الأسرى:

سعدات، تطور سلاح الإضراب

وتواطؤ يسار

(2)

عادل سمارة

 

لم أقصد تمييز الرفيق احمد سعدات عن رجال/ونساء المقاومة الذين يخوضون معركة الإضراب المفتوح التي لا تكمن أهميتها وحسب في حصولها بما هي اشتباك ثوري بامتياز، ولكن لأنها معركة بظهر مكشوف، كما اوضحت في الحلقة الأولى لأن الوقوف معهم لم يكن في مستوى القضية وهؤلاء الشرفاء، هذا ناهيك عن متاجرة البعض بدمهم، وخيانة البعض لهذا الدم (انظر حلقة 3).

 

وليس التركيز على سعدات لأنه الأمين العام للجبهة الشعبية، فالاعتقال لا يميز شخصاً عن آخر، الجميع قيد الاستهداف[1].  ولكن يسجل لهذا الرجل أنه ميداني ايضاً. ولكن التركيز عليه لنقله إلى مستشفى الرملة حيث ينتهي الأسرى المضربون حين تدهور صحتهم، وهو وصل هناك لأنه خاض سلسلة من الإضرابات في السابق. كما أن اعتقاله مسألة إشكالية جداً، لأن اعتقاله بدأ من سلطة الحكم الذاتي، ولأن شرطة الإمبريالية المعولمة قد سلمته لشرطة الكيان، مما يؤكد الشغل المشترك دوماً بين جلاوزة الإمبريالية العتيقة بريطانيا، ووليدتها الولايات المتحدة. كما أن لا قضية ضد سعدات بالمفهوم القانوني إذا جاز لنا الحديث عن القانون في حالة استعمار استيطاني من هذا الطراز. ولو كان هناك موقفاً غير متواطىء من الأمم المتحدة ضد شعبنا، لكانت حالة سعدات ورطة أخلاقية لهذا القانون.

 

بالمناسبة، كنت معقِّباً على بحث قبل عدة ايام لمؤسسة نسوية محلية، فردت سيدة على نقدي لابتلاعنا خطاب الأمم المتحدة أو اشتقاق الكثيرين منا لهذا الخطاب والتحول إلى مشتقاتٍ له، بما معناه: هذه مؤسسة دولية ومن المهم التقيد بخطابها ودورها…الخ. وأجبتها، نحن الضحية الأكبر والأقدم لهذه المؤسسة الإمبريالية، فعلى الأقل، قررت هذه المنظمة تعليق عضوية الكيان منذ عام 1948 إلى أن يُعيد الشعب المشرد إلى وطنه، ومع ذلك فالكيان هو أكثر دولة تتمتع بمحاباة الأمم المتحدة.

 

سلاح الإضراب

 

ربما ذكرت بعضاً مما يلي سابقاً، ولكن المناسبة تشي بضرورة ذلك. كان أول إضراب عن الطعام في سجون الاحتلال 1967 في رام الله شهر آذار 1968 حينما أخرجتنا الشرطة للفطور في ساحة المعتقل فإذا برجل ملفوف ببطانية لونها بني فاتح وعليها بقعاً من الدم ويصدر عنه أنين ضعيف للغاية. تحدثت حينها مع الرفيق تيسير قبعة وزملاء آخرين واقترحت الإضراب. ورغم عدم وجود تقاليد إضرابية إلا أن التجاوب كان سريعاً بل في لحظات، هذا رغم أن ظروف المعتقلات كانت آنذاك اشبه بالمجزرة. وقد ذكر ذلك الإضراب د. اسعد عبد الرحمن في كتابه، اوراق سجين. كانت تلك التجربة القصيرة مثابة اختبار عفوي للطبيعة الثورية ورفض الخنوع أو التواطؤ لدى المناضلين، وبالمناسبة كان جميع المعتقلين بتهم المشاركة في الكفاح المسلح. اي لم يكن بيننا مثقفين من الطراز الجاهز للتواطؤ.

