سقوط الأوهام بعد التحولات الدولية والإقليمية

زياد حافظ*

 

الصحف العربية والدولية مليئة بالتحليلات والإستشرافات لمستقبل المنطقة بشكل عام آخذة بعين الاعتبار التحوّلات التي شهدتها المنطقة العربية منذ سنة. وإذا كنّا من دعاة تأييد حركات الجماهير العربية في انتفاضاتها المتعددة الأشكال والألوان إلاّ أن اهتمامنا منصبّ على القضية المركزية للأمة ألا وهي فلسطين. ففلسطين هي البوصلة والمعيار التي تتحدّد من خلالها شرعيات الحكومات الحالية والمرتقبة بعد الحراك الشعبي. واللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم في هذه التحوّلات المفصلية في تاريخ الأمة هي نتيجة تراكمات على مدة العقود الأربعة الماضية بعد غياب الرئيس جمال عبد الناصر.

فما هي طبيعة هذه اللحظة التاريخية التي نتكلّم عليها؟ هي لحظة فيها الأمل وفيها المخاطر. الأمل هو بروز حقبة جديدة تعيد للجماهير العربية عزّتها وكرامتها والاعتبار إلى مسيرة التحرّر والوحدة والعدالة الاجتماعية والتنمية والتجدد الحضاري لهذه الأمة، والمخاطر تكمن في المبالغة في تحقيق هذه الآمال دون تقديم المجهود. فتراجع أو اندحار القوى التي كانت قابضة على مصير هذه الأمة لا يعني أن تحقيق الآمال أمر حتمي.

فما هي إذا المخاطر التي قد تقضي على هذه الآمال؟

الخطر المباشر هو استمرار ثقافة الإتّكالية على الغير لتحقيق الأهداف. وهذه ثقافة متأصّلة للأسف وناتجة عن ثقافة الإقتصاد الريعي الذي ينبذ المجهود المنتج. فإذا كان عنوان الحقبة الماضية «أميركا» وفقا لنظرية «التسعة وتسعين بالمائة من الأوراق بيد الولايات المتحدة» (ولبعض الدول امتدّت المقولة لضم الكيان الصهيوني في امتلاكه أوراق اللعبة) فقد يتمّ استبدال ذلك العنوان بحقبة «البريكس» أو «المحور الروسي الصيني الإيراني» في المنطقة. فلا دول «البريكس» ولا الدول الإقليمية الصديقة ستقوم بالنيابة عنّا بالمجهود لتحقيق أهدافنا، بل قد تكون لها مصالح مختلفة إن لم تكن متناقضة. أهدافنا مسؤوليتنا نحن، لا مسؤولية الأصدقاء والحلفاء.

والخطر الثاني هو فقدان البوصلة وتحويل التناقض الرئيسي مع الكيان الصهيوني إلى تناقض ثانوي، واستبداله بتناقضات مدمّرة كالفتنة المذهبية، والقطرية المفرطة، وتحميل كل العرب مآسي ارتكبتها نخبها الحاكمة.

الخطر الثالث هو الإعتقاد أنه بالإمكان بناء الأقطار في مناخ من التجزئة والهيمنة الغربية خاصة وأن القواعد العسكرية منتشرة في بقاع الأمة. فلا تنمية ولا عدالة إجتماعية ولا استقلال وطنياً ولا تجدّد حضارياً في كنف التجزئة. الوحدة هي البوصلة لتحقيق تحرير الأرض والمواطن. وتناسي تلازم تحرير فلسطين من الأرض إلى النهر والعمل لتحقيق الوحدة، هو الخطر الذي يلغي كل إنجازات المقاومة والممانعة والصمود أمام الهجمات الغربية وأدواتها العربية والإقليمية.

فقيام محور ممانع من الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط وصولا إلى بحر الصين وفلاديفوستوك يساهم في تأسيس عمل جماعي للنهوض بالأمة وتجاوز الأخطار المذكورة. صحيح أن هذا المحور لعب دورا مفصليا في الحدّ من غطرسة الهيمنة الغربية بشكل عام والأميركية الصهيونية بشكل خاص، إلاّ أن فعّالية موقف ذلك المحور الدولي الإقليمي، لما كانت، لولا صمود سورية قيادة ونظاما وشعبا أمام الهجمة الكونية ضدّها. بل نقول أكثر من ذلك: إذا كان موقف ذلك المحور مفيدا للغاية في معركة سورية إلاّ أن سورية كانت حاجة روسية صينية إيرانية أكثر من حاجة سورية لذلك المحور. هذا لا يعني كبرياء أو تعاليا بل قراءة دقيقة للواقع.

