تستثنى منه قوى المعارضة على إختلافها، إذ غدا جنوب السودان بكامله يعيش حالة تعبئة عامة. هذا جنوباً، أما شمالاً، فلعل السودان يحظى بأغرب معارضة عرفتها الأمم، ففي حين توحِّد الأخطار الخارجية عادةً الشعوب خلف جيوشها وتدفع قوى المعارضة فيها لأن تضع خلافاتها مع أنظمتها جانبا إلى مابعد درئها، نجد أن أغلب قوى المعارضة السودانية تبدو المتموضع أكثر في موقع الشامت، أوالذي يكاد كل همه إدانة النظام، وحتى ترداد بعضها بعضاً من مزاعم الجنوبيين المحتلين لجزءٍ من التراب السوداني!
لقد كشفت ثغرة نيفاشا فيما كشفت أن السودان الذي يشهد في هجليج أولى إنفجارات ألغام نيفاشا، التي لم يحسن بداية تفادي زرعها ولاهو لاحقاً حاول نزع فتيلها قبل موافقتة على إجراء إستفتاء فصل جنوبه، لا يمتلك الإستراتيجية المفترضة لمواجهة مشاكله المتوقعة منذ البداية مع هذا الجنوب المعادي، هذا الذي تسطرعليه نخبة عنصرية تربَّت على العداء لهويتة العربية في ظل أيام الإستعمار البريطاني ورضعت حقدها الدفين حتى الثمالة في كنف تحريضٍ تليدٍ للإرساليات التبشيرية الغربية، وحظيت حركتها الإنفصالية إبان عقود الحرب الأهلية وحتى إتمام الإنفصال بالرعاية والدعم الكاملين من أعداء الأمة العربية، الغربيين، والإسرائيليين، ومتطرفي الأفرقة في دول الجوار، واليوم هي سلطة جاهزة لتكون أداةً لعرّابيها هؤلاء الساعين لتفتيت السودان، وكل الطامحين لنسف هذا الجسر الحضاري الذي يربط العرب بالدائرة الإفريقية. ولعل فيما نمى من تسليمٍ للملف مرة أخرى لرجل مثل غازي صلاح الدين العتباني، الذي كان في يده أيام مباحثات مشاكوس وسحب منه في نيفاشا، ما قد ينبىء بمحاولةٍ متأخرةٍ لتدارك غياب مثل هذه الإستراتيجية… السودان في هجليج وأخواتها لايواجه جيش سلفا كيرميراديت وإنما الغرب واسرائيله وأفريقييهم، والسؤال المستوجب في مثل هكذا حالة، والذي لا تصعب الإجابة عليه، هو: وأين العرب؟!