 

درس في الأممية من مستشفى سجن الرملة

 

إرسال الرفيق سعدات إلى مستشفى معتقل الرملة استدعى من الذاكرة الإضراب الثاني عن الطعام في تموز 1968، حيث كانت التجربة الثانية. فبعد مطالبات عديدة من قيادة سجن بيت ليد-كفار يونا بالسماح بإدخال الكتب إلى المعتقل، قررنا الإضراب عن الطعام. واتفقنا أن يبدأ الإضراب واحداً من كل قسم (أ، ب،ج- تذكرني هذه الحرف بتقسيم مناطق الضفة بموجب أوسلو، يا للمفارقة!) على أن ابدا أنا أولاً. رفضت الخروج للأكل فنقلت إلى الزنازين. ولكن الزميلين عن القسمين الآخرين لم يأتيا، فقررت الاستمرار. ولكي أُصعَّد الأمر قررت في اليوم الثالث عدم شرب الماء فأتت الشرطة في اليوم الرابع وأرغموني على الحليب بالبرنبيش، وقمت إثرها بإفراغه، وفي اليوم التالي نقلوني إلى سجن الرملة حيث بتُّ ليلتين في النظارة (المعبار) مع 23 سجيناً مدنياً يهودياً. في الليلة الأولى لم أنم قط متوقعاً أن يعتدوا عليّ. ونهار اليوم التالي جيىء بثلاثة سجناء مدنيين فلسطينيين من القدس مطلوبين لمحكمة في عمليات سرقة مشتركة مع سجناء يهود وكنت أعرف الفلسطينيين من سجن رام الله. وبالطبع شعرت بالأمان. فقد كنت صديقاً لهم في سجن رام الله. كان ذلك أن رأيتهم يجلسون في الليل وحدهم مع الرفيق محمد جابر شتا، ابو جابر (هو الآن اسير محرر في الشام مع تبادلات السيد احمد حبريل)  وهو من رفاقنا حيث جُرح في عملية مطار اللد، وحمله الرفيق فايز، وهو محرر كذلك، من منطقة المطار إلى قريتنا بيت عور الفوقا، منطقة رام الله. عرفت أنهم يدخنون الحشيش، فجربته معهم.

 

وفي الليل جلس السجناء اليهود والعرب وأخذوا يغنون لأم كلثوم وإغاني شعبية فلسطينية. فطرأت في ذهني فكرة: طالما أن بين اللصوص علاقات اممية، فلماذا لا تكون بين الماركسيين. وكنت ماركسياً غِرَّاً آنذاك. لكن تجربة الحياة في الأرض المحتلة، والانتقال من الانبهار السطحي بالماركسية والفكر الشيوعي عامة إلى الوعي المعمق بهذه النظرية العظيمة، اوصلني إلى أن اي عمل مشترك مع من يعيش في بنية استيطانية على حساب شعب آخر هو عمل مرفوض ما لم يناضل ضد وجود هذا الكيان وتحديداً من أجل حق العودة إلى البيوت والممتلكات ومختلف المترتبات على ذلك، اي التحرير تحديداً.

 

في اليوم الثالث نُقلت إلى مستشفى سجن الرملة ولكن في زنزانة بجانب المستشفى لأبقى تحت الإشراف من شاويش ممرض من يهود يوغسلافيا، كان يأتي ليسألني عدة مرات : (إيخ اتا مرجيش- أي كيف تشعر). وبعدها ببضعة ايام لا أذكرها تحديداً، سلموني أول كتاب يدخل السجن وهو كتاب “الأحزاب السياسية  تأليف موريس دوفرجيه” والكتاب بالإنجليزية كان من مقررات السنة الثانية في كلية الحقوق والعلوم السياسية والإدارية في الجامعة اللبنانية-الصنايع، حيث كنت طالباً هناك قبل 1967.

 

لقد افادت تجربة هذا الاستعمار الاستيطاني أن بنية كهذه استيطانية عنصرية بيضاء لا يمكن أن تفرز شيوعية حقيقية، وإن مختلف الطبعات والتبريرات والصياغات عن عمل أو نضال مشترك بين يسار يقبل بشرعية مؤسسة صهيونية ويعيش في وطن اغتصبته وبين يسار محلي من شعب طُرد من وطنه هو مسألة مرفوضة.

