والمال النفطي المفخخ والحصار
(3)
عادل سمارة
إذا كان المثقف النقدي لا يُقيم صلاتاً مع الأنظمة الحاكمة، فإن المثقف النقدي المشتبك يقف في مواجهتها دوماً ويشتبك معها بمقدار تناقضها مع رؤيته وأطروحاته التي لا تقوم على منافع خاصة ولا استغواء وهوى للسلطة ولا استقواء بها. فهو لا شك يطبق المقولة الحية تاريخياً “السلطان، هو من لا يعرف باب السلطان“. لكنه يعرف باب الشعب والقضية، ومن هنا لا بد أن يفتح على قضايا ما هو واقع وما هو آتٍ وما يجب أن يكون.
لعبت حقبة العولمة، التي أتت سريعاً وتتلاشى سريعاً كما يبدو وبأسرع من توقعاتنا حتى المتفائلة. وهو تطور عالمي لافت لأن مختلف الحقب الأخرى طالما استطالت وأناخت بكلكلها على الناس طويلاً. ولا شك أن ما ساعد على سرعة تفشي العولمة بمفاهيمها الإيديولوجية والاقتصادية ومن ثم عسفها الاجتماعي أنها أتت في أعقاب ازمة اقتصادية ممتدة منذ تراجع ازدهار ما بعد الحرب الثانية وهو التراجع الذي بدأ مع النصف الثاني من ستينات القرن الماضي وتفاقم في السبعينات منه.
لقد كان منظرو النيولبرالية في الاقتصاد وخاصة ملتون فريدمان وفريرديك هايك وفي الاجتماع بوبر، وفي السياسة مارجريت تاتشر ورونالد ريجان، وفي حرب الثقافات صامويل هنتجتون، كان هؤلاء هم فريق تقديم الحل لأزمة الرأسمالية التي تجلت في وصول الكينزية إلى محدوديتها حيث جهزوا البديل النيولبرالي. وقد ترافق مع هذا تفكك الكتلة الاشتراكية والذي وَظِّف لصالح هؤلاء، ولو من الباب الخلفي، كثيرون من اليسار الذي رأى بأن سقوط الدول الاشتراكية هو خطوة على طريق الثورة، وكان ذلك إلى درجة أن كثيراً من قيادات الحركة التروتسكية انضموا إلى المحافظية الجديدة مأخوذين بهلوسة أن عدم تحقيق الأممية عبر الاشتراكية هو ممكن من خلال الرأسمالية المعولمة. لا شك: أن بعض هؤلاء كان مُشبعاً بالولاء الصهيوني. هذا إلى جانب اليسار الانتقامي ومثاله شطحات انتوني نيجري “الخليط Multitude” وشطحاته الذي تجاوز الطبقات إلى “الخليط الاجتماعي” وتجاوز الإنتاج وقيمة قوة العمل.
أملت النيولبرالية المعولمة على بلدان المحيط تطبيق برامج التصحيح الهيكلي، سواء منها التي اضطرت لتطبيق وصفات صندوق النقد الدولي أو التي لم تُضطر. فقد اصبح العالم في ايدي المؤسسات المالية الدولية ومن لا ينخُّ طوعاً ينخ بالقوة كما حصل ضد يوغسلافيا والعراق. كيف لا وقد انتقل المركز الراسمالي المعولم من الحرب الباردة إلى الحروب الساخنة وضد العرب خاصة.
ترافق مع بدايات النيولبرالية والعولمة على الصعيد العالمي هجمة الإمبريالية على الوطن العربي سياسيا حيث جرت صفقات كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو، واقتصاديا بفرض شبكة العلاقات الاقتصادية التطبيعية مع الكيان من كلٍ من السعودية وقطر وعمان والإمارات والمغرب…الخ. وقد تلت ذلك في بداية التسعينات مشاريع المتوسط من قبل الاتحاد الأوروبي ومشروع الشرق الأوسط بطبعاته القديمة والجديدة من قبل الولايات المتحدة، والتي بدأت على الأقل منذ عام 1994 بمؤتمر الدار البيضاء وهو المؤتمر الذي جوهره دمج الكيان الصهيوني في الوطن العربي اندماجاً مهيمناً. ومن ضمن ذلك الدفع الأميركي للبلدان العربية بمغادرة اية سياسة اقتصادية حمائية أو “تنموية” أو سياسة نمو وذلك لصالح الانفتاح الاقتصادي الشامل وتقليص دور السلطة الحاكمة بحجة توسيع قاعدتها الاجتماعية كي تضم إليها القطاع الخاص. وبالطبع فالقطاع الخاص هو التابع المفضل للراسمالية الغربية بناء على مصالحه المتخارجة طالما أنه كمبرادوري وليس ذو توجه قومي إنتاجي.
مثل معظم دول العالم، أُخذت سوريا بسطوة هجمة العولمة هذه لا سيما بعد هول مذبحة أنظمة الاشتراكية المحققة فكان الانفتاح والذهاب إلى سياسة السوق الاجتماعي، وهو الأمر الذي قوَّض الكثير من مصداقية حزب البعث حيث تقاطع عدم الديمقراطية مع تراجع عن السياسات الاقتصادية الاجتماعية “الاشتراكية” التي صيغت لصالح الطبقات الشعبية.
