حزام العملية السياسية العراقية ناسف!

جمال محمد تقي

 

انتهت العملية العسكرية الامريكية في العراق بعد ان خرجت من رحمها عملية سياسية استخلفتها في تحقيق ما استوجب مداورته مستقبليا، ولاجل غير مسمى!

اكثر من تسعة اعوام مضت على انطلاقة تلك العملية السياسية وما زال الوضع العراقي برمته يعيش حالة من التأزم والاختناق والتدهور والانحطاط، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وامنيا، مما يعني ان هناك خللا جوهريا في معادلاتها وفي اسسها واهدافها، وبما ان لكل عملية ومهما كان نوعها، نتائج على اساسها يتم الحكم عليها بالنجاح او الفشل، فان مؤشرات النتائج في العملية السياسية الجارية تؤشر وباضطراد الى انها رفيقة دائمة للفشل المطبق!

ليس هناك زمن مفتوح لاي عملية يجري تجربة مفاعيلها باتجاه تبني ما يلزم منها او نبذه، وان وجد فليس لوجوده غير معنى واحد، هو دورانها بحلقة مفرغة .

ان مقياس النجاح هو تحول اهدافها الى واقع متأصل ومجرب، واما الفشل الحاصل فهو مستدام فيها وعليه فهو مدعاة للبحث عن البدائل التي تحل محلها .

يبدو ان جميع القوى المنضوية تحت خيمة ما يسمى بالعملية السياسية ومنذ بداية الاحتلال وحتى بداية عام 2012 حيث اكتمال سحب القوات الامريكية من العراق وبالتالي انتهاء الوجه العسكري الشامل من عملية تحرير العراق، وجدت نفسها منساقة بالكامل لنهج المضاربة والمغالبة كبديل عن نهج المغانمة والمشاركة والتي شرعتها شريعة المحاصصة السياسية طائفيا واثنيا ومناطقيا، برغم من ان المحاصصة ما زالت هي القاسم المشترك الاعظم لشبح الدولة القائم وفي الحالتين، لكن تلك المحاصصة تتآكل تدريجيا لصالح صعود نجم الغانم الاكبر، وبالتالي الرابح الاكبر، مما يجعل الامر وكأنه عودة للصيغة النمطية  للسلطة في الدولة المنحلة، وبفارق وحيد هووسيلة التحقق، فالوسيلة هنا ادوات العملية السياسية المتوافق عليها من جميع الفرقاء، من دستور وانتخابات ومفوضيات مستقلة، في دولة فدرالية وبحكم برلماني، اما الوسيلة في الدولة المنحلة فكانت الانقلاب العسكري في دولة الحكم الشمولي!

الرابح الاكبر بين المتغانمين يواجه ازمة مأزقية مستفحلة مع من يفترض بهم شركاء له، وهو في محاججاته معهم يرفع الدستور كقميص عثمان بوجههم وبوجه اتهاماتهم له بالفردية والديكتاتورية، ويردد على اسماعهم انه باتجاه بناء دولة القانون، التي تتسمى كتلته النيابية بالمسمى ذاته، وهو نفسه وفي اماكن اخرى يعلن بان الدستور ذاته بحاجة لتعديل وتهذيب لينسجم مع انبثاق دولة عصرية متماسكة تستطيع مجاراة التحديات التي تحيط بها، فلا يصح والكلام له ان تكون الاطراف اقوى من المركز ولا يصح ان تكون الدولة مهلهلة باقاليم غير مقيدة بشروط والتزامات الدولة المركزية، الحقيقة ان في منطقه هذا منطق، ولكنه نفسه من شارك بتمرير هذا المنطق بذريعة الخشية من عودة الحكم الحديدي الذي يفرز حتما من يجلس على هرمه وبصلاحيات حاكم بحكم الاكثرية البرلمانية، ليعيد انتاج حكمه وحكم حزبه مع كل دورة اعادة، وهو نفسه من طبل للاستفتاء على الدستور واقراره، برغم لا شرعية لتمريره، وبحسب الشروط التي نص عليها قانون الاستفتاء نفسه!

ياترى هل سيكون موقفه هذا هو نفسه ازاء علاوي اذا فعل كما يفعل هو الان ؟ ام ان العلة تكمن في من يقود السلطة لان في القيادة مغنم لا يتوافر للمغتنمين الاخرين، الا وهو القدرة على اعادة انتاج المغانم والتحكم بمغانم الاخرين، خاصة وان السلطة في عراق اليوم هي من تبني الدولة وليس العكس ؟

الهدف غير المعلن للرابح الاول هو جعل حزب الدعوة الحزب الحاكم والدائم في السلطة عبر الانتخابات او التوافقات وبكل الوسائل المتاحة، المضروبة وغير المضروبة، وللفوز بذلك، لابد من استخدام ثقل السلطة من اموال واعمال واجهزة امنية وقضائية واعلامية تجر له المصوتين للحصول على اكبر حصة صوتية مقررة لحكم البلاد، وعلى هذا الطريق توجب تقزيم احزاب الخندق الطائفي الواحد، وجعلها تسير بفلك سلطة الدعوة وبتوافقات مرجعية عراقية ايرانية، مع عدم قطع حبال الود تجاه الامريكان ومحاولة للتوفيق بين ايجابية العلائق بين الطرفين، واظهار حكومة العراق كطرف محايد يجاري جار قوي ومؤثر، بنفس الوقت الذي يقيم فيه علاقات شراكة مع الجانب الامريكي، ومن نفس المنطلق ينطلق مالك حزب الدعوة لتشتيت القوى السياسية الفاعلة في الجانب السني، ووضعها دائما في ظل التخندقات المكوناتية، وعلى الصعيد الكردي يعمل لاحتواء تعجرف المتشددين بينهم بطول بال وتأني بغرض تهذيب تجاوزاتهم، ومن ثم الاستثمار بخلافاتهم وتسليط الضغط الايراني لابتزازهم وتراجعهم، وهذا كله يحدث الان حيث نتلمس التباين بين موقفي الطالباني والبرزاني ازاء حكومة المالكي، ومن ثم تكرار التعنيف المبطن من قبل المسؤولين الايرانيين للبرزاني!

