الانسحاب إلى الداخل
عادل سمارة
في نحت المصطلح وتحرير المعنى
تناقش هذه السلسلة مفاهيم ومصطلحات، وضعتُها واستخدمتُها على فترات متفاوتة، ولا ازعم أنها ثوابتاً لا لديَّ شخصياً ولا لدى الزمن. ولكنها محاولات لإعطاء معنى لأحداث وموضوعات وحتى لمفردات تتطلب ذلك. ليس هذا نحت لغة أخرى مثلاً كما زعمت النسويات الراديكاليات بخلق لغة ضد ذكورية فاصطدمن بحائط أدى إلى الصلع الفكري، ولا كما يزعم من يتهربون من الفكر الشيوعي بتهمة أنه –اوروبي- فيرفضون أدواته في التحليل ويحاولون خلق أدوات أو لغة أخرى، نحن بانتظار إنتاجهم!
اللغة نتاج البشرية، والعبرة في تحميل المعنى وتحرير الأدوات. هذه محاولة لتحرير المعنى من أجل تحرر الإنسان، هي إعلان انفلات اللغة وتحررها من قيود فُرضت عليها سواء من مفكرين/ات أو مؤسسات، اي خروجاً على التعليب. وعليه، فهذه المعاني مفتوحة سواء على تطورها/ تطويرها من الكاتب او اي قارىء.
“كنعان”
* * *
يرتد تبلور هذا المصطلح لديّْ، إلى ظروف الحياة والعمل عموماً والعمل السرِّي كذلك تحت الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين حيث يكون الرد على سياسات هذا المستعمِر ببلورة استراتيجية أخرى هي الحياة مقاومة، وليس المقصود بالحياة مقاومة مجرد رد فعل على الاحتلال بل حضور الوجود الشعبي بمحتوياته الثقافية وقدرته المادية من أجل التصدي للمستعمِر. فالوجود الموضوعي الحي للشعب قائم قبل وجود الاحتلال. والتصدي إذن هو حلقة من تطورات هذا الوجود واستنهاض قواه الكامنة مما يعني أن: ليس فعل التصدي او المقاومة نتاجاً لوجود الاحتلال بل هي قوة دفع الكمون الداخلي الذي لا بد ان يقاوم هذا الطارىء.
ما زلت أعتقد أن بلورةهذا المصطلح هو نتاج آليات التفكير والعمل السرِّي في ظروف المقاومة.
استخدمتَه للمرة الأولى في ورقة بعنوان “مسرح المناطق المحتلة وآفاق التحول من مسرح مقاوم إلى مسرح قومي”، قدمتها ونشرت في كتاب المهرجان الوطني الأول للأدب الفلسطيني في الأرض المحتلة ، القدس 15-18 آب 1982، نشر جمعية الملتقى الفكري العربي-القدس، دائرة الكتاب) حيث ورد فيها:
“تحت الاحتلال كما هو مألوف يزداد البحث عن الهوية وتثبيتها، ويتم الرجوع إلى التراث وإحياؤه ويتم تناسي الخلافات وتجميد الصراعات. كل هذا يمكن تسميته بعملية الانسحاب داخل الذات إعداداً لانطلاقة سليمة خارجها. وهنا يجب التوضيح ان العودة لكل هذه الأمور، وإن محاولة الوثوب ثانية تشترطان موضوعياً لنجاحهما بناء الأشياء على أرضية من الواقع المادي صحيحة وسليمة”(ص 81).
لاحقاً، كنت أُعدُّ أطروحة الدكتوراة في جامعة إكزترفي بريطانيا 1987، تَركز في ذهني برادايم التنمية بالحماية الشعبية، وحين عُدت إلى الأراضي المحتلة 4 أكتوبر 1987 شاهدت المناخ الشعبي المتأزُّم مما كرَّس لدي أهمية هذا البرادايم. بعدها بشهرين كانت الانتفاضة الفلسطينية الأولى وهي التي وفَّرت التأكيد الشعبي للحماية الشعبية، وكانت بدايتها الأولى قيام العمال بمقاطعة العمل داخل الكيان الصهيوني الإشكنازي وهذا تضمن مقاطعة منتجاته وتلت ذلك مقاطعة شعبية لمنتجات الاحتلال، اي الوعي بالاستهلاك أو الاستهلاك الواعي. وهذا ما اعاد اهتمامي بالانسحاب إلى الداخل لأنه، اي الانسحاب العمالي إلى الداخل، مقدمة الفعل الانتفاضي الذي تحول إلى:
· اشتباك شعبي (رجالا ونساء على قدم المساواة مع المباراة ايضاً) ومتواصل مع قوات الاحتلال
· وهذا خلق مناخاً “ديمقراطياً” بالمفهوم النسبي بمعنى مشاغلة الاحتلال عبر رجمه بالحجارة في كل مكان مما أشغل قيادته عن التنبه لتفكيك مبادرات التنمية بالحماية الشعبية على مستوى الأحياء والتعاونيات والعودة للأرض…الخ حيث انخرطت عساكره في عمليات قمع في كل قرية ومخيم ومدينة وحارة.
