سوريا:

أزمة قومية لا أزمة بعثية

والتأهُّل لقيادة مرحلة

(1)

عادل سمارة

لا يمكن فهم قوة الثورة المضادة بعيداً عن النظام الراسمالي العالمي سواء بهيمنة الطبقات الحاكمة هناك بأدوات متعددة أو بسيطرة هذه الطبقات/الأنظمة على محيط هذا النظام. بكلمة أخرى، فالعالم محكوم بهذا النظام الذي هو طبقي بامتياز مهما حاولت اللبرالية الغربية وقوى الدين السياسي، والمابعدية الفردانية إخفاء وجود بل حصول الصراع الطبقي. ناهيك عن أن هذا النظام ما زال مقوداً بقوى راسمالية المركز التي ما تزال فاعلة وقادرة على الإيذاء المدمر حتى لو كان بقوة دمار اللحظة الأخيرة، واللحظة الأخيرة في التاريخ ليست اياماً وهي على الأقل سنوات، ناهيك عن أنها حاسمة.

وبالطبع هناك تمايزات في مستوى كل من السيطرة في المحيط والهيمنة في المركز. فمع وجوب أخذ دور دول مثل روسيا والصين بالاعتبار على الصعيد العالمي وعدم كونهما تلعبان دوراً استعماريا عدوانيا كما هو دور الغرب الراسمالي  منذ قرون، ولكن السيطرة الطبقية في روسيا والصين لا تختلف جوهرياً عنها في المركز الراسمالي الغربي بل هما تمران كما هي الهند ايضاً بحقبة اقرب إلى تحقيق التراكم الأولي حيث الاستغلال للطبقات الشعبية  على أشده. لذا لا غرابة أن هذه الدول تحقق تراكماً ملموساً، حسب نظرية جيرشنكرون. ولكن الأهم، أن هذه المرحلة من التراكم وخاصة في الصين والهند وإن كانت تؤشر إلى معدلات نمو  عالية، فهي لا تؤشر إلى استقرار اجتماعي متزن كما هي الحال في دول المركز وهذا ما يتضح من قدرة المركز الراسمالي الغربي وخاصة الولايات المتحدة على إثارة مشاكل جدية في الصين، وحين تتطلب مصالحها، في الهند. وذلك الاستقرار الاجتماعي في الغرب لا يُرد كما يزعم كثيرون إلى التنظيرات بمسألة المجتمع المدني في حالته المشوهة عما أسس له لينين وغرامشي، وإنما هي نتاج توفير حد مقبول من رغد العيش والذي نفسه يحتوي حدا مقبولا من رغد الحريات وهي الأمور التي ترشي المجتمعات الغربية فتتواطىء مع وحشية أتظمتها مجسدة في نهب المحيط ركضاً وراء التراكم ومباشرة جيوشها مجازر طالت في تاريخ راس المال مئات الملايين في المحيط.

وكي لا تختلط الأمور، فالفارق بين الدول المتقدمة والصاعدة لا يكمن في دور دول المركز الإمبريالي خارج نطاقها القومي، اي في الأشكال المتعددة للاستعمار، بل كذلك في طبيعة الاستغلال الطبقي في الدول الصاعدة نفسها وخاصة الصين والهند، حيث هو أكثر قساوة منه في المركز الإمبريالي، وإن كان تحصيل فائض القيمة النسبي في بلدان المركز الراسمالي الغربي أعلى وهذا منسوب إلى مستوى التطور التكنولوجي. إن قساوة الاستغلال بل توفر فرص الاستغلال الطبقي على الطبقة العاملة هي التي تفسر تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر من المركز إلى الدول الصاعدة حيث مئات ملايين العمال الذين يقومون بأعمال شاقة وبأجور متدنية وحقوق أقل ناهيك عن تجريد الفلاحين منهم من الأرض كي يتبلتروا من اجل استغلال معمق لا سيما بعد فقدان الأرض، وهو أمر يجد تفسيره في المستوى الطبقي وليس القومي بمعنى قيام الشركات الصناعية الغربية بنقل الكثير من مواقعها الإنتاجية من المركز إلى المحيط. وللمفارقة، فإن هذا يقود إلى نمو أعلى في بلدان كالصين والهند وهو نمو لا تنمية من جهة، كما أنه لا يعكس تطوراً حقوقيا أعلى للطبقة العاملة.