كان لهذا تاثيره الأقوى في سوريا بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد، حيث تم نقل سوريا إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي هو الاقتصاد الراسمالي المنفتح مع الحفاظ على خانة صغيرة للتعاطي مع مصالح الطبقات الشعبية على أرضية هي اقرب إلى العمل الخيري منها إلى السياسة الاقتصادية الحقيقية التي تأخذ مصالح الطبقات الشعبية بالاعتبار. فسياسة السوق الاجتماعي هي سياسة “إحسان” طبقي من السلطة لطبقات أخرى يقابلها إطلاق يد الراسمالية في استغلالهم. هي الذهاب الخجول إلى الراسمالية عبر تقليص دور الدولة في الاقتصاد سواء في الاستثمار في القطاع العام اي تقليص دور الدولة كمشغِّل ومستثمِر واقتصاره على الإبقاء على دعم السلع الأساسية والذي يُمكن مراجعته لتقليصه بمعنى أن تصبح السياسة الرسمية هي الإسعاف وليس التشغيل والإنتاج. وبالطبع هذا لا ينفي أمرين اساسيين يميل كل منهما لطرف نقيض آخر:
الأول: إبقاء الدولة على التعليم والطبابة المجانية
والثاني: وجود فساد ومحسوبيات في القطاع العام اضعف الدفاع عنه.
إن التعليم المجاني سياسة تُحسب للنظام السوري، حتى بعد فتح الباب للتعليم الخاص، ولكن هذا التعليم المجاني ألقى إلى سوق العمل بأعداد كبيرة من الباحثين عن عمل مع قناعات بحقهم في فرص العمل. ولكن تراجع الدولة عن التدخل في الاقتصاد أعطى القطاع الخاص فرصة تحديد التشغيل، هذا إن لم نقل التلاعب بالأجور، مما زاد البطالة وزاد معها النقد لسياسة الدولة لا سيما في مجتمع اعتاد على حماية الدولة له.
ليس شرطاً أن يقوم القطاع الخاص دوماً بفصل العمال، ولكن الخصخصة هي التي تقوم بذلك أكثر. كما ان اعتماد سياسة السوق الاجتماعي أثرت على المنتجين المحليين وخاصة تطييب العلاقات مع تركيا التي اثرت على حلب أكثر من غيرها، وهو الأمر الذي نتجت عنه أعداداً كبيرة من العاطلين عن العمل سواء المتعلمين أو الأقل تعليماً مما خلق بروليتاريا رثة ومتعلمين رافضين للسلطة وكليهما اصبح مرتعاً للفكر التكفيري الذي حاول نسب بؤسهم إلى العلمانية وليس إلى السوق وتضمن بالطبع الوعظ بالجنة إذا ما تجندوا ضد النظام.
وقد لا يبالغ المرء بالقول، إن تجنيد هذه الفئات ضد النظام لم يتم عام 2011 أي حينما بدأت التحركات في الوطن العربي، بل لا بد أن يكون ذلك باكراً وهذا يعني أن أموالا تحولت إلى هؤلاء منذ سنوات سابقة. وإلا، من الذي حفر الأنفاق وراكم الأسلحة. وهذا يعني أن “المال النفطي المفخخ” قد تدفق وحين حلت ساعة الصفر فعل فعله.
في ظل السوق الاجتماعي تراجعت حصة الزراعة من الإنتاج الأهلي الإجمالي، وهي بلد زراعي اكتفائي من 25 إلى 13%، وضُربت الصناعات الصغيرة والمتوسطة بسبب الأفضلية التي حظيت بها تركيا طمعاً في تصفير المشاكل معها. وبالطبع اتسع دور التجار وخاصة الكمبرادور، وهذه المرة على حساب العمال والمنتجين المحليين. اي اتسع دور وحصة طبقة اقل على حساب طبقات أوسع واعرض، طبقة هامشية على حساب طبقات منتجة. صحيح أن هذا لم يؤدي إلى مجاعة في سوريا كبلد زراعي، ولكنه قاد إلى تضاؤل في المداخيل وبطالة وفقر لم يصل حد الجوع، ولكنه تجلى في الذهاب يميناً من مجموعات من الطبقة العمالية والفلاحية ألتي كانت ركيزة البعث حينما كان للدولة دورها القوي في الاقتصاد. كما أدت هذه السياسة إلى تدهور في سيكولوجيا مجتمع بُني على الاكتفاء وإذا به يتحول إلى الاستهلاك سواء من لديه ومن ليس لديه.
اللغم المؤقت لاقتصاد الريع
لقد لعبت دول النفط دوراً عدوانياً ضد سوريا ومختلف البلدان العربية ذات الفائض السكاني والعجز الاقتصادي. دور مبني على:
· حذر دول الخليج من الاعتماد الكبير على العمالة العربية تجنباً ل “مخاطر” أن تصبح دول الخليج معتمدة على هذه العمالة، اي حصول تبعية بالمعكوس. كما حذرت هذه الدول من العامل العربي لأنه يشعر بأن له حقاً في الثروة العربية، بينما أنظمة الخليج تعتبر هذه الثروة أولاً للغرب الذي اكتشفها وثانياً تعتبر حصة التساقط التي تنالها حقا للأسر الحاكمة فيها.
