في الاول من آيار سجله المخبرون . .!

جمال محمد تقي

كان عامل طباعة مجتهد ونقابي بالفطرة ، يثق به الصغير والكبير في مجال عمله ، كان لا يبخل بوقته لمعالجة مشاكل زملائه وكان دمث الخلق ومنطقي في طروحاته ومطالباته لتحسين شروط العمل وزيادة اجور العمال الذين يحرمون من الزيادات السنوية العادية ، وتوفير شروط السلامة اثناء العمل ، وضمان دفع التعويض عن ايام المرض ، كان يضع في جيبه قصصات تحوي بنودا سارية وحيوية من قانون العمل الذي  يناضل من جهة لتطبيقه ومن جهة اخرى لتحسينه .

عندما حل الاول من ايار وكان في يوم جمعة ، خرج عايش محمد مع الخارجين من عمال المطابع وهو يتأبط لافتة كان قد كتب عليها شعارا مثيرا للانتباه والالتفات ” يا عمال المطابع ادعوا في الجوامع عسى ان تتحقق المطامع ـ  ياعمال المطابع اطبعوا للمراجع واحذروا تحريف الاصابع ” وكان شعاره هذا قد حفز الكثير من ممثلي عمال المطابع الاخرى الذين التقوا به يوم الخميس ، على تكييف  شعاراتهم التي اقترحوها كيافطات خاصة بالمناسبة ، مناسبة تظاهرة الاحتفال بيوم العمال العالمي قرب ساحة الفردوس ببغداد .

توارد على الساحة العشرات ثم المئات من المشاركين ومن نشطاء الاحزاب ومنظمات المجتمع المدني ، بانتظار الساعة التاسعة موعد انطلاق التظاهرة نحو ساحة التحرير ، في هذه الاثناء افرد عايش لافتته وهم ليرفعها بمساعدة عدد من زملائه الذين اجتمعوا حوله وهم يدردشون بامورهم العامة والخاصة ، تخلل زمن الانتظار هذا تعارف المشاركين مع بعضهم وخوضهم لنقاشات ومقارنات تخص المناسبة واحيانا ما هو ابعد منها .