علينا أن نتذكر اليوم، أن تفكك الاتحاد السوفييتي والانفتاح اللبرالي للصين الشعبية من خلال قيادة ذات موقع طبقي من جهة وموقع سياسي إيديولوجي من جهة أخرى يزعم بقاء المضمون الاشتراكي،  قد أعاد إلى إيديولوجيا السوق تفاخرها الانتصاروي بأنها الطريق الوحيد الممكن للبشرية. ولكن علينا أن نتذكر أن تطور الصين خاصة وحتى الهند قد تأسس خلال الثورة الماوية في الصين وحكم حزب المؤتمر في الهند. هذا من جهة ومن جهة ثانية، فإن الأزمة الحالية التي تعصف بالعالم بما هو راسمالي بالإجمال تعيد التأكيد بأن الراسمالية ليست خيار التطور البشري, وتكشف كذلك أن فوائض الثروة تتحرك بالحس الغريزي إلى المناطق في العالم التي تسمح بالاستغلال الأعلى للحصول على الربح اللامحدود وفي النهاية وصولاً للتراكم وهذا ما يفسر الفارق مثلا بين النمو العالي بل النمو التنموي في الحقبة الماوية، وبين النمو الراسمالي المعولم والجشع اليوم.  وهو نمو يذهب بالتناقض مع حقوق العمال.

المسالة السورية قومية لا قُطرية

أضاء الخلاف الناري بين المثقفين العرب تجاه سوريا، اضاء على الأزمة الأكبر للمسألة القومية العربية أكثر من الخلاف على العدوان على العراق 1991 واحتلاله وتدميره 2003 وعلى تدمير ليبيا 2011-2012، ناهيك عن تدمير الصومال واحتلال البحرين. وهو خلاف يمكن تكثيفه في ثلاثة أمور:

الأول: المفاضلة إلى درجة التفرقة بين قطر عربي وآخر. ففي حين كان معظم المثقفين مشدودين تجاه سوريا: مع سوريا، وضد النظام، مع النظام وضد المعارضة، مع معارضة وطنية وضد معارضة إرهابية وتابعة، مع المعارضة ايا كانت وبالمطلق، ضد النظام مهما أتى بعده، مع احتلال أجنبي، وضد احتلال أجنبي وطبعاً لا يوجد احتلال أجنبي سوى الغربي الراسمالي…الخ كان هناك اهتمام اقل ب ليبيا، وعدم اهتمام قط بالبحرين، وإهمال مطلق لليمن والصومال وما من أحد سأل عن أكثر من ارضٍ عربية أخرى محتلة ولا عن عشرات القواعد العسكرية للولايات المتحدة وغيرها من الأعداء الغربيين في الخليج ولا عن تحول ليبيا إلى إسرائيل جديدة على يد صهاينة قوى الدين السياسي. وهذا يؤكد أن جذر معظم المثقفين القوميين واليساريين هو قُطري بامتياز، وغالباً فإن أكثريتهم لا يعون ذلك. وإذا كان أمر يُشهد له في تكريس هذه الفوضى والجهالة والانحصار القطري والتخارج الثقافي فهو قدرة القطرية على الفعل ونخر الوعي القومي والطبقي  حتى الإتيان عليه. وما كان لهذا أن يحصل لولا الاختراق الثقافي والأكاديمي.

والثاني: في حين أن القوميين واليساريين /الشيوعيين الحقيقيين يدافعون عن صمود سوريا من مدخل الانتماء القومي الشيوعي، فإن المثقفين القُطريين في مختلف القطريات العربية الأخرى قد انشغلوا في الشأن السوري رغم أنهم ليسوا سوريين ويرفضون الانتماء العربي بمعنى أنهم وقفوا ضد النظام السوري وهي وقفة جوهرياً غير قلقة على سوريا لأنهم قُطريين اساساً لا قوميين بما يكشف أن لهم ارتباطات قُطرية وإيديولوجية مضادة لدور النظام السوري وبشكل أخطر هو ضد حضور ووجود سوريا، وبعضهم مقود بارتباطات غربية راسمالية وصهيونية ضد المقاومة والممانعة، وحتى ضد الدولة الوطنية المستقلة. وبالتالي كان دورهم اندساساً وكتابتهم دسائساً.

والثالث: فإن الانحصار القُطري هو مأزق هوية مأخوذ بأطروحات المابعديين[1] الغربيين الذين ينظِّرون ضد الروايات/السرديات الكبرى، اي ضد القومية والاشتراكية والأديان في مشروع قد يبدو أن اساسه فوضوية وبوهيمية مثقف أو مفكر، ولكنه في جوهره،  شاء المفكر أم لا، يخدم تماماً ذلك التحالف الخطير بين:

·        راسمالية المركز المتغولة

·        وراسمالية المحيط الكمبرادورية والمفككة والتابعة والجاهزة للمزيد من التجزئة حتى اصغر منزلة عشرية.

