عبداللطيف مهنا
كانت بمثابة المفاجأة لبعض المتابعين العرب، لكنها فحسب، كانت مفاجأة لأولئك الغارقين في تفاصيل المماحكات البينية لدى قوى المستوى السياسي الإسرائيلي بخارطته الخادعة أوذات السيولة الدائمة والإصطفافات سريعة التبدل، وبالأخص منهم أولئك الذين يتأثرون عادةً بما يرد على ألسنة المحللين الإسرائيليين، الذين يمعنون في ملاحقة تلك المماحكات ويتابعونها كشأنٍ داخليٍ هى من سمات الحياة السياسية في الكيان وتعد بعضاً من ملحها، ولكونها بالأساس تمثل حقلاً خصباً لتحليلاتهم المنحازة لهذا الطرف أوذاك، كما أنها قد لا تخلوا من التسلية بالنسبة لجمهورهم من قراء صحف أو مشاهدي تلفزة… الثلاثي، نتنياهو، باراك، وموفاز، توافقوا على تشكيل حكومة إئتلاف هى الأوسع في تاريخ الكيان الصهيوني، بحيث غدا لها كرصيدٍ في ” الكنيست” مامجموعه 94 نائباً من أصل 120 هم أعضاؤه.
في تاريخ هذا الكيان، نادراً ما تكرر مثل هذا النوع من الإئتلافات، وهو في العادة خيار لايتم اللجوء إليه إلا في حالتين، إما لتشكيل حكومة حربٍ، أولمواجهة إنعطافاتٍ كبرى تقتضي إجماعاً في مقاربتها. إذ لم يسبق مثيله إلا في حالاتٍ اربعٍ، واحدة أيام غولدا مئير، وأخرى أيام ليفي أشكول، قبيل حرب 1967، ثم حين إندلاع الإنتفاضتين الفلسطينيتين الأولى والثانية. يعزز من ما لفتنا اليه جمع هذا الإئتلاف لمثل هذه الرؤوس الثلاث التي تطل علينا بوجوهها الإستراتيجية العسكرية، وإن هى في واقع الأمر رؤوس يظل كبيرها رأساً واحداً فحسب هو نتنياهو، فالآخران ضعيفان، باراك بات متآكل الشعبية، وموفاز مع حزبه يعاني بهوتاً إضطره للقبول بحصةٍ متواضعةٍ لم تزد على وزيرٍ بلا حقيبةٍ ونائبٍ لرئيس الحكومة، الأ مر الذي سهَّل على نتنياهو إلحاقهما به.
لقد بدا هذا الإئتلاف لمن يحلو لهم عادةً تصنيف القوى السياسية الإسرائيلية يميناً ووسطاً ويميناً متطرفاً، ونحن لسنا منهم، في صورةٍ دفعتهم لاعتباره تحالفاً بين اليمين واليمين المتطرف، وكأنما في هذا التجمُّع الإستعماري الإستيطاني الإحلالي من هو غير المتطرف. على أية حالٍ لقد تعددت الرؤى وكثرت التحليلات التي عالجت الدوافع من وراء تشكيله، فلاحظ العديدون أن الفائز الأكبر لإتمامه هو نتنياهو، هذا الضارب به عدة عصافيرٍ بحجرٍ واحدٍ، من إولاها، تفادي حل الكنيست والذهاب لانتخاباتٍ مبكرةٍ و ضمان الإستمرار في ولايته حتى نهايتها. وثانيها، التحرر من إبتزازات الأحزاب الصغرى والدينية في تلافه القائم والتخفيف من سطوة ومزايدات ليبرمان. وثالثهما، تمرير الميزانية، ورابعهما، تعديل قانون الخدمة العسكرية. هذا على الصعيد الداخلي، أما الخارجي فقد حق النظر لمثل هذا الإئتلاف كحكومة حرب تذكِّر بما سبقها كما أشرنا، وهى بنتنياهوها وجنراليها باراك وموفاز إنما هى تحضيرللضربة العسكرية الإستباقية التي طال التهديد بها للمشروع النووي الإيراني السلمي بزعم آفاقه العسكرية المضمرة، والتي حديثها التهويلي لم يسحب من التداول الرسمي والإعلامي منذ أن أثيرت المسألة ويتم الحرص على إذكاء الجدل حولها إسرائيلياً وغربياً كلما خبت جذوته، لاسيما قبيل وبعد كل جولة مفاوضات تعقد بين مجموعة 5 + 1 وإيران. وهنا لايفوتنا التذكيربأن موفاز، ذو الأصل اليهودي الإيراني، هو أول من حث على التفرُّد الإسرائيلي بتوجيهها. وهناك من يربط الحدث الإسرائيلي بعدوان مبيت على غزة، أوحرب يُنتوى شنُّها عل حزب الله في لبنان… أحسب أن كل هذه التوقعات هى في حكم الواردة، ليس من هكذا حكومة فحسب، وإنما أصلاً من هكذا كيان بغض النظر عن مسمى ولون من يحكمه، إذ لا من مستبعدٍ ولا من مستغربٍ ولامن مفاجىءٍ من مثل من له طبيعته، اللهم إلا بالنسبة لمن درجوا على تقسيمه إلى يمينٍ ووسطٍ ويسارٍ ومتطرفٍ ومعتدلٍ… لكنما يظل لدينا إحتمالان لابد من إضافتهما وعدم إغفال جديتهما بل التركيز عليهما: الأول، هو أنه ليس إئتلاف حرب فحسب، وإنما أيضاً يأتي في غير بعيد عن ترجمةٍ لرؤيةٍ تقضي بوجوب التهيئة لحالة إستباقية وخطوة إحترازية وترتيبٍ للأوراق إستعداداً لمرحلة جديدة في الصراع العربي الصهيوني، هذا الصراع الذي فشل الإنحراف التفريطي الفلسطينيني، والعجز والتهاون العربي، والتواطوء الدولي، والقوة الإسرائيلية-الغربية الفاجرة، في إنهائه لصالح مخططات تصفية القضية الفلسطينية…إستعداد منهم لمرحلةٍ جديدةٍ ترهص بها التحولات العربية الجارية رغم ضبابية مايشوب راهنها…هذه المقلقة والمثيرة لكوامن الفوبيا الوجودية الإسرائيلية والتي هم أكثر المنشغلين بقرائة إحتمالاتها والتحسب لها.
والثاني، وهو المرتبط بالأول، هو نيَّة العودة للحكاية التسووية التفاوضية مع سلطة رام الله المحتلة، حيث يرى الكثيرون من الإسرائيليين وصهاينة العالم ورعاتهم أنه لا من ظروف أفضل سوف تسنح بعد لفرض تصفية الصراع العربي الصهيوني وشطب القضية الفلسطينية نهائياً أكثر مما هو المتاح الآن، الأمر الذي تلح على وجوبه الضرورة الإستباقية التحوّطية في مواجهة التحولات العربية وتداعياتها على مستقبل الصراع، و التي أقلها أنه لايمكن التكهن المسبق بكنهها… هذا الإحتمال يجب أن يؤخذ بجدية ترتقي إلى مستوى خطورته من قبل كافة رافضي الحلول التصفوية في الساحة الفلسطينية والعربية، لاسيما وهم يسمعون الناطق الرئاسي الأوسلوي نبيل أبوردينة يسارع إلى الدعوة إلى “إغتنام فرصة توسيع الإئتلاف الحكومي” الإسرائيلي لتحقيق مادعاه “إتفاق سلام”… ومع من ؟! مع نتنياهو!!!