لموقف تاريخي يجب الإصلاح والحسم

(الحلقة الرابعة والأخيرة)

عادل سمارة

لسنا معلمين للداخل السوري، فأهل مكة أدرى بشعابها، وحبنا لسوريا لا يسمح لنا بزعم قراءة حالها أكثر من أهلها شعبا وجيش وقيادة. وهذا، وبدون استدراك يُجيز لنا القول بأن المطلوب هو حل سوري داخلي يسمعنا ويسمح لنا بالقول ولا يقبل الإملاء لا من الأصدقاء ولا المترددين لأن القضية وطن وسيادة وعبور سوريا إلى غدٍ يليق بالوطن العربي بكل شريفاته وشرفائه عرباً وغير عرب.

الإقدام في الإصلاح والحسم هما سوريا الآتية، هما شَرْطَيْ بقائها وبقائنا معها. ورغم أن الحسم أمر أمني وضمان حياة في مواجهة عدوان خارجي بالسلاح والمال والانتحاريين القَتَلة، وحواضنهم المحلية من سياسية وثقافية وشريكة في القتل، إلا أن الإصلاح، رغم وعورة المسالك لا بد من تفعيله كسياسة على الأرض. وبقدر ما يفهم الأعداء كيف ينسفون الإصلاح بل الانتقال السوري سياسيا واقتصاديا واجتماعياً، بقدر ما يعني ذلك الإصرار  على الإصلاح وتكريسه.

ملاحظات اقتصادية

قد يُجيز المرء لنفسه بعض القول في الاقتصاد وهذا أيضاً دون تنظير أو إلزام لأهل البلد. وفي هذا السياق، فإن سوريا اليوم إلى جانب حرب الضباع عليها تعيش ما يقارب الحرب الطبقية بين الكمبرادور وفاسدي النومنكلاتورا من جهة وحق الطبقات الشعبية في التنمية بالحماية الشعبية من جهة ثانية. والتنمية بالحماية الشعبية هي برادايم يجد ضرورته في أزمات العدوان والحروب  حال سوريا، والاحتلال والاستيطان حال فلسطين المحتلة.

سوريا كبلد زراعي يمكنه البدء بتطبيق الحماية الشعبية وتكريس قانون قيمة وطني يقطع قدر الإمكان، وهناك إمكانية لذلك، مع قانون القيمة الرأسمالي المعولم دون أن يقطع مع الاقتصادات الإقليمية الصديقة مثل إيران والعراق وبعض لبنان!  والشقيقة كالأردن والجزائر، والصديقة البعيدة مثل فنزويللا والبرازيل وكوبا والصين وروسيا والهند وجنوب إفريقيا . كان لا بد من الالتفات إلى هذا المعسكر الضخم، إنما، ليكن اليوم. فلا يمكن الإبقاء على انفتاح اقتصادي مع السوق العالمية حتى دون فرض الحصار، علماً بأن اقطاب الحصار، إذا ما فرضوا حصاراً على تبادل ما، فهو لن يكون في صالح سوريا، بل إن الحصار حرب حقيقية، هي مشروع إسقاط دولة بالقوة الاقتصادية. والرد على هذا ممكن في اللحظة من قبل الشعب العربي. وكل عربي لا يقوم بهذا، فهو في الحقيقة، عرف أم لا، أداة في خدمة نظام حكم بلاده المضاد لمصلحة الأمة والخادم للكيان الصهيوني وأنظمة الإمبريالية التي من راسها الولايات المتحدة حتى دولها الصغيرة كالنرويج والسويد. كل مواطن لا يُعلن ويمارس مقاطعة منتجات الأعداء، هو يمارس الخيانة يومياً. وعليه، فالمقاطعة ليست فقط واجب المواطن السوري للمنتجات التركية مثلاً، بل واجب كل عربي. ومن المهم جداً أن يكون ذلك علانية، لأنه تحدٍ للأنظمة التابعة من جهة، وتحريض لشعوب الأنظمة المعادية ضد أنظمتها العدوة والتي يحفزها التراكم  على حساب دماء البشر دون رفة جفن!