المآلات الفكرية والسياسية لهذه المابعديات هي تصغير كل مجتمع إلى هويات إثنية ومذهبية وطائفية وجهوية، فقيرة ومقتتلة ومستعينة بالأجنبي. وعليه، فكل مثقف عربي يدعو ضد سوريا بحجة تغيير النظام، هو في وضعية المشبوه كأداة لتنفيذ مخطط تفكيك الهوية القومية العربية لصالح عدد لا محدود من الهويات الصغيرة التي تتناسل حتى تصل إلى أن كل فرد هو هوية بذاتها وحسب، وحين يصل المرء إلى هذا الدرك ما الذي يمنعه أن يكون أداة للأجنبي بافتخار! فحين تغيب الروادع والضوابط الذاتية والقانون الوطني للدولة الوطنية ينفلت من عقاله كل شر. إن الأمة الوحيدة التي تقع في دائرة الاستهداف التجزيئي من الخارج، وبادوات محلية لا تخفي دورها هي الأمة العربية. وقد يجادل البعض فيما يخص تفكيك الرواية الدينية، فإن الرواية الدينية الإسلامية واحدة هي الإيمان بالإسلام كدين عربي اساساً معروض لإيمان الناس، اي فرد من اي مكان. أما ما نراه فهو إسلامات خلقها الاستعمار،  وهابي وسني وشيعي وزيدي ودرزي  وتركي وباكستاي/وهابي…الخ ويتم تحريضها ضد العربي المسلم أو المسيحي كذلك. والأهم هو توظيفها لتكون ميادين صراعات لا تنتهي في وطن هو تحت الاستغلال والاستعمار والاستيطان.

تفيد قراءة سوريا الأزمة على ضوء ما تقدم من ارضيات عقائدية مبتذلة وارتباطات فردية وطبقية ومذهبية وطائفية خطرة والتي تجلت في الأحداث الجارية بأن المرء أمام موقف حساس وملتبس لا يكاد يسمح لصاحبه بتحديد موقف محدد بل بان يرفض النظام هنا ويقبله هناك وكأن الكاتب قد اصبح وزير خارجية دولة يلعب دوراً دبلوماسياً. وفي هذا السياق، اعتقد ان ما يحكم موقف المثقف هو اولاً: هل منطلقة وانتمائه وطنياً أم لا كما اشرنا في مقالة قبل ايام؟ ومن ثم هل لديه انتماء قومي ووعي طبقي شيوعي أم لا؟ ولعلني أزعم أن هذه المعايير هي التي تحكم الموقف الأصيل، بغض النظر عن اختلاف وتعدد الأحداث بمعنى أن هذه المعايير تشكل ضابطاً للموقف مهما كانت المنطقة رمادية وحتى حاجبة للرؤية.

وحده المنطلق الوطني هو الذي يؤسس لموقف قومي متماسك ولموقف شيوعي حقيقي، وهذا معنى فهم والإلتزام بالسرديات الكبرى. فهو يبدأ من الإيمان بالوطن مما يملي عليه النضال من أجل المواطنة وليس الطائفة أو المذهب فما بالك باسرة حاكمة عيَّنها العدو الأجنبي. ربما لا يوجد سوى في الوطن العربي شيوعي  ينحصر في قطرية محلية، ويعادي الأمة العربية، ينادي بالأممية ويعترف بالكيان الصهيوني ويعادي الإسلام كإيمان، ويتحالف مع إسلاميين متحالفين مع المركز الراسمالي الغربي يتعامل مع الكيان الصهيوني! ولعل ابرز مثال ذلك العضو في المكتب السياسي لحزب العمل الشيوعي في سوريا! والحقيقة، أن هذا الرجل لم يُبدع هذه الكارثة من عندياته بل هو تطور طبيعي لتاريخ طويل من وقوف شيوعيين وإخوان مسلمين ضد الأمة العربية، وقوف أدى إلى اللاوطنية وهي سقطة تفتح على تورط في دور لصالح العدو مع شعور بأن ذلك أمر طبيعي وربما نضال.

 


[1]   انظر عادل سمارة، التطبيع يسري في دمك، الفصل الأول، منشورات دار أبعاد، بيروت، 2011.