القائمة العراقية والاكراد وحتى الصدريون، متأكدون جميعا بان اي انتخابات قادمة وبالاوضاع القائمة التي جعلت من حزب الدعوة وقائمة دولة القانون التابعة له يسيطرون على مجمل المفاصل الاجرائية في السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، والتي تعاني اصلا من التداخل وعدم الاستقلال، حتى انه لم يتبقى منها اي جهة مستقلة بالمعنى المهني والسياسي والاداري، من مجلس القضاء الاعلى الى هيئة النزاهة الى الاعلام الى مفوضية الانتخابات والان تدور الدوائر حول البنك المركزي لجعله مرتبطا بمكتب رئيس الوزراء، سوف تعيد انتاج سلطة حزب الدعوة وبشكل اقوى مما كان عليه الحال في الدورة الماضية!

ان تفاعلات المتغيرات الاقليمية والدولية وتأثيراتها المباشرة على الساحة العراقية ساهمت بتجلي فاقع للصراعات المشتدة بالسر والعلن بين فرقاء العملية السياسية، فعلاوي والهاشمي ربطا رفضهما للتهميش وخشيتهما من الافلاس التام لاحقا، بتحالف القوى الاقليمية الطائفية، تركيا ودول الخليج، الداعية لتفكيك التحالف الايراني السوري من خلال اسقاط نظام الاسد بواسطة الاستثمار بالحراك الشعبي المعارض فيها وبدفع حلف الناتو لحسم الامر على غرار ما جرى في ليبيا، وهو بذلك حليف لتركيا ومساعيها ومناويء لايران والمالكي الذي يجاري الموقف الايراني بشأن سوريا، وعلى نفس المنحى اشتركت وتخاصمت مواقف قوى العملية السياسية من مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في بغداد، اما البرزاني فقد تميز عن الطالباني بانخراطه شبه العلني بالتحالف الداعي لاسقاط نظام الاسد ليتوج تناغمه مع السياسة التركية بخصوص الموقف من حزب العمال ومن الانفتاح غير المسبوق اقتصاديا على الشركات التركية، وصولا الى السعي للحصول على موافقة تركية لمد انبوب كردستاني عبر اراضيها لغرض تصدير النفط خارج نطاق سيطرة حكومة بغداد!

لم يبقى غير الصدريين كمنافسين اقوياء داخل التحالف الوطني الذي تبنى ترشيح المالكي بعد تقزم دور المجلس الاعلى وحزب الفضيلة، وللتيار 40 نائبا في البرلمان وكانت له مواجهات حامية مع حكومة المالكي الاولى لكنه عاد واتسق معها طائفيا في الانتخابات الاخيرة، ودوافعه الانتقادية المباشرة والقوية للمالكي نابعة من خشيته على شعبيته التي قد تتصدع او تتراجع ازاء طغيان هيمنة حزب الدعوة على السلطة وعلى المتعاملين معها من الاهالي وخاصة في المناطق الشيعية، فتحميل المالكي مسؤولية الاخفاقات القائمة وفضح المحسوبين عليه بدعوى الفساد، يبقي للصدريين شيئا يلوذون به امام ناخبيهم هذا اذا عرفنا بان هناك تطابقا في المواقف بين الصدر والمالكي ازاء ايران وسوريا والبحرين، وعليه فان مواقف الصدر المتضامنة مع البرزاني وعلاوي لن تذهب ابعد مما هي عليه لان المرجع الذي سيستفتيه الصدر هو نفسه المرجع الذي يشد على ايادي المالكي!

ليس المتباكون على الديمقراطية والدستور سوى متذرعين من اجل الحصول على المزيد من المكاسب وهم عازمون على تحجيم مكاسب المالكي ليس حبا بالديمقراطية التي لا يعرفوها مثلما لا يعرفها غريمهم، لانهم انفسهم عناوين للتفرد وحب السلطة ومغانمها، والرابح الاكبر بدوره لن يتنازل عن مكاسبه المكتسبة، وهو على استعداد لتجميد العمل بالدستور نفسه اذا وجد في تفسيراته ما يعين الاخرين عليه، ربما سيتوافق الفرقاء على هدنة جديدة لكنها لن تكون حلا للاستعصاء القائم والذي ختم العملية بمجملها بختم الفشل .

ومن كل ما تقدم ايضا نستنتج بان المهندس الذي هندس العملية السياسية التي افرزت ما افرزته من تمزق وفتن وفوضى وفساد واقصاء وتبعية، كان قد حزمها مسبقا بكل تفاصيل نسفها، ليكون النسف قابلة مأذونة لتقسيم العراق، وهو المطلوب امريكيا وان بعد حين .