الجدران

كلاديس مطر

من أكثر أنواع الإرهاب الصامت أذية ذاك الذي يحدث باستمرار ومن دون انتباه من أحد. إنه الأرهاب الذي يعلن عن نفسه على الجدران ؛ جدران المدن ، جدران الحافلات المتنقلة ، جدران لوحات الاعلان وجدران الفيس بوك والتويتر وكل  تفرعاتهما . والكتابة على الجدران  أكانت إعلانية أو سياسية أو عبارة عن ملصقات فنية أو مجرد (خاطر ثوري كُتب بالبخاخ الأسود على عجل وخوف اثناء الليل )، هي في النهاية مقولات تٌفرض فرضاً على العقل البنيوي للمجتمع فتفككه وتعيد تركيب أجزاءه من جديد.

فأنت كل يوم تستيقظ لترى شعارات وجمل وأفكار غيرك تقتحم عالمك شئت أم أبيت . البعض منها قد لا يؤثر فيك ولكن البعض الآخر قد يوقظ خلايا العنف النائمة لديك ويشعل في حماسك البريء بذور الفتنة      والتقويض لذاتك ولمجتمعك .

فإذا كنا اليوم نشهد إعادة اصطفاف جديد على الساحة السياسية العالمية ، اصطفافا يُفرض بقوة السلاح      والحملات العسكرية العلنية أو التهديد بها وتدمير لدول بحالها على رؤوس الأشهاد ، فإن الكلمات التي تُكتب على هذه الجدران – بما تحمله من رموز وتوريات ومدلولات – إنما هي الاخرى تشكل إرهابا ناعما بطيئا يعمد الى هدم بنية المجتمع من أجل إعادة تشكيله بغرض التغيير أو الثورة عليها أو الانتفاضة أو حتى تعديل ما هو قائم من أجل إعادة صياغته بما يتناسب  و أولويات المرجعية أو المصدر الذي يسعى لهذا التقويض كائنا من كان هذا المصدر أو تلك المرجعية.

إن (عنف الخير) الذي روجت له منظومة الدول الرأسمالية الراعية لحملة ” مكافحة الارهاب ” والذي تلقفه شباب عربي في أوج حماسه الوجداني إنما هو أخطر و أمضى الأسلحة و أرخصها على الإطلاق التي توجه إلى صدر الوطن . إن عشرات ” المعاهد ” عبر العالم تهيىء– كما تدعي – الشباب على الثورات الربيعية من خلال ثقافة ” الكتابة على جدران الوعي الإنساني و الوطني ”  و ذلك من أجل ربط هذه المجتمعات بالمنظومة العالمية الكبرى ومصالحها، ليس بدافع من احترام شعوب هؤلاء الشباب وإنما بدافع من قلة الاحترام لثقافاتهم و لإزلال حضارتهم و دفنها الى غير رجعة.

 ولأن هذه ” الهيئات الديمقراطية ” غير موجودة على أرض الوطنن ولم تخرج من رحم احتياجاته التاريخية و الروحية،  فإننا نفترض حكما إن غرضها هو نشر النموذج المعرفي الذي تتبناه هي والذي تمثله  وهي بذلك تشي :

أولا – بحدة الهاجس الأمني الذي زعزع المجتمع الغربي والذي يحاول أن يصدره ويترجمه ويروجه في أنحاء العالم ، مصدرا معه أيضا توترا يوازي حروبا طاحنة بأكملها وذلك لأن التغيير الذي تحدثه في العقليات والنفوس والأجساد والعادات تفوق مقدرة الاقتصاد على القيام بذلك .

ثانيا- أصولية النظام العالمي التي لا تشذ عن أية أصولية دينية اخرى . فكل الأنظمة بالنسبة له عبارة عن   ” هرطقات ” عليها إما الالتحاق به طوعا أو غصبا أو إلى زوال .

ثالثا- (عنف الخير) الذي يروج له هذا الغرب آخذا دور الله بينما نكتفي نحن بالتلقي ؛ الذبح باسم الديمقراطية ، والقتل باسم الحرية نموذجان صارخان على هذا النوع من العنف الخيِر.

رابعا- خلق منظومة أخلاقية ليبرالية تابعة مستنسخة تشبه البضاعة التايوانية المقلدة عن الاصل – دون أن يتوفر في السوق المحلية قطع غيار لها – حيث التفرد أو الابتكار المحلي يعتبر ، بالنسبة لها ، ضربا من التمرد و الشذوذ الذي لا يتحمله التخت الاخلاقي للأمم المتحدة .

