د. سمر الديوب، سورية
صدر عن دار الينابيع في دمشق ديوان للشاعر السوري المقيم في كاليفورنيا سليمان الصدي. وهو يمثل باكورة أعماله الأدبية المطبوعة؛ فقد عُرف بين أبناء الجالية العربية بوصفه شاعراً، وكاتباً صحفياً. وقد جمع في هذا الديوان قصائد مختارة من شعره محورها المرأة والوطن، وآثر أن يطلق على هذا الديوان عنواناً رئيساً هو تراتيل لعينيك، وعنواناً فرعياً هو خواطر اغترابية.
وبما أن هذا الكتاب نتيجة أثر الغربة في نفس الشاعر لا بد من وقفة تعريفية بالاغتراب أولاً، وبعنواني الكتاب ثانياً.
الاغتراب حالة وعي، وفعل اختياري يرمي بثقله على الشاعر، فيشعر أن ذاته تتصدع، وتفقد توازنها، وتحترق بجحيم الوعي، فتضيع في متاهة الحياة.
وفي بلاد الغربة تعاني الذات رحلة التمزق والشتات في جوهرها، فيغدو الاغتراب ضياعاً في عتمة الذات، وتمزقاً في الشعور نتيجة الوعي. ويحدث أن يتحول هذا الشعور إلى شعر، فتهجر الروح الجسد، ويحدث الاغتراب.
كما أن الاغتراب لا يتم من دون اجتماع الوحدة والألم حين تنفصل الذات عن واقعها، وتزداد درجة الوعي التي تدفع إلى الشعور بالضياع. إنه باختصار: معرفة، وألم، وعلو، وضياع ذات، وجنة وجود، وجحيم عدم.
أما التراتيل التي يرفعها شاعرنا لعينيها فهي صلاة عاشق. إنه يرفع التراتيل لعيني المرأة/ الحبيبة، الأم، الابنة، الأرض. فتوحي هذه التراتيل بجو ديني مهيب. أما العينان اللتان تتوجه هذه التراتيل إليهما فهما مستودع أسرار الإنسان –كما يرى علماء النفس والمنظّرون- إذ تستودع الحبيبة في العينين جمالها، والأم حنانها، والابنة براءتها، والشام سحرها…..
وتأتي الصورة التي اختارها الشاعر غلافاً لديوانه لتؤكد هذه العلاقة الحميمية بين الوطن والمرأة. إنها صورة تجمع بين الوطن والمرأة البعيدين مكانياً والقريبين نفسياً. فتنسجم صورة الغلاف والخواطر الاغترابية التي تبين عنواناتها الفرعية علاقة التماهي بين المرأة والوطن: “أنشودة إلى القلب، عندما لا تحبينني، الفارس المجنون، حوران، بغداد، محمد الدرة……..” فتندرج هذه العنوانات في الهم الوطني والخطاب العشقي للمرأة والوطن.
يمكن لنا أن نستنتج بناء على ما سبق أن المرأة والوطن ثنائية تكاملية في حياة هذا الشاعر، يظهرها ديوانه الطافح بمشاعر الحب لهما، فيرى المرأة من خلال الوطن، ويرى الوطن من خلالها. ويغدو الوطن روحه التي تسري في شرايين جسده. فإذا كان بعده عن المرأة قد أتعبه فإن بعده عن الوطن جعل روحه تتصحر، وجعله يعيش في منفى سرمدي. يقول في قصيدة حوران:
حوران ! بعدكِ جَفَّ العمرُ
طحنتِ الغربة ُروحي
وأنا أتأرجَّحُ ما بينَ بوح ٍوكتمان
لم يبقَ مني إلا الحزنُ
لم يبقَ إلا شِعْري فيك
قصائدي أغنياتٌ
لاتستقرُّ في حبال ِصوتي
تحفرُ مسارَها في الأذهان
قصائدي من دونِك عطاش
فكم تعثَّرتُ في غاباتِ الضياع ِ
كم تناثرَتْ أوراقي
في خريفِ المسافاتِ
كم تمنـَّيتُ أن أخلعَ
خمرالسّوادِ عن جَرَّةِ أحزاني
لم تـَذكـُرْكِ روحي مَرَّة ً
إلا شَرَعَتْ عيني بالهملان
لقد قدر عليه أن يعيش ألم الغربة، فتوهج الوطن في داخله توهج الجمر حتى امتد على مساحات جسده، وشغل بحوران ودمشق وبألم البعد عنهما كما شغل مجنون ليلى عن الدنيا بحبها.
