عبداللطيف مهنا
أربعة وستون عاماً من النكبة. ذكرى ومرت، وبدا وكأنما الفلسطينيون وحدهم من أحياها. رحلت وكأنما لم تمر بكثير العرب. هؤلاء انشغلوا عن قضيتهم المركزية برزايا قطرياتهم، هربوا منها إلى هوامش تفاصيلهم المزرية… رسمياً، هناك من أشاح الوجه، وهناك من إكتفى بالترحُّم، وأخرون علَّقوا عجزهم وتخاذلهم ولامبالاتهم على مشجب الإنقسام الفلسطيني وكأنما الوحدة المستحيلة ممكنةً بين نقيضين: صامد يقاوم ومساوم يتنازل! والادهى، أن لانعدم من لم يكتفِ بنفض اليد من همِّها بل تواطىء لتصفيتها للتخلص من عبئها…وشعبياً، لا زالت الأمة مغيَّبةً الفعل مختطفة القرار، وإن لاحت إرهاصات تحولاتها آتية لا ريب رغم محاذير بداياتها الغائمة… لم تقل كلمتها المنتظرة بعد…
اربعة وستون عاماً إنقضت، والساحتان الفلسطينية والعربية تلتقيان المناسبة براهنٍ نعرفه وحال لا يسرُّنا شرحه… إرادة المواجهة هزلت، وروح التحدي تهتكت، وعناد التمسُّك بالحقوق شَّفه الوهن، والإلتزام المفترض بوجوب استعادة كامل المغتصب شابه داء التآكل… ومتعهدو تشويه الوعي وتزيين التفريط من مروِّجي أوهام “السلام” المستحيل، ومع من؟! مع هكذا عدو في هكذا صراعٍ وهكذا قضية، وبعد ما أوصلونا إليه وما الحقوه بكرامة أمة، لا زالوا يصولون ويجولون في الساحتين ويختطفون قرارهما !!!
إربعة وستون عاماً جثمت فاستوطنت وجداننا المثلوم، بكل ماعنته، وماحملته، وماترمز اليه، عجاف عقودها ورعاف سنونها ومعاناة أيامها وساعاتها، من أحلامٍ وعذاباتٍ، وآمالٍ وإحباطاتٍ، وانتفاضاتٍ وانكساراتٍ، وكل ما شهدته روزنامتها الدامية من حروبٍ وهزائم وانتصاراتٍ، وما ابتكرته ضروراتها وسمحت به ظروفها واحتملته تعقيداتها من اشكالٍ وتجاربٍ نضاليةٍ، مرت في عديدٍ من المحطات، وكان لها مالها وظل عليها ماعليها… وجميعها، شوَّهتها وبددت سفرملاحمها المتخم بإسطورية بطولاتها وعظيم تضحياتها، ما تبع وما لحق وما روَّج له من أوهامٍ ومراهناتٍ وانحرافاتٍ ومساوماتٍ وتنازلاتٍ، أدى باطلها وأوصل زيفها وجرَّت خطاياها الى ما نحن فيه من حالٍ التقينا بها ذكرى نكبة شعبٍ ومهانة كامل أمةٍ وودَّعناها بما نضح به راهننا البائس، وبانتظار ذكراها الحزينة القادمة…
أربعة وستون عاماً، قالت لنا دقائقها وثوانيها، أما آن الآوان لأن تدركوا أنه ما من سبيل ولا من خيار لكم، أكره الكاره منكم، أم تخاذل الدوني المستلب من متخاذليكم، أم تخلى المتهافت المتخلِّي من بينكم عن ثوابت شعب ومسلمات أمة، أم تواطىء المتواطىء المتآمر بين ظهرانيكم، أو تساقط المتساقط وفرَّط المفرِّط وتنازل المتنازل… لا من سبيل ولا منٍ خيارٍ لكم، سوى العودة الى مربع الصراع الأول، إلى حيث أبجدياته، فحتمية الإشتباك وضروراته مع هكذا عدوٍ تذكِّركم عدوانيته الملازمة لطبيعته والمرافقة لوجوده، صباح مساء، بأن فلسطين وحدها البوصلة، إذ لامن كرامةٍ ولا حريةٍ ولا وحدةٍ لكم، ولا من ديموقراطيةٍ ولا من نهوضٍ أوتقدمٍ أوتنميةٍ ترتجىون، أو حتى مايسمن أويغني ملايينكم من جوعٍ لا يفارقها، على الرغم من كل ما لديكم من إمكاناتٍ وما لكم نظرياً من ثرواتٍ، ما دام مثل هذا العدو، بدوره ووظيفته اللذين أُفتعل وأُختلق من أجل القيام بهما في سياق المشاريع الإستعمارية الغربية المرصودة لوطنكم الكبير، يجثم باقياً في سويداء القلب من خارطتكم الكبرى، هذه المترامية المثخنة تجزئةً وتشرذماً وتفتتاً، والتي بالتالي طالت قوائم أولويات مزقها قطرياتها البائسة وتضاربت … ما دامت فلسطينكم منكوبة مغتصبة، لم تستعيدوها ولم تعودوا لها، ولامن عودة لها ولا لكم إلا بتحريرها…