صحيح أن خبراء الاقتصاد الوطنيين وحتى “المحايدين” منهم يرون العلاج الأفضل عبر تحقيق:

·        نمو عالٍ

·        وتضخم ملجوم

·        وتشغيل عالٍ

وهذه حتى لو أخذناها بمعزل عن ما يجب أن يتبعها، فهي تشترط دوراً قوياً للدولة دون أن نغفل أن هذه فترة انتقالية ذات مدى قصير جداً وصولاً إلى سياسات جذرية تنتهي إلى الاشتراكية على المدى الطويل دون أن نُغفل ما يعتور ذلك من عقبات وصراع طبقي مرير.

وعليه، فهذه المعادلة يجب أن تُقلب لتكون: قرار سياسي سيادي من الدولة، وتشغيل عالٍ ولجم التضخم وصولاً إلى نمو عالٍ. وربما يكون الهدف ابعد وصولاً إلى تنمية لا نمو فقط. ذلك أن مباشرة عملية التنمية تشترط تدخل الدولة لقيادة الاقتصاد عبر قطاع عام تشغيلي إنتاجي لا بيروقراطي، وأجور يتم تقليص الفجوة بينها كي لا يكون الحد الأعلى أكبر من الأدنى بأكثر من عشر مرات، وأن تكون الأجور العليا لصالح أقل عدد ممكن والأجور الوسيطة لأكبر عدد ممكن كذلك. فالأجور الأعلى هي محرك الاقتصاد عبر تحريك السوق المحلي على أن يكون هناك ضبطاً للاستيراد المفتوح ولا سيما المنافس للمنتجات المحلية وخاصة في بلد زراعي مل سوريا قادر على إنتاج معظم الأساسيات.

وصحيح كذلك أن الاستثمار التشغيلي خلال العدوان والتخريب ليس سهلاً، ولكن هذا لا بد ان يحصل وقد يبدأ بالعمل الزراعي وشق الطرق والخدمات البسيطة التي توفر للعاطلين عن العمل حدا أدنى من الدخل والشعور بأنهم ليسوا مهمشين فتشغيل العاطلين يُشعرهم بأنهم نالوا بعض حقوقهم وأنهم على طريق الاندماج في المجتمع وصولاً إلى الاندماج الفاعل فيه. ولا شك أن سوريا كبلد زراعي بوسعها البدء بهذه المجالات التشغيلية طالما أن دورة العمل الزراعي موسمية او سنوية بعكس الصناعة.

ما نقصده، أنه بمقدار ما يتمكن الشعب السوري من الانسحاب إلى الداخل وطنياً في مواجهة ولمواجهة العدوان، فلا بد أن يتقاطع مع هذا انسحابا إلى الداخل تشغيليا وإنتاجياً وخاصة في القطاع التعاوني الزراعي والتصنيع الزراعي وهي تجربة قامت بها الانتفاضة الفلسطينية الأولى عفوياً وتقدمت بها سريعاً رغم أن السيادة السياسية والأمنية كانت بيد الكيان الصهيوني. هذا ضروري  لا سيما أن الحصار وطرد أنظمة الخليج لعمالة سورية (كما طرد حاكم الكويت الفلسطينيين بعد إعادة احتلالها بيد الغرب الراسمالي) مقصود به إلقاء أعباء بطالة على كاهل الدولة وهو الأمر الذي يزيد وجوب إشراف الدولة على الاقتصاد. هذا دون أن تكون هناك أجهزة رقابة عقيدية على التنفيذ. حماية شعبية للابتعاد عن السوق المفتوح. لا بد من الانسحاب إلى الداخل وفك متزايد للارتباط بالسوق الراسمالي المعولم لإقامة علاقات إنتاج وتشغيل وأجور ومداخيل محلية متعادلة.

