عماد مفرح
مع إنجاز الحراك الشعبي بعض المكتسبات العملية في بعض البلدان، التي شهدت ربيع الثورات العربية، بات من الضروري السؤال عن أفق العلمانية في هذا الربيع، خاصة أن الكثير من الأقليات، تعزّز لديها هاجس الخوف والزوال، وباتت تتطلع بريبة إلى مطالب الحرية والمساواة، التي أفضت إلى إجراء انتخابات، كان للانتماء الديني والهوية الثقافية، الصوت الأبرز في نتائجها.
يعتقد البعض أنّ فرص إشاعة الفكر العلمانيّ تضيق يوما بعد يوم، مع وصول التيارات الإسلامية إلى الحكم، غافلة المعطيات الجديدة من تنامي الحراك الاجتماعي، وممارستها لدورها السياسي، وإمكانية انقلاب الأمور على التيارات الإسلامية، في حال عدم قدرتها على تغيير الواقع لصالح الشرائح المنتفضة، هذا إذا فرضنا أن مرحلة وصول الإسلاميين إلى الحكم، هي المرحلة الثانية من مرحلة التحولات التي فرضها الربيع العربي، ودخول المجتمع في مرحلة ممارسة السياسية واستحقاقاتها.
وفي ظلّ الظروف الراهنة وحساسيتها، حيث لا يمكن فصل مطلب الحرية والمساواة عن مطلب العلمانية، بكونها الإطار الأكثر توازنا، في توسيع قاعدة الهويات الوطنية وتحييد الانتماءات القائمة على المعتقد، بغية تجاوز الأطر العصبوية الباحثة عن حلول خاصة، والمرتبطة برغبة الخلاص كمفهوم ديني، أساسها بنى طائفية انفعالية، تقدس التاريخ وتمجد المستقبل، دون الاعتراف بالحاضر ومحدداته.
اللافت أنّ أفق العلمانية خلال المرحلة القامة، مرتبط بقدرة العلمانيين أنفسهم في قراءة الواقع الجديد، وتخلصهم من رجس الأيديولوجيات وأخطاء الماضي. حيث عانت العلمانية من احتكارها إيديولوجيا، لصالح أهداف خفية، انساقت وراء الخوف من احتكار تيار ديني بعينه للواقع السياسي. مما حدا بها إلى الالتجاء إلى فكرة العلمانية بهاجس رومانسي من دون ممارستها، والنظر إليها فقط من باب فض النزاعات الطائفية والنخبوية. وبالتالي بدت فكرة تبني العلمانية نابعة من رؤية شبه طائفية، لمنازعة الأكثرية العددية، حيث الخوف من المستقبل، وضرورة الاحتماء بالقوة وسلطة الاستبداد، بدل المساهمة في بناء أكثرية وطنية جديدة تؤسس لأنماط علمانية وديمقراطية.
خلال فترة الاستبداد والاغتيال الممنهج للشخصية السياسية، تحولت العلمانية إلى مذهب منكفئ على نفسه، لصالح تعزيز دور الانتماءات ما قبل الوطنية، القائمة على رابطة الدم والنسب والطائفة، وأُعيد الفرد إلى حاضنته الطبيعية للانتماء، واحتكر الدين روح الفقراء وتطلعات الناس، كرأس مال يقدم الخلاص والتوازن النفسي والاجتماعي وفق أجوبة جاهزة لأسئلة مصيرية ومقلقة.
واقع الحال أن كل التيارات الأيديولوجية الشمولية، السلطوية منها أو المعارضة، كان يعتمل في داخلها بنى دينية من حيث التفكير والتعاطي مع النفس، مستغنية عن الأخر فكريا وعضويا، متوهمة الاكتمال والاكتفاء، عبر تشكيل فضاء ديني حول تصرفاتها ومواقفها وأرائها، تخفي فشلها العملي خلف شعارات عامة، متمركزة حول مزاياها الثانوية، ذات الصيغ الصراعية، معطوفة على البدايات وذهنية الآباء الأولين. وكلما زاحمها الواقع بتغيراته وضروراته، تشددت أكثر في إنكارها للواقع ومحدداته.
حددت هذه الملامح، العلمانية في منطقنا، كملاذ وخلاص بحدّ ذاته، واعتباره دينا آخر في مواجهة المدّ الديني التقليدي، دون تقديم رؤية واضحة وبديلة للواقع، لتصبح العلمانية ونهجها، ضحية لتجاذب الصراع السلطوي المغلف بوجه سياسي متحضّر، زاد من إشكالاتها، مقاضاتها بالدين، كخيار أيديولوجي، وعدم التعاطي معها على أنها نهج وسلوك سياسي، قادر على استيعاب واحتواء الدين، ومحاربة العصبوية التي تحاول جمع البنى مع بعضها، ومنع انفصالها، حيث يصبح المعتقد والسياسي والاجتماعي والقيمي، كلا لا يتجزّأ.