لاحقاً كتبت : ” والانسحاب إلى الداخل على شكل إيقاف الاستهلاك من منتجات مستوردة من الاحتلال او الخارج ، ومقاطعة المنتجات كلا هذين المستويين من الانسحاب من مكونات الحماية الشعبية وليستا استراتيجية قائمة بذاتها او بديلة هي موقف ديمقراطي تقدمي من الجماهير وهذا مختلف عن قرار فك الارتباط بما هو موقف رسمي يخلو من الديمقراطية كما حصل في الاتحاد السوقييتي ويتمتع بإشراك غير شامل كما هو في الصين الشعبية” ( التنمية بالحماية الشعبية، منشورات مركز الزهراء 1990 142-43)
أوصلتني قراءة الواقع إلى أن الانسحاب إلى الداخل كجزء من برادايم التنمية بالحماية الشعبية هو مشروع كفاحي طبقي (فالطبقة العاملة هي التي بدأت ذلك) من أجل قضية قومية وصولاً في النهاية إلى هيمنة الطبقات الشعبية بمعنى أن هذا النضال الطبقي ليس مكرساً لخدمة الراسمالية، بل يبدأ بتقويض واقتلاع الاحتلال، ومن ثم تجاوز راس المال التابع وصولاً في حالات الاستقلال الحقيقي إلى الهدف بعيد المدى اي الهدف الاشتراكي.
وأود هنا تركيز حقيقتين:
الأولى: إن المناخ والفعل المقاوِم ضد المستعمِر، في حالة الأرض المحتلة 1967، هي التي مكَّنت العمال من الانسحاب إلى الداخل، ولكن الغدر بالانتفاضة والتورط في اتفاق أوسلو وبروتوكول باريس وما تلاهما هو الذي قتل هذه الروح وذلك التوثب إلى درجة أن ليس الآن في هذه الأرض المحتلة حركة عمالية. هذا يثير السؤال: كيف كان العمال ؟ وكيف صاروا…ولماذا.
والثانية: اذكر في شهر آذار 1969، جُلبت للتحقيق من سجن بيت ليد-كفار يونا بالعبرية، إلى سجن المسكوبية في القدس إثر اعتقال مجموعة من الجبهة الشعبية التي كنت معتقلاً ضمن معتقليها ومن ثم إلى سجن رام الله. كان ذلك بعد 17 شهراً في السجن فوقعت في يدي في الإكسات مجلة نيوزويك وبها تقرير طويل عن ثورة الطلاب 1968 في أوروبا الغربية خاصة، وكما اذكر كان مذكوراً بها كذلك عن تشيكوسلوفاكيا ومنها فهمت بإنجليزتي المطربشة حتى الآن أن هناك ثورة طلابية في العالم . ودُهشت بذلك الحدث الذي لم نسمع به في السجن قط. وهذا اثار في ذهني أطروحات هربرت ماركوزة الذي عمل ما بين 1942-1950 كباحث لدى الحكومة الأميركية وهو ربما الأب الروحي لمدرسة فرانكفورت وكان قد عمل ما بين 1942-1950 كباحث لدى الحكومة الأميركية. في كتابه الإنسان ذو البعد الواحد (1964) وجه نقدا شديداً للماركسية وفيه بدل ان ينظر الى العمال كطليعة ثورية، وضع ثقته في التحالف بين المثقفين الراديكاليين والمنبوذين والغرباء والمضيعين المستغلين والمضطَهَدين من أعراق وألوان أخرى ، والعاطلين وغير القابلين للتشغيل، مؤكداً أن الطبقة العاملة تمت عملية استيعابها ضمن إيديولوجيا الاستهلاك. لكن دور العمال في الانتفاضة الأولى كان نفياً لتخيلات ماركوزة المبنية على ارضية نفسية/فرويدية لا مادية /ماركسية. ويتعزز موقفي هذا بناء على تجربة الصعود العمالي والشعبي في الانتفاضة، والهبوط في كل من الحركة العمالية والطلابية في ألمحتل 1967 بعد اتفاق اوسلو والاعتراف بالكيان الصهيوني. هكذا يؤثر الواقع المادي، وهكذا تبقى الثورة وعي مستنبط من الواقع والاندحار وعي زائف بالتخلي عن المقاومة. ربما كان فرانز فانون هو رد مبكر على ماركوزة، وها هي تجنيدات البروليتاريا الرثة في سوريا من قبل الدين السياسي وخاصة الوهابي والإمبريالية والحلم العثماني بدور إمبراطوري وتغلغل الموساد والكمبرادور العربي شواهد على دورالبروليتاريا الرثة في الثورة المضادة.
فالانسحاب إلى الداخل حالة او تكتيكً ضروري لا بد منه لإعادة الاصطفاف لكل مضطهَد، كشعب أو طبقة أو المرأة… هو دفاع وإعداد محدد لاندفاع مقاوم. وإذا كان هذا الانسحاب ضروريا وعملياً ضد الكيان، فهو طبقياً ضروري وعملي ضد الطبقة الراسمالية المحلية التي خلقت وتتمسك ب “سلام راس المال” مع الكيان، وهو ضروري لنضال المرأة الفلسطينية وطنياً وطبقياً ولها كمرأة بالتحديد. وهذا يكتنف النضال ضد الخطاب المركزاني الغربي بألوانه اللبرالي واليساري والنسوي المتاورب من جهة، والخطاب العربي، والفلسطيني بالطبع، المتصهين والمتغربن والمتخارج من جهة ثانية.
نقصد بالانسحاب الى الداخل قيام طبقة او طبقات من مجتمع معين بتقليص واعٍ لسلوكها الانتاجي او لحاجاتها الاستهلاكية التي تقدمها او تشتريها من الخارج، وتتجه بالتالي للعمل او الشراء من السوق المحلي وذلك كخطوة اساسية في مشروع تنموي قومي يهدف الى فك الارتباط بالاجنبي وفك التبعية. لقد قامت الطبقات الشعبية في اراؤاضي المحتلة في الانتفاضة الاولى بتبني هذه الخطوات التي اعطت نتائج تنموية باهرة حيث قاطعت سوق العمل والمنتجات الصهيونية.