مقامات الجراء (1)

حنظلة

قال الجرو:

                                                                    · لماذا فشلت أمريكا في حماية الشعب السوري ؟

تعد هذه المقامة القصيرة من أغنى النصوص في أدب الجراء. فهي كما يبدو وليدة احتقان إبداعي طويل في مثانة الوجدان، انغمست فيه روح الجرو طويلا تتقلب بين عذاب الوصول ورهبة الوصل، إلى أن بلغ نرفانا تجاوز الذات، ونسي أنه جرو بشري، فأخذ ينبح بالكلام.

استمعت إليه، لأرى تفوق الجرو على الإنسان، وهل تصيبه أعراض المضمون فيبدو شبيها بالجرو بطريقة ما، فلم ألحظ فيه تغيرا لافتا سوى أنه كان يعض بعض الكلمات عند مرورها بين أسنانه، وخاصة الشعب السوري والأسد، لقد خيل إلي للحظة أن الملابس تبدو غريبة عليه بعض الشيء، ولكن ذلك كان مجرد انسياق كما أظن، مع تداعيات فكرة أنهم في الغرب يدللون الكلاب ويلبسونها الملابس ويسمونها بأسماء المشاهير، رغم انهم لا يدللون عربهم حتى ولو كانوا كلابا. ومما كان يلفت نظري حقا بالنسبة للجرو، هو حركات يديه الشبيهة بحركات دمية تتحرك بالبطارية، أو حركات ” الدرداس ” في أفلام الكرتون. ولكن لا علاقة مباشرة لهذا بكونه جروا.

إن عبقرية السقوط التي تتمثل في الإنسان الجرو، لا تتضمن ما يكلف به فقط، أو ما درب عليه. علينا ألا ننسى أن فيه جانبا بشريا له حثالياته السياقية الموروثة، فالجرو فيه يعرف الإمتثال ولا يعرف النفاق، ولكن البشري فيه يجمع بين الإثنين. فهو يؤدي ويجزل الأداء نفاقا لسيده وتحببا إليه، كالساقطة التي تنافق زبائنها طمعا في زيادة الأجر. فأمريكا لم تطلب من الجرو أو مدربه اتهامها بأنها تعمل من أجل إنقاذ الشعب السوري، أو من أجل تحريره من الأسد. فهذا سخف إعلامي مفرط لا ترضى به أمريكا البراغماتية. فهي لا تريد إقناع الشعب بحبها له. تريد إقناعه بأن البديل عن تغيير نظامه هو الموت. هذا ما تفعله وتقوله. ولكن الجرو البشري اجتهد فيه المنافق، فجعل من كلاب أمريكا المهيجة هم الشعب السوري، وجعل من أمريكا بغيا فاضلة، ترسل قواديها لإنقاذ الشعب السوري من نظام الأسد. أي جرو هذا وأي إنسان. لقد ظن أن أمريكا بحاجة إليه ليفكر لها ! وظن أن أمريكا بحاجة إلى سروال يغطي عورتها التي تخوف بها الشعب السوري، فحاول أن يصبح سروالا. لم يفهم الجرو الفاشل أن أمريكا اقتنته ليكون عورة وليس سروالا. ولكن ما العمل كما يقول البعض ؟ الجحش جحش ولو بين الكلاب ربي.

كان المشهد الكلي للمقامة مثيرا. فيه عجب وإعجاب. كانوا ثلاثة: الجرو، وسعدان من سعادين السرك، ومفكر قوي الشخصية، عميق النظرة، رزينا هادئا ساخرا بأدب، قد تختلف مع ما يقول، ولكن لا فكاك لك من احترامه. ولكن ما الذي أتى به إلى هذا المشهد الذي لا يليق بشخص أقل منه بكثير،( كما سيتساءل البعض ) ؟ إنه اكبر وأكثر شهرة من أن يجلس في مشهد للفكر الإستدعائي، يديره جرو صيد، ويحضره سعدان ؟ صحيح أنه استطاع بأسلوبه القاتل في الرد أن ينكل بالجرو والسعدان ويسخر بهما دون أن يفهما أو يحسا بما أنعم به عليهما، ولكنهما يظلان جروا وسعدان ثوابهما وعقابهما عند المدرب وليس عند المفكر. أثناء السياق كان الجرو المدرب يلتقط السقطة لدى السعدان ويسرع إليه بها مهتاجا إلى المفكر ليرد عليها. ولكن لو كان لدى الجرو شيء من الفهم أو الإحساس بالمهانة لأوقف البرنامج بحجة الخلل الفني. ولكن المفكر لم يكن يكن يقدم ردودا عينية على تساؤلات الجرو، كانت ردوده حالات من الرد الفكري الفائق الموضوعية والتهذيب والعمق، على مسوخية الوضع العام الذي خلقته أمريكا، فكان ظهور الإنسان الجرو في الحياة العامة للبشر واحدا من نتائجه. وكأنه يرد على بشاعة العصر بكاملها، دون أن يلحظ وجود الجرو أو السعدان. وبذلك كان يزيحهما بحذائه بحركة غاية في اللطف، هي في الحقيقة استنكاف مهذب من وجود نموذجهما على هذا الكوكب الجميل التعس.     