تظهر الحاجة الموضوعية إلى العلمانية من خلال قدرتها ومساعدتها في تشكيل دولة الأمة وبناها، وتحييد الانتماءات ما قبل الوطنية، وإبراز محددها السياسي والثقافي الدنيوي على حساب محددها الديني، وتنظيم علاقة الدولة مع المكونات الاجتماعية، بما يشتمل على سيادة تلك المكونات وحرمة كرامتها الإنسانية، واحترام الاختلافات والتباينات، كشرط لاتصال الأمة مع ذاتها، وضمان استمرارية حياتها المعاصرة والانفتاح على العالم وعلى الآخر.
حقيقة الأمر، أنّ نهج العلمانية يختلف عن نهج الدين، في تجرده من اعتبارات تتعلق بالبنية العصبوية المتمركزة حول المعتقد، وما يتبعه من الطقوس وأساطير وعبادات، على حساب سياق ثقافي واسع يتم فيه فصل الدولة وبناها عن الدين. تسهم في تطوير المنظومة الرمزية والقيمية لدى التكوينات الاجتماعية، وتحفيزها على استيعاب شروط حياتها وامتلاك واقعها، وعدم الارتهان لاستثمار منظومة الرموز الثقافية وفق منطق ديني يفضي بكل الأحوال إلى منطق طائفي، مرتبط بأنانية طبيعية، مسلوبة من الإرادة، ومركونة إلى الغيبية والثقافة المسكونة بهاجس الموت والخطايا.
عزّز تعاطي العلمانيين بروح عدائية عقيمة اتجاه التيارات الدينية، دون تقديم البديل المعرفي والسياسي والعلمي، من سوء التفاهم الاجتماعي للنهج العلماني، وزاده تعقيد الأوضاع باستيلاء العسكر على السلطة، وتحويل نظم الحكم إلى نظم سلطوية أسست لطغيان الدولة وانكفاء المجتمع، مع ظهور تناقضات جوهرية بين الخطاب الأيديولوجي والمقتضيات السياسية وضرورة التغيير، التي استثمرتها التيارات الدينية، لتقديم نفسها كأيديولوجية للخلاص والحل. بينما اتجهت التيارات العلمانية إلى التقوقع والاستعلاء، بخطاب نخبوي مرتبط بنظرتها الطليعية إلى نفسها، وبات من الطبيعي أن تملأ الساحة الخاوية من العمل والفعل السياسي، قوى تقليدية محافظة.
ومع ضبابية موقعها وواقعها، فضلت القوى العلمانية مواجهة الأصولية على مواجهة الاستبداد ومظاهره. وانطوت تحت عقدة الأقليات، وفصول الترهيب، وممارسات النظم المستبدة ذات الأسس العسكرية، المكرسة للتباينات عبر استعاضة الديمقراطية بالمحاصصة الطائفية.
الواضح، أنه لا يمكن إشاعة الفكر العلماني على أسس الاستبداد وآلياته، أو حتى من خلال التحالف مع القوى السلطوية المستبدة، لأنّ من شأن القهر والخوف، خلق حالة من الانفصام الوجداني، ومنع ظهور توجه التكوينات الاجتماعية، حيث تصبح العلمانية منجزةٌ على مستوى الشعارات والمظاهر، ومستعرة وغير مفهومة على مستوى القاعدة الشعبية.
مختصر القول، لا يمكن الوصول إلى دولة علمانية يتم فيها الفصل بين الدين والدولة دون صياغة مبادئ وطنية جديدة، يمكن أن يكون الحراك الشعبي والربيع العربي أحد أهمّ تجلياته، من خلال العمل على تحويل الدولة الأمنية المستبدة إلى دولة الأمة، اجتماعيا وسياسيا، وتحفيز كل الإمكانات للوصول إلى ثقافة ديمقراطية يتم فيها التميز بين الأمة السياسية والأمة الدينية، كشرط أساسي لعلمانية الدولة، وتحويل مفهوم الدولة من إطار غيبي إلى إطار وضعي.
تستوجب العلمانية النهوض الوطني الشامل، المادي والسياسي والثقافي، وتخلص الأفراد من عقلية الجماعات، والبحث في الروابط البدائية للانتماء عن الاحتماء والتماهي. الأمر الذي تضمنها الدولة الواقفة على مسافة واحدة من كل التكوينات والآراء والتباينات الاجتماعية، ذات الروابط الجديدة، أساسها مبدأ المواطنة، الكفيل بإحالة الانقسامات الدينية والطائفية إلى مرتبة ثانوية، ويؤسس لقواعد سياسية مبنية على المساواة أمام القانون والعقد الاجتماعي الجديد، فالعلمانية وحدها كفيلة بنزع التوترات السلبية المتراكمة في بنى الدولة القديمة، المبنية على الفساد والإفساد والمحسوبيات، وهي المساحة الأكثر استيعابا لجميع الفئات الاجتماعية والسياسية المُشكلة للدولة الأمة.
الواضح أن أفق العلمانية يتّسع أكثر في واقعنا الراهن، في ظلّ الحراك الشعبي والاجتماعي الذي أعاد السياسة إلى المجتمع بصيغ ديمقراطية، وبالتالي تأسيس الوطنية والهوية الجديدة، والتي لا يمكن أن تنحصر في انتماء ديني بعينه يخطف الدولة إلى خارج التاريخ والمستقبل.
:::::
موقع “الأوان”
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.