يبدو ان لافتة عايش كانت مغرية للكثير من القادمين على الساحة بغرض التعرف عليه والتحدث اليه ، قضاءا للوقت او فضولا او للتعرف على وجهات نظره ، عايش كان خمسيني وهيئته تدل على وقار تلقائي ، سلم عليه عدد من المشاركين الشيوعيين وعدد اخر من ممثلي منظمات المجتمع المدني بينهم إمرأة كان قد عرفها عايش من ملامحها ، انها ذاتها التي ظهرت على شاشات المحطات الفضائية عندما احرجت المالكي حين سلمته مطالبات واسترحامات مع تعليق لها على ان الاوضاع في البلاد ليست بخير وكان من كلامها يتضح انها تتحدث عن التجاوزات الامنية على متظاهري ساحة التحرير ، صافحته وهي تقول : زميلتك هناء ادور ، ابتسم ورد عليها معرفا نفسه ، اخوك عايش محمد ، فاجئته بالقول : اخي عايش لو الدعوات بالجوامع اتحقق المطالب لعد شنو لزوم جيتنة بالساحة ، المفاجئة الاكبر ان احد الواقفين ويبدو انه ايضا شيوعي ولكن من لون اخر يمقت اللون الرمادي الذي يضلل لون يافطة هناء وشيوعيي المقرات ، بادرها بالرد قائلا وبتهكم : عيني هناء اذا كان كل قادتنا السياسيين من زبائن الجوامع والحسينيات والتكيات ، فمن الافضل الذهاب اليهم واسماعهم دعواتنا حتى تكون على الاقل مسموعة ان لم تكن مستجابة ، قاطعته هناء بحماس وكأنها تخطب خطبة الجمعة قائلة اخي احنة طليعة المجتمع ، لازم انحرض الناس على ممارسة حقوقهم الطبيعية ومنها حق التظاهر والاضراب والاعتصام واصدار الصحف المعارضة حتى انشكل قوة ضغط شعبية لتحقيق المطالب المشروعة للناس ، كمحاربة البطالة والرعاية الاجتماعية للمتعففين وتحسين الخدمات وزيادة الاجور وتثبيت العمال والمستخدمين اصحاب العقود المؤقتة ، شنو جوامع شنو حسينيات ؟ فرد عليها الشيوعي صاحب اللون الاحمر ، اختي هناء انتي مدعومة او ما تخافين لكن انا واخونة عايش والاكثرية من الموجودين نتخاتل وية المخبرين والشرطة والمسؤولين حتى بلكي انحقق شيء من دون ان ننحبس او نموت بكواتم الصوت ، يعني يا اختي مو انت مدعومة من حكومة كردستان ؟ او مو انت تاخذين راتب بدرجة وزير متقاعد من حكومة البرزاني ؟ هاها مو انتي بس حتى عزيز محمد وكريم احمد وكاظم حبيب وعبد الرزاق الصافي و كل ربع حميد او مفيد القدامة لان الجدد الهم غير تسعيرة ! شاطت هناء واحمر وجهها وتقطبت حواجبها ، وردت صارخة به : هذا كلام كذب تريدون تشويه سمعة المناضلين ، انتو مخربين انتو ، قاطعها الشيوعي الاحمر قائلا : فد نوب سوينة ارهابيين مو هيجي الحجي اختي ، هذا الحجي مو مني ، هذه صحيفة هاولاتي الكردية المحترمة والمستقلة هي التي نشرت وثائق بهذا الفساد الذي تنكريه ، في هذه الاثناء ادارت هناء وجهها وهي ترطن بكلام قبيح وغادرت الحلقة دون استأذان ، كان عايش مازال مصدوما بما رأى وسمع ، لكنه افاق على ضحكة الشيوعي الاحمر الذي حاول شرح الامر له ، وفعلا انتبه عايش باهتمام لما يقوله الشيوعي الاحمر بعد ان وجد في منطقه اجوبة لتساؤلات كثيرة كانت تدور براسه عن مصير وهوية هذه المرأة منذ ان شاهدها على شاشة التلفزيون وهي تتحدث للمالكي دون رغبة منه وامام عدسات التلفزيون ، قال الشيوعي الاحمر لعايش : اخي هذولة ذيول للبرزاني والطالباني يستخدموهم هنا في بغداد ، انت تدري ابمثل هذا اليوم يعني بواحد ايارعام 1983 جلال الطالباني و حزبه ، الاتحاد الوطني ، قاموا بمجزرة بحق الشيوعيين العراقيين الانصار ، دون اي مبرر غير ان القتلة قد استلموا اجرا دسما لقاء فعلتهم الشنيعة ، لقد قتلوا العشرات من الشباب والنساء حتى الاسرى منهم وكلهم من خيرة الكوادر المهنية والاكاديمية ، المصيبة الاكبر الان ، ان هؤلاء تناسوا هذه المجزرة وراحوا يبرروها ، حتى انهم لا يذكرون اسماء رفاقهم الضحايا ، وصاروا الان خدما اوفياء لسفاك دماء رفاقهم ، فاي جحود واي خيانة ؟

استمع عايش للحكاية كلها ، وبدت على وجهه ملامح الحزن والاسف ، وقال لزميله الشيوعي مازحا انا لست بشيوعي ولست بحزبي اصلا انا اثقف نفسي بنفسي واكره الانجرار وراء الاخرين لكنني احترم اصحاب المباديء واقدر تضحياتهم ، وعلى كل حال فان شعاري الذي تراه على يافطتي هو نوع من انواع الكاريكتير الانطباعي ، او ليكن محاولة توفيقية واقعية للبحث عن صيغة للتعايش السلمي بين افكار واحزاب وعقائد يأكل بعضها بعضا ، فرد الشيوعي عليه مازحا يعني شنو اتريد انكول ياعمال العالم صلوا على النبي ! ؟

انطلقت المسيرة وبدأت الهتافات ، وصلت الى ساحة التحرير ، اعتقل اغلب طلائعها ، ومنهم عايش والشيوعي الاحمر ، لم يعتقلوا النساء ، واكتفوا بتفريقهن ، عرف عايش بان تهمته الاخيرة عند المخبرين كانت شيوعي ناقم على المالكي ، لكنهم اكتشفوا بعد فتح اضبارته بانه هو نفسه كان معتقلا في مراسم عاشوراء الفائت ، اثناء مشادة بين موكبين حسينيين في الكاظمية احدهم من اتباع الدعوة والاخر من اتباع الخالصي ، وكانت تهمته وقتها مذهبي مشاغب !

سأله  المحقق : انت شيوعي لو شيعي لو شنو ؟

اجاب عايش : اخي انا نقابي مطبعي !

يعني انت  من جماعة الصدر؟

لو  من جماعة المنجل والجاكوج ؟

اخي اذا اتريد اتريح نفسك وتريحني سجل شيوعي في واحد ايار وشيعي في محرم !

ضحك المحقق واطلق صراحه بعد ثلاثة ايام من التوقيف الانفرادي .