· قبول دول الخليج بتشغيل محسوب: اي تشغيل عدد محدود من العمال العرب بما لا يجعلها تابعة لهذه العمالة وفي الوقت نفسه بما يجعل تحويلات هؤلاء العمال هامة للبلد الأم كي تستخدم التهديد بقطع هذه التحويلات طبقاً لأهداف سياسية تنهتي في خدمة تبعيتها للمركز الغربي وتطبيعها مع الصهيونية.
بتحويل دول النفط مساعدات خيرية وإسعافية للحكومات العربية ذات العجز، اي مساعدات تنموية واستثمارية إلى جانب تشغيل عدد من العمال، واعتماد قطاع السياحة السوري ولو جزئياً على السياحة الخليجية، تم تصميم فخ “المال النفطي المفخخ”. ولكن، بأي معنى؟
فيما يخص تشغيل العمال السوريين، فقد استغلت أنظمة الخليج وجودهم هناك لتجنيد ما أمكنها منهم ضد النظام في خلايا وهابية إرهابية. واستغلت علاقة “الصداقة” مع النظام السوري كي تتلافى نقد سياساتها التطبيعة مع الكيان الصهيوني، وهو استغلال جرى سحبه على مختلف القطريات العربية. وحينما بدأت الأزمة السورية ضغطت هذه الدول بطرد العمال[1] ووقف السياحة إلى سوريا. ولا يمكن قراءة هذه الأمور سياسياً واقتصاديا بأنها من تداعيات الأزمة فقط ومن لحظة بدئها.
إن تشجيع السياحة سياسة وطنية حكيمة من حيث المبدأ، ولا سيما في بلد فيه موهوبية ثرواتية لا تتوافر لغيره بحيث يقلدها. ولكن الاتكاء على السياحة إلى جانب تراجع قطاعات الإنتاج يزيد من هشاشة الاقتصاد أمام اية إشكالية اقتصادية مع الدول التي يأتي منها هؤلاء السواح. وهي إشكالات ليس شرطاً أن تخلقها سوريا.
فقط في ظل سياسة السوق الاجتماعي، يتم إلقاء العاطلين عن العمل في جيش العمل الاحتياطي. فهم ليسوا عاطلين عن العمل بسبب إدخال تكنولوجيا تحل محل العمال. فلو كان الأمر على هذا النحو في ظل سياسة تخطيط أو تدخل حكومي لكان ذلك قد دُرس بما يوفر لهؤلاء شواغر عمل جديدة. لقد كانت بطالة ناتجة أولا عن سياسة السوق الاجتماعي والتي من تمفصلاتها تغوُّل الكمبرادور مما أدى إلى بطالة في قوة العمل المدينية والريفية.
بتطبيق هذه السياسة الاقتصادية اقتربت سوريا من وضعية التجويف والتجريف التي طبعت كثير من الاقتصادات العربية وخاصة في تونس ومصر. تجويف الوعي عبر نظام لا ديمقراطي لم يُسعفه وجود الجبهة الوطنية، وتورط النظام في سياسة الانفتاح الاقتصادي والسوق الاجتماعي إلى درجة أدت إلى تجريف الثروة على يد البرجوازية الكمبرادورية وخاصة نخبة النومنكلاتورا.
وحيث فقد النظام الكثير من مزاياه الاقتصادية ذات الطابع الاستقلالي والإنتاجي والاكتفائي، لم يسعفه سوى عقيدة الحزب القومية وعلمانيته وحقوق المرأة ودور الدولة في الممانعة وهي التي حمت سوريا من الثورة المضادة بكل وحشيتها.
وكما كان موقف الراسمالية المعولمة من مختلف البلدان التي طبقت وصفات صندوق النقد الدولي، كان موقفها أكثر سلبية ضد سوريا. اي لم يغفر لها اعتماد السوق الاجتماعي! فمنذ احتلال العراق مباشرة ذهب كولن باول بشروط تركيعية إلى الرئيس السوري الذي رفض ذلك بكبرياء من المحال أن يتمتع بقدر ضئيل منه حكام الخليج. ومن حينها بدأ فرض الحصار حسب ما أُسمي “قانون محاسبة سوريا 1559″، وهو الحصار الذي مهد للحصار المكثف الذي فُرض من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحكام النفط مع بداية الأزمة السورية ولم يتوقف تصاعده.
[1] حينما اعتقلت السلطات اللبنانية إرهابي قطري من عشيرة “العطية” لصلته بالقاعدة هددت قطر الحكومة اللبنانية بطرد 30 ألف لبناني من قطر. لا حاجة للتاكيد بأن “المال النفطي المفخخ” قد وُظِّف إذن للإرهاب والتطبيع مع الكيان الصهيوني.