ومن جماليات هذا الديوان نقتطف بعض العناصر التي تضفي شعرية مؤثرة في النص الأدبي فتأسر المتلقي، وتشده إلى دائرة أرادها الشاعر:
أ- اعتماد الدهشة في نهايات بعض القصائد. وتعد الدهشة أهم شرط من الشروط الواجب توافرها في الشعر؛ لأنها تُحدث توتراً لدى المتلقي، ومتعة كاشفة بعد فعل القراءة. يقول في الشام:
أبجديَّة ُعشقي سَالت خمرا ً وعسلا ً
ملأت ُأكوابَها من سُكركِ جُملا ً
أنتِ خمري …أنت عشقي ..
فشكرا ً لك … لقد أحييتِ أحلامي
أنتِ على خارطة روحي
عاصمة ٌ توّجَها عشقي
صلاة تلاها قلبي
أرض الأباةِ … موطن الشهداء
منارة في الظلام ِ..
في عروبتكِ يخضرُّ قلبي
في تاريخكِ تنتشي روحي
في أزقَّتكِ أرى جنـَّـتي
دمشقُ يا معجزة َالخالق
نسجها على مهل ٍ…
فكانت درّة َالختام ِ.
ويقول في حوران:
ليت الكونَ يستحيلُ غيما ً
ويمطرُ خيرا ً
على ترابـِكِ
خطأ ً ظنَّ الناسُ عجائبَ الدنيا سبعا ً
بك ِيا ريحانة َحبِّي
عجائبُ الدنيا صرن ثمانيا
ب- اعتماد لغة تتمتع بدرجة عالية من المجاز. وهو الأمر الذي يجعل المتلقي في حال دهشة دائمة. وهي مرحلة مهمة للوصول إلى لذة النص.
أيتها المرأةُ المسكونة ُبحضور ِالغياب
وسؤال ِالزَّهْر ِ، وسحر ِالماء
متى أراك ِ؟!!
لأعثرَ على ضلعي الهاربِ من صدري
لنسافرَ معا ً إلى مجرَّات ٍلم تـُكـْـتـَشـَفْ بعدُ
لتنتشري في فرح ِيقيني
وتغتسلي بماء ِحنيني
أنـَسيْتُ أني شاعر ؟!!!
وكيف أنتظرُ حبيبتي في بقية ِالقهوةِ ؟!
أنا الذي أحيلُ شعري مرايا
وأنا الذي أحيلـُه نساء
كيف ستأتي حبيبتي ؟!
حبيبتي ليست زوبعة ً في فنجان
رَسَمْتُ أجزاءَ جسدِها
على ورق ِالليل
وأخرَجْتُ من الربيع ِ
بطاقة َورد ٍزَيَّـنـَتـْها عيناها
ستأتي التي ستملِكُ مساحاتِ حبّي
التي ستتـَّخِذ ُنوارسُ عينيها
من شواطئي مرساها
أسألُ نفسي ، وأشعرُ أنَّ البحرَ
أضيقُ من دمي
وحينَ ألقاها سأرسلُ شعري
ليكتب هواها .
ت- وفرة الإيقاع الموسيقي الذي يؤثر في المستمع، ويشده إلى الكلمات المضبوطة في جمل متوازنة، أو ضمن قواف مكررة. وهو الأمر الذي يُبقي كلمات القصائد في الذاكرة لسهولة حفظها بسبب الموسيقى الشعرية.
إن من يقرأ الديوان يشعر بحرص الشاعر على أن يضفي على قصائده إيقاعاً موسيقياً مع أنه يدرك أنه ينظم قصيدة النثر المتحلّلة من أي ضابط. لقد آثر الانفتاح الموسيقي على أنغام متعددة بدلاً من الاقتصار على موسيقى البحر الواحد.