 صحيح أن التكامل بين الصمود السوري وثبات الموقف الروسي الصيني الإيراني خلق توازنات جديدة في المنطقة ومن وراء ذلك في العالم غير أنه لا يجب التقليل من الدور السوري. والدليل على ذلك هو أن في يوم واحد (30 آذار) عقدت ثلاث قمم: الأولى دولية في نيودلهي وهي قمة دول البريكس، والثانية في بغداد وهي القمة العربية، والثالثة في طهران وهي قمة ثنائية بين ايران وتركية والملف الأساسي لهذه القمم هو سورية. أليس ذلك ملفتا للنظر؟

إن ما نريد التركيز عليه هو دور سورية المفصلي في بلورة المنظومة الدولية الإقليمية الجديدة. هناك بعض التشابه مع مناخات منتصف الخمسينات من القرن الماضي، المناخ الذي ولد في باندونغ وإندحار القوى المستعمرة التقليدية بعد حرب السويس وبروز مصر كدولة إقليمية قائدة للمنطقة ضمن منظومة دول عدم الإنحياز ودعم حركات التحرّر في العالم. لذلك نريد التركيز على هذا المناخ الجديد الذي يحيي مجدّدا الحلم العربي في التحرّر والوحدة. أي بمعنى آخر إن المهام التي تقع على جميع القوى الحيّة في هذه الأمة هو الدفع نحو المسيرة المزدوجة في التحرّر وتحقيق الوحدة.

من نتائج معركة سورية سقوط العديد من الأوهام.

الوهم الأول هو قدرة الغرب والولايات المتحدة على قهر المنطقة وفرض إرادتها. لكن نسلّم أن عقول النخب العربية الحاكمة ما زالت محتلّة من قبل الغرب. قوة الولايات المتحدة هي في عقول هذه النخب التي ما زالت حتى الساعة تعتقد أنها لا يمكنها مقاومتها وأنها هي الحامية للعروش والمناصب. فإذا كانت عقدة الخوف من الولايات المتحدة المتحكّمة بعقول هذه النخب فما عليها إلاّ أن تراجع الوقائع في السياسة والإقتصاد والمجتمع والثقافة لترى مدى التراجع إن لم يكن الإنحطاط والتفكّك.

أما إذا كانت «الحماية» الدافع الأساس لتلك العقول فما عليها إلاّ أن تراجع سلسلة القيادات العالمية التي رضخت لمشيئة الولايات المتحدة ضد مصالح شعوبها وكيف تخلّت عنها في اللحظة التي كانت هذه القيادات بحاجة لدعم الولايات المتحدة. فأميركا ليس لديها صداقات بل من يقوم بأدوار وظيفية. حتى الكيان الصهيوني أصبح عبئا على الولايات المتحدة واللحظة التي ستتخلّى عنه ليست ببعيدة. إن مجابهة الولايات المتحدة أمر خطر، لكن التحالف والتبعية لها أمر قاتل. وما على النخب العربية إلاّ أن تعي تلك الحقيقة. فكلفة الصمود ومواجهة إملاءاتها أقلّ بكثير من كلفة الرضوخ لها.

الوهم الثاني الذي سقط هو دور المال مهما كانت أهميته، إلاّ أنه لا يصنع أوطانا وثقافة، وبالتالي قدرته على إقناع الشعوب للتغير معدومة. استعمال المال النفطي كبديل عن الوزن السكّاني والإرث الثقافي السياسي والإجتماعي لسورية ومصر والعراق والجزائر وصل إلى طريق مسدود، وإن كلّف جماهير هذه الأمة الكثير من الآلام. الإعلام أداة هامة ولكنه لا يصنع الأوطان ولا يحمي الكيانات المصطنعة. إن ما يحمي هذه الكيانات، كل الكيانات العربية التي أفرزتها الحقبة الإستعمارية، هو الموقف القومي الحامي لها. نذكّر بالموقف القومي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر في حماية الكيان الكويتي الناشئ أمام طموحات عبد الكريم قاسم. إن التراجع عن التضامن القومي هو الذي أدّى إلى استفراد الكيان الصهيوني بلبنان ومطامح الغرب بكافة أقطار الأمة.