 

في هذا الصدد، استذكر المراحل التي مررنا بها، وخاصة التلوث بموقف الاتحاد السوفييتي السابق من الكيان الصهيوني وخاصة النقاش في السجن في الخلاف الصيني السوفييتي. ولعل الأخطر هو موقف الأممية الرابعة التي تقر بهذا الكيان إقراراً لا مواربة فيه. لقد كنا مستجِّدين على الفكر الشيوعي:

· سواء من حيث عدم توفر الأدبيات النظرية الحقيقية وليس الصياغات السياسية للتحريفية السوفييتية التي أوقعت بكثير من الشيوعيين الفلسطينيين بدخول الكنيست مما اضر بنضالات الشيوعيين الفلسطينيين في المحتل 1948، او الكتابات الخبيثة للكثيرين من مثقفي الأممية الرابعة المتصهينين، واذكر هنا محمد جعفر وهو تروتسكي عراقي لعب دوراً في إقناع بوش الصغير باحتلال العراق، وصلاح جابر (جلبير اشقر) الذي يعتبر الاعتراف بالكيان أمراً طبيعياً وينادي اليوم باحتلال سوريا.

· أو من حيث غياب مقتدرين في الفكر الشيوعي ليسهلوا علينا تمثُّل ذلك الفكر، بل وجدنا انفسنا مبتدئين من جهة ومطالبين بأن نشرح لغيرنا وهذا اكثر فداحة!!!

 

ولكن يبدو أن التجربة على الجلد، رغم صعوبتها، تقود إلى استنتاجات ومواقف راسخة رصينة. ولذا أزعم أن الموقف الاشتراكي الحقيقي يقوم على جدلية ملتحمة بين العروبة والمشروع الاشتراكي للوطن العربي/ وتحديداً وجوب الوقوف بصلابة في وجه طرح بعض الماركسيين/الشيوعيين/اليساريين المتواطىء ضد القومية العربية مما يضعهم في التحليل الأخير مع الاعتراف بالكيان (حتى لو أخفوا ذلك تكتيكيا)، ومع القطرية ومع سايكس- بيكو.

 

لقد وقف هؤلا ء مع احتلال الولايات المتحدة للعراق، ومع تدمير الناتو ل ليبيا، وها هم مع تدمير سوريا. بل إن مواقفهم من العراق وليبيا لم تعطهم درساً ليقفوا على الأقل على الحياد تجاه سوريا.

 

وربما يكون الدرس بالغ الأهمية في هذا المستوى هو:

 

إن كثيرين من الاتجاه السوفييتي في الشيوعية قد راجعوا مواقفهم من الكيان، وهو تطور لافت وإيجابي. ولكن اللافت أكثر ذلك اللقاء بين كثيرين من التروتسكيين/الأممية الرابعة وبين كثيرين من قيادات قوى الدين السياسي  على: الاعتراف بالكيان (قيادات من قوى الدين السياسي المصرية والتونسية وبالطبع السورية) وقيادات تروتسكية. ولعل الأغرب أن التروتسكيين المقصودين يفاخرون بدعمهم  للمثليين بينما ترفض ذلك قوى الإسلام السياسي، ويزعم التروتسكييون أنهم مع حق المرأة في المساواة بينما قوى الإسلام السياسي تعتبرها ضلعاً قصيرا وقاصراً. فعلام لقاء هؤلاء اليوم؟ اليس المشترك بينهما هو: عداء القومية العربية، والمصلحة في إسقاط سوريا وطنأً وشعباً ونظاما اجتماعيا سياسيا ثقافيا اقتصادياً.

 

ولكن، في النهاية هي قضية الأسرى، التي لا بد من النقد الحامض من اجلها. وكما أشرت في المقالة الأولى، فإن عقد تسوية أو سلام راس المال قد ألقى بالأسرى بين انياب الصهيونية وأبقى على الضفة والقطاع بيد الاحتلال. وعليه، فإن هذه الهبة الواسعة في التضامن مع الأسرى يجب أن تحذر من امرين:

·         أن لا تكون مجرد اغتسال لتطهير الذات في مناسبة هي الحالية ثم تنتهي

·         وأن لا يتوقف العمل والضغط لتدويل قضية الأسرى بإشراف دولي عليهم.

 


[1]   رغم اختلاف الموقف فالاستهداف للجميع يذكرني ببيت الشعر لعنترة:

فشققتُ بالرمح الأصم ثيابه…ليس الكريمُ على القنا بمحرَّمِ