خامسا-  ليسا سجني أبو غريب وغوانتانامو ” زلتا قدم ” غربية استدعت الاعتذار لاحقا ، و إنما هما تلويح صريح بالعصا لكل من لا يمشي في الركب المقرر .

لقد زينت الكتابات المقدسة فيما مضى جدران المعابد والقصور القديمة والمقابر والألواح الحجرية  فكانت تسعى لحماية التراث والأحداث التاريخية من الفناء، كما كانت فتيات مدينة بومبي الرومانية التي طمرها البركان عام 63 قبل الميلاد يستيقظن كل صباح على رسائل العشاق المكتوبة على جدرانها القديمة وملحقة بعناوين أماكن اللقاءات المفترضة من دون وجل فيعرف الجميع أن هناك تحت أشجار الغابات المحيطة  بالمدينة عشاق سوف يبوحون .  أما اليوم فقد تحولت  كتابات الجدران إلى عمل ارهابي بشكل رسمي ( ونيويورك هي المكان الذي نشأت فيه هذه الممارسة المعاصرة )  وذلك لأنه بمجرد الكتابة على جدار المدينة هذه العبارات ” المقصودة والملغومة والمشبعة بالايحاء والرمز “فهذا يعني إلغاء دلالته في الحال ليكتسب صفة المشارك في العبارات التي كُتبت عليه . وهكذا يتم تقويض أسس المدينة وليس جدرانها فقط واعادة بناءها في كل مرة ” عبر التفكيك العنيف للدال نفسه ”  .  وفي مقالة بعنوان “جحيم السلطان” للمفكر الفرنسي جان بودريار يقول بثقة “أن عربات الميترو الموشومة بالكتابات تتوغل حتى قلب نيويورك تماما كما توغل الارهابيون بطائرتي البوينغ حتى البرجين التوأمين “.

إذا يغتال الغرب أيضا ذاته بنفس أفكاره تماما كما نفعل نحن اليوم حين نتلقفها ونتبناها ، والادلة على الهوس بالكتابة فوق جدران المدينة وعلى اليافطات وتلك الافتراضية على الفيس بوك وغيره ، قد سارع الفكر التوليتاري العربي والفكر الاصولي الديني العربي الى احتوائه وتبنيه فامتلأت الشوارع بمديح السلاطين وشعارات أحزابهم القائدة وكذلك بالدعاء لرجال الدين وفتاويهم .

قد يكون انسان هذا القرن  حاث الخطى باتجاه “آخر المطاف” . كأنه يشعر أن القدم أخذت تنزلق في تربة الفناء وأن هذا العالم الذي يشبه أضغاث أحلام يُعطى أخيرا كل “الادوات” لكي يدمر ذاته . فعلها الغربي  وفعلها الشرقي وفعلها العربي وفعلها المتفرج من بعيد وكذلك الذي وصل “البل إلى ذقنه.”

لربما كان كل ما حولنا مجرد ” خدعة بصرية ” . فها هو الغرب قد أخذ كل شيء ولم يقدم شيئاً سوى إرهابه . من هو – في هذا العالم المارق- الذي يقدم كل شيء من دون أن يأخذ أي شيء سوى المفهوم الكلاسيكي والشعبي لفكرة الله ؟ أما الغرب ، راغبا في أن يكون المهندس الأول في العالم ، فقد أخذ كل شيء وقدم ارهابه . لقد خدع العالم كله بحركة سحرية بنيت على الغش .  أما ردة فعل الشعوب فكانت المزيد من التطرف في كل شيء ، الشعوب التي هي ضحية ” جدرانها”   وما يكتب عليها ، كتابات ظنت إنها بليبرالية شعاراتها إنما تبحث لكي تزيل كل حد بين الحكومات والناس فإذا بها تفلق  الدنيا الى نصفين واضحين : أميركا والعالم البربري في الخارج . والله وحده يعلم لما الأميركي هو بحد ذاته قيمة أخلاقية  والاخر بربري ؟

أسئلة كثيرة وكثيرة وكثيرة … سوف لن يكون بإمكان الجدران الإجابة عليها .

:::::

موقع الكاتبة:

www.gladysmatar.net