فعاليات المنتدى الثقفاي العربي في رام الله المحتلة


زيارتي لغزة عبر الأنفاق: بعض الملاحظات والإستنتاجات

خليل نخلة

 

عقدت في المنتدى الثقافي العربي في رام الله يوم السيت  19 ايار  ندوة تحدث فيها د. خليل نخلة  عن زيارته إلى قطاع غزة عبر الإنفاق. تجربة فريدة وطريفة في مرحلة شديدة الحساسية واتقلبات.

وقد حدث حوار مستفيض بين المتحدث ومجموعة من أعضاء واصدقاء المنتدى. ، وما يلي هو وصف د. نخلة للرحلة كما عاشها: ا

 

ملاحظات سردية

1. الدافع لهذه الزيارة ليس مغامرة بطولية، بل محاولة شخصية متواضعة لكسر الحصار الجغرافي والنفسي والفكري الذي يفرضه المستعمر على جزء غال من شعبي.

2. زرت قطاع غزة بدعوة من مجموعة “التبادل مع غزة” (محرك هذه المجموعة: د. أياد السراج) خلال الفترة 30.4 – 5.5.  تلقيت الدعوة في 15.2 وقبلتها في التاريخ ذاته.

3. عرض علي إحتمالان للدخول.  الإحتمال الأول: الدخول عبر المعبر الرسمي في رفح، أي السفر بالطائرة من مطار اللد إلى مطار القاهرة ومن ثم بالسيارة إلى رفح.  يتطلب هذا الإحتمال التنسيق المسبق مع السفارة الأمريكية في القاهرة لإعطاء إذن بإخلاء المسؤولية (لأنني مسافر على جوازي الأمريكي)، وتنسيق مع مخابرات السلطات المصرية .  الإحتمال الثاني: الدخول عبر الأنفاق، وهذا يتطلب تنسيقا مسبقا مع وزارة الداخلية الفلسطينية (حكومة حماس) ومخابراتها، ويتم بدون أي تنسيق مع السلطات المصرية أو الأمريكية، أو هكذا قيل لي.

4. رفضت الإحتمال الأول إنطلاقا من قناعتي بأنني لست بحاجة للتنسيق الخارجي (خاصة مع أعدائنا) للتفاعل مع شعبي وللتداول في قضايا مصيرية تخصنا جميعا.  وقبلت الإحتمال الثاني منذ البداية، بدون تردد، على أن تقوم الجهة الداعية لي بالتنسيق مع السلطات الفلسطينية ذات الشأن في غزة.

5. إتفقنا على تحديد موعد الزيارة من 30.4-6.5 .  تم التنسيق المحلي (في غزة) خلال شهرنيسان: أرسلت لي بالبريد الإلكتروني رسالة موافقة على دخول غزة (من وزارة الداخلية)، وحجزت سفري من مطار اللد إلى القاهرة، وتبادلنا جميع المعلومات الضرورية: أسماء جميع من لهم علاقة بتنظيم سفري، ومحاضرة في الجامعة الإسلامية، ونماذج من كتاباتي، وصورة مسحية لجواز سفري، وأرقام هواتف وإيميلات، إلخ. منذ تلك اللحظة، بدأ يثيرني (ويقلقني نوعا ما في بعض الأحيان) مستوى علانية وطبيعية تبادل المعلومات على الأثير الإلكتروني المكشوف، إما عبر الجوال أو الإيميل.

6. بشكل عام، دخولي إلى غزة عبر النفق لم يواجه أية عقبات، إلا بعض التأخيرات القليلة في الوقت نتيجة عدم التنسيق المحكم والمسبق.  تركت رام الله متجها إلى مطار اللد الساعة 8:30 صباحا ووصلت غرفتي في الشقة المستأجرة في شارع عمر المختار في غزة حوالي الساعة العاشرة ليلا! هذا المشوار كان يستهلك في أقصى الحدود حوالي ساعتين عبر معبر بيت حانون حتى العام 2001، عندما كنت أعمل وأسافر مع الإتحاد الأوروبي، وقبل ذلك عندما كنت أعمل مع مؤسسة التعاون وأسافر في سيارتي الخاصة.

7. واجهت في خروجي عبر نفس النفق بعض العراقيل التي أدت إلى تأخيري حوالي ثلاث ساعات في مكتب ما يسمى “العمليات المركزية”، “هيئة الحدود” التابع لوزارة الداخلية، نتيجة عدم التنسيق المسبق والتخلف البيروقراطي المدقع في منهجية “العمليات المركزية”! تركت الجامعة الإسلامية مباشرة بعد الإنتهاء من محاضرتي الساعة 12:30 ظهرا ووصلت إلى غرفتي في فندق نوفوتيل في مطار القاهرة الساعة العاشرة مساء.  (تفاصيل الدخول والخروج عبر النفق مضنية وقد تحتاج إلى سردية طويلة سوف لا أزعجكم بها الآن، وإذا كنتم معنيين بالتفاصيل فكتبتها بالإنجليزية وأنا على إستعداد لإرسالها إليكم.  وإذا لديكم الرغبة في معرفة هذه التفاصيل، فيسرني أن أعممها بالعربية).

 

ملاحظات ومشاهدات تحليلية

ما شاهدته وما لم أشاهده

أبدأ بالملاحظات الحياتية “للشؤون الصغيرة”:

1. تمتلء الطرقات بالسيارات القديمة والمكسرة وغير المحافظ عليها، وتغيب بشكل شبه مطلق السيارات الجديدة الفارهة، كما هي الحال في “الفقاعة الوهمية” المسماة رام الله! كما تعج الطرقات بكل أنواع الكارات المجرورة من الحيوانات والمساقة من الأولاد، وفي بعض الحالات رجال في منتصف العمر، أو نساء يسوقن منتوجاتهن من الخضار، إلخ.  وتستعمل هذه الكارات لنقل جميع ما يحتاج للنقل من خضار إلى قناني الماء والكوكا كولا، إلى سلع أخرى توزع على الدكاكين، ومواد البناء ونفايات ورش البناء، إلخ.