أنا مشتاق ٌ إليكِ
أسوقُ الريحَ أمامي
ولن أقف إلا في محطات ذراعيك
تعدّدي ما شئتِ ، أنا وطنـُك.. ومنفاكِ
لأني رجلٌ مقـدّرٌ عليك
أسافرُ في أوردَتِك
وأشتهي الغرقَ في بحيرَتي عينيكِ
أراكِ في كلِّ الوجوه
فمتى سترفعينَ السّـتارَ عن وجهـِك
لتدركي أنـَّـك لن تهربي من صهيل ِحبّي
وأنك تقطنينَ في مساحاتِ جسدي
وأني أبحثُ عن جنـَّـتي بين يديكِ
ث- اللمحات الصوفية التي يشعر بها من يقرأ قصائد الديوان. وهي لمحات متأتية من ثقافة الشاعر الخاصة، والغنى الفكري الذي يتمتع به. فمن الواضح أنه قد قرأ الكثير عن فلسفة الجمال، وعلم النفس، وكتب الأدب. كما أن الواضح أنه قد رفد تجربته الشعرية بروافد ثقافية مختلفة مثل جبران خليل جبران، ونزار قباني وغيرهما مع احتفاظه بخصوصيته الشعرية، وميله إلى المفردات الواضحة والبسيطة، فرسم من أحب بالكلمات:
سافرت حتى محوتُ المرافئ
لكني لعينيكِ كنتُ أعظمَ عاشق ٍ
دمشقُ اعذريني فالصَّمت نـَزَفَ دمعي
لا أريد قصورا ً …
يكفيني بحوران خيامي
فتحتُ كتاب شوقي
وعلقت راية عشقي
وشيّدتُ مملكة أمنياتي
وسيّرتُ فيها مراكبَ هيامي
فـَسَالَ القرنفلُ والزنجبيلُ
وأمطر الليل ماء الحنين
وباحت الريحُ بقصَّة آلامي
إنها فكرة التوحد بالمعشوق. وهي فكرة راجت لدى المتصوفة، كما شاع لديهم استخدام خطاب الغزل العذري في شعرهم الصوفي. وتعيدنا فكرة التوحد بالمعشوقة: المرأة/ الوطن إلى فكرة شاعت في القديم هي فكرة الأُكُر المقسومة التي تقول: إن الله حين خلق الأرواح جعلها أُكُراً ثم قسمها قسمين، وأرسلها إلى الأرض، فشرع كل قسم بالبحث عن قسيمه، وظل يشعر بوجع عشقي بسبب البعد عنه، ولا يشفى من هذا الوجع إلا حين يلتقي نصفه الآخر، فيلتقي النصفان، وتحدث الراحة المنشودة. وهذا ما كان يشعر به وهو بعيد عن الشام/ الحبيبة. وإذا ما عدنا إلى أبسط تعريفات العشق وجدنا أنه نار متأججة في القلب من طرف تجاه طرف آخر، ولا تنطفئ هذه النار إلا باتحاد الطرفين. وفي هذا الكلام الذي تؤيده الأشعار الموجودة في الديوان ما فيه من اللمحات الصوفية.
ج-وفرة الصور الشعرية التي تخرج عن المألوف؛ لذا أتت مدهشة، مولِّدة من اللفظ العادي دلالات مجنّحة، تحمل المستمع إلى بحر من الخيال. ألا يفترض بالشعر أن يحملنا على جناح من الخيال، ويحلق بنا بعيداً في سماء من الرؤى، تطرزها نجوم زاهرة من صنع أحلامنا، ونسج عقولنا؟
وكيف لا؟ أليس الشعر فناً، والفن متعة وفائدة، والصورة خير طريق توصلنا إلى ذلك؛ إذ تدغدغ مشاعرنا، وتنساب إلى أرواحنا، بل تعبر إلى أعماق المتلقي، فيسبح في نشوة عارمة تأخذ بمجامع قلبه، وتهز وجدانه.
ذلك هو الشاعر الفنان… إنه مبدع في تصويره شأنه شأن النحات والرسام، لكن مادة هذا الشاعر هي الكلمات الصادرة عن نفسه المزدحمة بالأفكار والعواطف. ومن هنا غدت الصورة وسيلة إلى إخراج العاطفة إلى الحيز المرئي، وإلى بيان مقدرته الفنية التي تحمل رؤيته للكون، وفلسفته في الحياة، وتحمل أيضاً اللاشعور الجمعي والفردي، والإرث الرمزي. فهي جوهر التعبير الفني.
لأني مدن ٌمن النهايات
لأني صوتُ انهيار ٍ، وأنتِ صمتٌ قاتلٌ
فاحذري اجتياحَ قلبي
واحذري تفجُّري
إن لم يكن شلالُ شَعْركِ بحري
وشفتاكِ جزيرتي
فلا كنتُ ، ولا كانت
مساحة ُعشقي لبحار ِعينيك
ولا ثارتِ النارُ على شفتي
اشتعالا ً بحنيني
إني التقيتـُكِ في خريفِ ضلالتي
لا شكَّ انتصرَ من تاهَ في عينيك !!!
وأخيراً: تراتيل لعينيك فضاءات عشق للمرأة والوطن، جرح مبدع يتألم لما يجري على الأرض العربية، يعيش أشواقه الروحية وتراتيله؛ ليشع الأمان، وينبثق الضياء. فمن المرأة والوطن تبدأ معاناته، وإليهما تنتهي. هما ألمه، ومنهما شفاء نفسه. وبقصائده عنهما يحوِّل أمانيه كلها إلى شعر، أليس الشعر هو الذي يجوهر فينا إنسانيتنا؟!