أربعة وستون عاماً، وفلسطين ظَّلت البوصلة وكان الصراع عليها وسيظل صراع وجودٍ لا حدودٍ، فكم سقطت عروش وانقلبت جيوش واندلعت ثورات واستبدلت شرعيات تحت يافطة الثأر لكرامة الأمة التي أُهدرت باغتصابها، وإعداد العدة لتحرير كاملها من نهرها الى بحرها… وكانت كلمة السر وأيقونة المسيرة في المد القومي وفتيل انجازاته، وكان التخلي عنها هو الإيذان بالنكوص ومهماز كوارث ما بعد الإرتداد الساداتي، ذاك الجالب لما تلاه من مذبحةٍ فعلت بالإرادة السياسية العربية فعلها، وما ألحقه بمصر العرب، دوراً ومكانةً وزعامةً وريادةً في أمتها، وكل هذا الذي من أجل الخلاص من شؤمه ثارت مصر ميدان التحرير وتعيش الآن مخاض 25 يناير، وفي خضمه تشرع باستعادة عروبتها، وبها، بمصر فحسب يعود العرب إلى عروبتهم… ولأنه صراع وجود لاحدود، ويفهمه عدونا ورعاته أكثر منا على أنه صراع إما نحن وإماهو ، كان إخراجهم لمصر منه، ودافعهم لتدمير عراقنا ولاحقاً ليبيانا، ويحاولون الآن تدمير سوريا العرب… وكان تقسيم السودان، وما لم يعد سراً مما يرسمونه من خرائط لتجزئة المجزأ في خارطتنا…
أربعة وستون عاماً على النكبة، ورغم كل ما أمد به عدو الأمة الأكبر، الغرب، وكيله المغروس عنوةً في أحشائنا من اسباب القوة الفاجرة وما كفله له من سبل البقاء والإستمرارية، فسيظل هذا المجافي لكافة حقائق التاريخ والجغرافيا وقيم الإنسانية، هشاً سريع العطب يرزح تحت طائلة مستحكم فوبياه الوجودية المزمنة كجسمٍ غريبٍ مرفوضٍ وملفوظٍ … هذه الأيام، في داخله ضجة أثارها صدور لكتابين لبروفيسور وأستاذ تاريخ في جامعة تل أبيب، بسببهما أُتهم “بالنازية ومعاداة السامية”، وتصله رسائل تهديدٍ ووعيدٍ بأن “أيامه باتت معدوده”، وحمل اليه بريده طرداً إحتوى موادً كيماويةً… لماذا؟
خط البروفيسور اليهودي شلومو زاند في كتابيه الصادرين تباعاً، “متى وكيف أُخترع الشعب اليهودي”، و”كيف أُخترعت أرض إسرائيل”، ما توصَّلت إليه أبحاثه، وخلاصته: “هناك دين يهودي وليس هناك ما يسمى بالشعب اليهودي”، وحكاية نفي الرومان لليهود خرافة، فمعظمهم “ليس لهم علاقة بالأرض التي يسمونها أرض إسرائيل”، و”القومية التي بنيت على أساسها الصهيونية وإنشاء دولة إسرائيل أسطورة أخترعت منذ نحو قرنٍ واحدٍ”، وبالتالي فما يدرَّس من تاريخ للكيان الصهيوني في جامعاته مزوَّر و”بيت من كرتونٍ”، حال الأسس التي قام عليها، والتي”هي أيضاً بيت من كرتون”، ويتنبأ بأن مستجلبوه حال تراجع ما يوفَّر لهم من رفاهيةٍ، أو إحساسهم بما يتهدد أمنهم، فلسوف يأخذون بنصيحة ابراهام بورغ، رئيس الكنيست السابق، لهم بالهجرة والعودة من حيث أتوا… عدد البروفسور اليهودي بعدين من ثلاثةٍ يقوم عليها هذا الكيان الكرتوني إذا ما تداعى أحدهما إنهار، الأسطورة والأمن ولم يذكر ثالثهما، دوره ووظيفته في سياق المشروع الإستعماري الغربي، وبالتالي سر مايقلقه الآن على ضوء ما يقرأه مما تتبدى من إرهاصات تراجعٍ للهيمنة الكونية الأميركية وبدء العد العكسي لأفول الإمبراطورية المتآكلة السطوة… بعد اربعةٍ وستين عاماً من النكبة، من يقو على إيقاف الصراع على فلسطين قبل تحريرها وإجبار محتليها على الأخذ بنصيحة إبراهام بورغ ؟؟!!