الوهم الثالث هو أن حركة بعض الدول الإقليمية في محاولة فرض الوصاية مجدّدا على الجماهير العربية فشلت فشلا ذريعا وساهمت في تعميق جراح طالما حاولنا كقوميين عرب معالجتها. إن تصرّف الحكومة التركية على أساس فئوي حزبي أسقط الفرصة التاريخية لتكوين الوحدة الثقافية الإستراتيجية بين العرب والأتراك. إننا نؤمن بوحدة هذه الكتلة التاريخية الثقافية التي لا بد من أن تفرز تشبيكا سياسيا إقتصاديا وثقافيا يضم كلا من تركيا وإيران وبلاد الرافدين وبلاد الشام حتى وادي النيل ومن ورائها دول المغرب العربي. إن أخطاء الحكومة التركية حالت دون المباشرة في هذه العملية بعد الإشارات التي التقطتها الجماهير العربية من الحكومة التركية في بعض المواقف التي دغدغت الشعور العربي والرغبة بالعودة إلى تلك الوحدة الثقافية. لكن للأسف لم تكن تلك الإشارات إلاّ استعراضية لكسب عطف الجماهير العربية لتحقيق أحلام عثمانية جديدة.

يعتقد الغرب وخاصة الولايات المتحدة أن البديل في المنطقة بعد سقوط رموز التبعية له هو إيصال الحركات الإسلامية إلى السلطة في مواجهة المدّ القومي المتنامي مجدّدا. فالولايات المتحدة حريصة على نفي وجود هوية عربية. فالخطاب السياسي المروّج لغزو واحتلال العراق بني على قاعدة نفي الهوية العروبية لمكوّنات المجتمع العراقي والإشارة إلى العرقيات والطوائف والمذاهب. والدستور العراقي الجديد الذي صاغته الولايات المتحدة حذف الهوية العربية للعراق.

الولايات المتحدة ومعها أدواتها الإقليمية حريصة على إيجاد الشرخ بين التيّار القومي العربي والتيّارات الإسلامية. وإذا كانت بعض التصريحات والمواقف لبعض رموز هذه الحركات الإسلامية تثير القلق، خاصة فيما يتعلّق بالقضية الفلسطينية فهذا لا يعني أنها أسوأ من الحركات القومية التي ارتكبت خطايا قاتلة بحق فلسطين وبحق الأمة أصابت بالصميم طموحات أجيال عربية منذ الستينات.

نعتقد أن سورية أصبحت مرشحة في المرحلة القادمة للعب دور مصر في الخمسينات والستينات من القرن الماضي (طالما أن مصر ما زالت تفتش عن دورها) إلاّ أن ذلك الأمر يتطلّب في المرحلة الأولى تحصين الوضع الداخلي أمام الهجمات الغربية والرجعية العربية، وذلك التحصين يقع على محورين: المحور الأول هو المباشرة في تنفيذ سلّة الإصلاحات السياسية وقد بدأ ذلك الأمر، وبالتالي المطلوب الإسراع في ما تبقّى منها وهذا هو الأسهل. أما المحور الثاني وهو الأصعب فهو المبادرة إلى إجراء مصالحة مع كافة أطياف المجتمع للوصول إلى مشاركة حقيقية وفاعلة.

الصمود في وجه التآمر لا بد من أن يفرز معادلات جديدة في المنطقة تتويجا لمسيرة بدأت بإسقاط إتفاق 17 أيار في لبنان مرورا بتحرير لبنان عام 2000 وصمود المقاومة أمام العدوان الأميركي الصهيوني عام 2006 وصمود غزة. كما أن هذا الصمود لم يكن ليأخذ بعده الإقليمي والدولي لولا المقاومة في العراق أمام أكبر آلة عسكرية في العالم. فصمود المقاومة في العراق أدّى إلى هزيمة أكبر دولة في العالم وصمود المقاومة في لبنان وغزة أدّى إلى هزيمة أكبر آلة عسكرية في المنطقة. أما التداعيات على باقي دول المنطقة فبدأت إرهاصاتها تنجلي في تراجع دور بعض دول مجلس التعاون الخليجي.

إن التحرّر من الاحتلالات ومن القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة التي تصل إلى 45 قاعدة تقريبا هو هدف إستراتيجي للقوى الحيّة في الأمة سواء كانت شعبية وأو نظامية. لذلك يبقى مشروع «المقاومة» عنوانا للمرحلة الحالية والقادمة.

تطلّعنا إلى الشرق وإفريقيا وأميركا اللاتينية نابع من قناعتنا أن مستقبل العالم لم يعد في يد الغرب كما كان في العقود الماضية. كما أن المشتركات مع الدول الناشئة بل الصاعدة أكثر بكثير من المشتركات مع دول الغرب. والأخير في حالة تراجع بنيوي ونظامي وسكّاني ومعرفي متسارع. فهو كالقطار الذي فقد مكبحه وهو على شفير الهاوية. هل يستطيع أن يوقف المسيرة نحو الهاوية؟ ليس هناك من مؤشرات تدّل على إماكانية التصحيح ولكن ليست هذه مشكلتنا. فالغرب يحصد ما زرع فيه وفي العالم من فساد وخراب.
:::::

*أمين عام المنتدى «القومي العربي»