وفي هذا السياق يمكن إلى جانب التعاونيات الزراعية سواء في الاستغلال أو العمل أو القطف أو التسويق أو التصنيع السريع، يمكن التركيز على تنشيط الإنتاج العائلي، لزيادة كفائته، وتعميق تعاونه مع التعاونيات وصولاً لاحقاً إلى التكامل والاندماج بين شكلي الإنتاج هذين. “لا نقصد هنا تسميتهما نمطي إنتاج بل شكلي إنتاج Forms not Modes of Production” والهدف من هذا اساساً  تكريس والحفاظ على حياة أفضل للمنتج المستقل والتعاوني وعدالة في الريف.

وإذا جاز لنا القول، إن سياسة الإصلاح الزراعي السريعة هذه هي درجة من النضال بل الصراع الطبقي، نعم، فليس كل سوري هو في خدمة الوطن اليوم، وحبذا لو كان الأمر وردياً هكذا، فإن ما يوفر مناخاً لبدء ونجاح الاقتراحات أعلاه هو بالتأكيد ضبط السوق ولا سيما من حيث الاستيراد. وسيكون هذا على حساب شريحة محدودة العدد لكنها ليست مأزومة مالياً. ولن يكون المقصود التضحية بهم بل بجزء من مداخيلهم التي تسمُن على حساب قوت الشعب واقتصاد البلد.

 

على المستوى القومي

حتى اللحظة لم يأخذ الشارع العربي دوره بل واجبه في الدفاع عن سوريا، وهو دفاع عن الوطن العربي باسره لأن خروج سوريا منتصرة من الأزمة هو حالة انطلاق المشروع القومي العربي مجدداً. لا معنى للمواربة اليوم، فالوطن منقسم إلى قوى وأنظمة وطنية مقابل قوى وأنظمة في خدمة الإمبريالية والصهيونية. بين مقاومة وممانعة وبين مساومة وخيانة دون مداراة.

لا حاجة للتذكير بأن عرباً  كُثر من أنظمة وطبقات ومثقفين/ات قاموا بالمساهمة في إقامة الكيان الصهيوني سواء بالسماح لليهود العرب بالتدفق إلى فلسطين المحتلة، أو بعدم النضال قبل 1948 وبعدها ضد هذا الكيان، أو بعدم مقاطعة الكيان ومقاطعة الدول التي اقامته وتدعمه حتى اليوم. ثم وصلت إلى الاعتراف بالكيان.

إن الأنظمة التي تحارب سوريا بالمال والسلاح والعناصر الإرهابية هي تحارب إلى جانب الكيان الصهيوني والإمبريالية بل نيابة عنهما. ولم يعد التلطي بمزاعم الدين “قوى الدين السياسي”  من معنى ولا بمزاعم اليسار اللاقومي. لذا، فإن دور القوى الشعبية العربية في مقاطعة الدول التي تدعم الكيان هو مساهمة في النضال. كما ان مقاومة الأنظمة العربية التي تقف ضد سوريا هو في حقيقة الأمر تفكيك لمفاصل هذه الأنظمة القُطرية والذي هو في نهاية المطاف تجفيف قنوات دعم عربٍ للكيان الصهيوني. لأن هذه الأنظمة تدعم الكيان الصهيوني سواء مباشرة ، وإن بالتغطية، أو عبر قيامها بالعدوان على المقاومة والممانعة وخاصة في لبنان وسوريا وإيران.

نشاهد اليوم “استلحام” قطر والسعودية في ضخ الأموال سواء للإرهابيين في سوريا أو لقوى الدين السياسي في مصر وتونس والجزائر واليمن، وتحويل بعض المال للمناطق الفلسطينية المحتلة على شكل منح وهبات ورواتب وأجور…الخ. وكل هذه هي “ألمال النفطي المفخخ” الذي يشتري أنظمة وساسة ومثقفين/ات من جهة ويشتري صمت العرب عن جرائم هذه الدول التي تطبق العقيدة الراسمالية الغربية بأن كل شيء يمكن شرائه بالمال. وهذا الصمت هو الذي يغطي على قيام هذه الأنظمة بتدمير تماسك الأمة العربية وتضييعها على ولصالح عصبيات طائفية ومذهبية وجهوية وارتباطات خارجية وصهيونية معاً.