2. المأكولات الشعبية (حمص، فول، فلافل) أرخص بحوالي الثلثين من الأسعار التي أدفعها في رام الله.  لكنني فتشت دون فائدة على خبز طابون أو خبز قمح، ولم أجده.  الخبز الوحيد المتوفر هو “الكماج” الصغير، من الطحين الأبيض، الخالي من أي نكهة أم طعم، ولكنه في متناول يد الإنسان الفقير بكميات …

3. لا يمكنك أن تتسوق في دكاكين شارع عمر المختار بشواقل من فئات أكبر من خمسين شيكل! لا يوجد فكة.

4. تنقطع الكهرباء تقريبا يوميا خلال النهار  لسبع أو ثماني ساعات، مما يضطرك لتخطيط مسبق حول شحن الجوال، أو ما تحفظ أو لا تحفظ في الثلاجة، أو متى تحضر فنجان قهوة أو شاي على الغاز الذي يحتاج إلى شرارة كهربائية لإشعاله، إلخ.

5. ولهذا فكل دكانة أو مصلحة صغيرة مهيئة بمولد كهرباء صغير، ففي فترة إنقطاع الكهرباء تمشي خلال النهار على شارع عمر المختار، بطوله وعرضه، وأنت في خضم ضجة متزايدة ومستمرة من صوت هذه المولدات، وإذا أضفت لذلك درجة الحرارة المرتفعة والغبار المتطاير والخانق تجد نفسك في جو مضن ومزعج من التلوث السمعي …

6. الماء من الحنفية في الشقة التي كنت أقيم فيها شديدة الملوحة وبالطبع غير صالحة للشرب.  كنت أفرك أسناني في الصباح ويبقى فمي وكأنه مليء بالملح حتى يتاح لي أن آكل أو أشرب شيئا آخر لتغيير الطعم.  طبعا كنت أشتري الماء المقننة، ولكن ماذا يفعل الشخص العادي الفقير الذي لا يملك الموارد لشراء قناني الماء يوميا، وكيف يشرب؟

7. شاهدت طوابير طويلة من السيارات المصطفة مقابل محطات الوقود تنتظر الوقود المصري الرخيص (حوالي نصف سعر الوقود الإسرائيلي!).  شاهدت أيضا طوابير موازية من التنك أو الغلنات البلاستيكية التي ينتظر أصحابها تعبئتها بالوقود الرخيص (والملوث!) لبيعها في السوق السوداء … ممنوع تصوير أو توثيق هذه الظاهرة.  شاهدت هذه الظاهرة ليس فقط في غزة ولكن في محافظة شمال سيناء في دخولي إلى غزة وخروجي منها.

8. بشكل عام، تغيب ظاهرة “تكنوقراط الأنجزة” المندفعين في كل مكان—كما في رام الله—بكرتات أسمائهم المدندلة من رقابهم ، وبملابسهم الرسمية المميزة! شاهدت عددا قليلا من هؤلاء على مدخل بعض الفنادق …

9. لم أشعر بأية لحظة بتهديد لأمني الشخصي عندما سرت في الشوارع، كما لم ألاحظ أية مظاهر لمجموعات مسلحة.  أخذت الإنطباع بأن مدينة غزة مكان آمن، فقير وغير منتج …

بعض الملاحظات حول “الشؤون الكبيرة”—المصيرية:

 

10. يلاحظ وجود شرخ واضح في الجغرافيا والفكر والخطاب في آن واحد.  يبدو قطاع غزة وكأنه عالم آخر.  وحدة القطاع والضفة وحدة وهمية … يبدو لي أكثر وأكثر بأن القطاع آخذ بالإمتداد جنوبا ليصبح أقرب في اللغة والعلاقات الإجتماعية الإنسانية والمصالح الإقتصادية وطغيان الفكر الديني والتواصل اليومي، إلخ، مع شمال سيناء.  كما يلاحظ بأن محافظة شمال سيناء تعيش في نوع من “الحكم الذاتي المتخيل”، منفصل عن السلطة المركزية في القاهرة، وفي حالة من الصراع والمواجهة معها ومع رموزها (الشرطة والجيش) بشكل شبه يومي.

11. بدأت أتساءل حول ماهية إسقاطات هذا التفتت الجغرافي والشعوري، وحول دور وتخطيط الإستعمار الصهيوني للإستيلاء على الموارد الغازية في هذه المنطقة.  وبدأت أتساءل حول مساهمتنا وتشجيعنا لهذا التفتت والتشرذم، ما دمنا ممعنين في الإصرار على تجزئة فلسطين كحل نهائي، وتخلي تركيزنا على فلسطين التاريخية؟

12. هناك ما وصف بظواهر عملية “طلبنة” المجتمع الراهن في غزة، من حيث إدخال تعليم الشريعة في المدارس، إلخ.  بهذا السياق، جلب إنتباهي يافطة كبيرة على جدار مركز الشرطة للتدريب (الذي قصف في بداية شن الحرب على غزة): “جيل التحرير جيل سينطلق من المساجد”!

13. من الملاحظ جدا بأن هناك إصرار ومثابرة مبدعة للعيش اليومي مع كل هذه الظروف القاهرة، ويبدو بأن هناك شعور بالتآلف والترابط الإجتماعي الإنساني يفوق بدرجات ما ألاحظه وأعيشه في رام الله.

أتمنى بأن تكون فائدة من هذه الملاحظات.