لم أعد أستطيع الإهتمام بظاهرة الجراء البشرية على الساحة الهجرية كظاهرة سياسية. فأنا لا أومن بإمكان وجود السياسة على هذه الساحة المتعفنة وجوديا. وما يبدو فيها من كثرة الجراء هو ظاهرة لتفسخ النفس البشرية كما تتفسخ الأجساد عضويا. فالأخلاق والأعراف والقيم حينما تفقد دوافعها الفكرية والثقافية والإجتماعية، تنحل من تلقاء نفسها استجابة لقوانين البنية. والهجرية عبث بنيوي قديم تم خارج الوعي، واستمر بالوجود في غياب العقل العاقل، بحيوية العبث وحده، إلى أن تغير العالم عدة مرات من حوله، فخرج من سياق الوجود المدرك إلى سياق الوجود البيولوجي المجاني الذي لا يمكن تحقيقه إلا بالفعل والإنفعال، أو بالإمتثال التلقائي لغرائز حفظ الأنا والتحول نحو خصائص الوضاعة والإرتزاق المجرد كالجرو.

هذا الجرو ليس لديه شيء ضد سوريا شعبا ونظاما. إنه يعوي ويعض ويقفز بالأجرة. وكذلك السعدان. ألبشري في كليهما، يعرف أن الشعب السوري يمثل ظاهرة وعي قومي متألق على الساحة الهجرية. وله تجربة نضالية عامة، تعرف خلالها على ديموقراطية الإلتزام وليس على ديموقراطية الشذوذ الإجتماعي والفوضى التي تصدرها أمريكا إلى وكلائها ليعلموها لشعوبهم. وكلاهما ( الجرو والسعدان ) يعرف أن نظام الحكم في سوريا هو الوحيد الذي يحترم شعبه، لأنه نشأ في بيئة إيديولوجية واحدة مع الجماهير، تعطي الأولوية للوطن القومي. ولم يكن لدى النظام ما يراهن عليه سوى التأييد الشعبي. ومهما كان رصيد هذا الوعي النظامي من الإلتزام، فلا سبيل للمقارنة بينه وبين بقية الأنظمة العربية التي أسست سياديتها أصلا على الإلتزام بخيانة مصالح شعوبها وامتهان إنسنيتها. أي أن في كل دولة هجرية، مملوكا صهيومريكيا يدير شؤونها بالوكالة، ويضطهد وينهب شعبه لصالح الصهيومريكية العالمية. وإذا كان حكم البعث في سوريا تسلطيا، فإنه على الأقل يربط بين مصير الشعب ومصير النظام، ويمضيان معا على طريق وحدة المصير الوطني. وإذا كان الأسد طاغية فإنه على الأقل أيضا بعيد عن خيانة شعبه، بينما تقوم السيادة النظامية في الدول الهجرية ـ تحديدا – على الإلتزام بخيانة الشعب والوطن. باختصار فإن المسخين ( الجرو والسعدان ) يعرفان يقينا أن حذاء الأسد له شرف من نوع ما، وهو أنه لم يمش في طريق الخيانة، فما هو نوع الشرف الذي يمكن للمسخين اتهام أي حاكم هجري به ؟ ولكن من تبرأ من إنسانيته، أول ما يتخلى عنه هو شرفه. فكيف يمكن أن يحترم ظاهرة الشرف أو يدخلها في حسابه لدى الآخرين ؟ وهذا الكلام ليس موجها إلى أي جرو بشري من الهجريين، إنه موجه إلى مساكين الوعي في المشاعة الهجرية، الذين يعتاش الجرو والسعدان على حسابهم. هؤلاء نسألهم:

هل لدى حكام سوريا كحكام الخليج، قهرمانات وقوادين في الحاشية، مهمتهم غزو الجامعات في الدول العربية وغيرها لاجتذاب النماذج الجميلة والموهوبة من الطالبات إلى قطاع التسري في قصور الحكام ؟ ( كما يدعي البعض )

هل يقوم هؤلاء الحكام، بعد الإنتهاء من أولئك الطالبات الجميلات والموهابات، بتحويلهن إلى ملحقي السفارات الأمريكية، لتحويلهن بدورهم، إلى دورات التدريب الخاص، للعمل في التجسس، والإعلام، وضيافة الطيران، والخدمة في مؤسسات الأمم المتحدة، واستغلال مواهبهن العقلية والجسدية في تنفيذ المهام الخاصة ؟ ( كما يقول من شاء ).

وهل يفعل حكام سوريا البعثيون نفس الشيء ؟ ( كما لم يجرؤ أحد أن يقول ).

سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة في مقامات قادمة، لجرو آخر.