 

سوريا ليست شرق أوروبا

لقد حاولت الثورة المضادة تطبيق نظرية الدومينو التي دمرت دول الاشتراكية المحققة. وبالطبع استخدمت كافة الأدوات والمبتكرات والدروس المستفادة هناك لتجريها على الوطن العربي. لكن درس التاريخ يؤكد وجود خصوصيات لكل تجربة ومنطقة وثقافة، وهو الدرس الذي لا يعرفه راس المال لأنه مأخوذ دوماً بما يخدم النهب للتراكم. أما وقد قد تكسرت التجربة على ابواب دمشق،  فهذا لا يكفي. فلا بد من حراك شعبي عربي يقلب نتائج المؤامرة في القطريات التي نجحت فيها اي في مصر وليبيا واليمن وتونس.

يرتكز صمود سوريا على وعي وتماسك الأكثرية الشعبية فيها وتماسك جيشها، وعدم تورطها قبل الأزمة في ارتهانات لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والانفتاح الاقتصادي الواسع. ويرتكز على عدم مديونيتها وعلى توفر حاجات شعبها الأساسية محليا، هذا إلى جانب تنامي الوطنية السورية على ضوء الرؤية المباشرة لوحشية الأعداء وزيف مزاعمهم. وصمود حزب عقائدي وقيادة وطنية تدير المعركة بقوة أعصاب وحنكة. ويبدو أن اكثر هذا لم يكن في اوروبا الشرقية.

ويبدو أن الثورة المضادة لم تأخذ درساً كافياً كذلك من تطورات القوى الشعبية وابتكار اشتراكية القرن العشرين في أمريكا اللاتينية والتي تقوم، وإن ببطء وتدريجيا، بتخليص شعوب هذه القارة من براثن النهب الراسمالي وهي تغيرات لا شك سوف تصب في طريق التعاون مع سوريا والانطلاق العربي المتجدد، وهو ما يتضح من مواقف فنزويللا وكوبا.

ولعل التطور الأعلى أهمية هو وقوف أقطاب جديدة على صعيد عالمي في وجه التغوُّل الراسمالي الغربي المأزوم. إن مجرد وقوف روسيا والصين في مواجهة الغرب الراسمالي هو على الأقل إحداث تقطعات في تدفق النهب وحيازة التراكم على صعيد عالمي. وهذا التطور تحديداً هو الذي حال دون قيام الغرب الراسمالي بتدمير سوريا من الجو كما حصل ضد ليبيا كتمهيد لدخول عصابات القاعدة على أرض سوريا.

ولا شك أن حرص النظام السوري باكراً على التسلُّح بما يحقق توازنا استراتيجيا مع الكيان الصهيوني قد اثمر في اتجاه آخر ايضاً هو منع نظام الدين السياسي في تركيا من العدوان الذي يتحرق شوقاً إليه. وأتت ثماره ايضاً ضد أنظمة النفط العربية التي وجدت نفسها عاجزة بالمال، دون رجال، عن مهاجمة سوريا مباشرة.

نعم، لا يتكرر التاريخ تماماً، لا بالمأساة ولا بالملهاة. ولكن الخط الصاعد للتاريخ وحده الذي يستمر مهما اعتورته من تقطعات ورِدَّات لا بد منها. وهكذا، فإن سوريا تحقق الانتصار بالزمان في المكان. وهو درس لا تقتصر مفاعيله على صمود نظام وشعب، بل لا بد من دفعه باتجاه البدء بضرب اسس النظام الراسمالي العالمي بما هو عدو البشرية والكامن سرا وعلانية وراء مذابح الأمم. إن صُنع التاريخ اليوم بيد من ينتصر اليوم.