قراءة في كتاب


الكتاب: الفكر العربي المعاصر ـــ دراسة في النقد الثقافي المقارن.

المؤلفة: إليزابيث سوزان كسّاب.

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية.

مراجعة: ريتا فرج.

* * *

إليزابيث سوزان كسّاب:

العالم العربي عصيٌّ على الحداثة؟

 

سعد الله ونوس، وصادق جلال العظم، وعبد الله العروي، ومحمد أركون، ونوال السعداوي، وفاطمة المرنيسي، وهشام شرابي، وعبد الكبير الخطيبي، وحسن حنفي… كلّ هؤلاء يخيّمون على «الفكر العربي المعاصر» (مركز دراسات الوحدة العربية) الذي يرصد تمثلات الفكر النقدي العربي منذ النكسة

ريتا فرج

تنهض أطروحة إليزابيث سوزان كسّاب «الفكر العربي المعاصر ـــ دراسة في النقد الثقافي المقارن» (مركز دراسات الوحدة العربية) على ثلاث إشكاليات أساسية:

ــــ لِمَ لم تُثمر النهضة؟

ــــ الى أيّ مدى قام المفكرون النقديون العرب في فترة ما بعد النكسة باعتبار الأزمات الثقافية أزمات سياسية؟

ــــ ما الذي أفشل مشروع التنوير في العالم العربي؟

ترصد الأكاديمية اللبنانية تمثلات الفكر النقدي العربي منذ نكسة حزيران 1967، وتعتمد في دراستها على قراءة الأعمال الفكرية التي تبلورت بعد هذه الحقبة التاريخية. تسلط الضوء على مجموعة من الأطروحات أنجزها كتّاب وكاتبات، عملوا على تفكيك أسباب انكسار المشروع النهضوي.

تقسم كسّاب النماذج المدروسة الى ثلاثة اتجاهات:

ــــ النقد اليساري والقومي،

ــــ والنقد في الدين الإسلامي،

ــــ والنقد العلماني.

وقبل أن تلاحق النقاشات الفكرية/ النقدية التي تطرقت في مجملها الى فشل مشروع التنوير، وما دار حوله من انسدادات تاريخية على المستويات الثقافية والسياسية والمجتمعية، تستهل كتابها بمقدمة موجزة عن النهضة العربية الأولى، التي تبدو أسئلتها وأفكارها حاضرة حتى يومنا هذا رغم الفاصل الزمني الطويل. ولعل صدمة الحداثة التي اكتشفها شكيب أرسلان، أحد رواد النهضة الأولى، في مساءلته الشهيرة (لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟) تمثّل دليلاً قاطعاً على الانهزامات التي مرّ بها النهضويون الأوائل بسبب نخبوية الأفكار وتخلّف المجتمع.
تعتمد كسّاب على منهجين: قراءة الأفكار، والمقارنة بينها. ومن بين النتاجات المعرفية الذي قامت بدراستها، تختار أعمال: سعد الله ونوس، وصادق جلال العظم، وعبد الله العروي، ومحمد أركون، ونوال السعداوي، ونظيرة زين الدين، وفاطمة المرنيسي، وفرج فودة، وطلال أسد، وهشام شرابي، وعبد الكبير الخطيبي، وحسن حنفي وغيرهم. لا تهدف الكاتبة الى إعادة توثيق الطروحات التي تقدم بها هؤلاء المبدعون العرب، رغم أنها أحياناً تجري مراجعات كثيفة، بل تعمل على نحو دقيق على موضعة خلاصاتهم في حقيقة مؤلمة طغت على الجميع: النهضة لم تُثمر ونحن في مأزق.
تركز الكاتبة على النقاشات الفكرية المعاصرة التي طاولت ايديولوجيا الهزيمة النهضوية وأسبابها، إذا جاز التعبير، وتقارب أدبيات ما بعد الاستعمار لجهة العوامل والأهداف والتحديات. ورغم أن النماذج المختارة خاضت في قضايا شائكة كالدين والثقافة والسياسة والجندر والاجتماع، بقي همها الأساسي نقد البنى المجتمعة ومساءلة الأزمات الدورية، كما لو أن العالم العربي عصيٌّ على الحداثة.
تعود بنا كسّاب الى حقائق معرفية متشابكة. أزمة النهضة وعجزها جزء من كل، فما الذي وقف بوجه حركة التنوير ومن أفشلها؟ تحرى الفكر النقدي العربي بعد النكسة جملة من النقاط المهمة أبرزها: نقد الفكر الديني الماورائي، نقد الايديولوجيا والتاريخانية، نقد الإسلام التقليدي، نقد النمط التوفيقي، نقد الاحتكار الفكري للإسلام، وجندرة النقد.
تناقش الكاتبة في عملها ثلاث وجهات نظر، الأولى تركزت على التحول النقدي الذاتي، سواء أكانت إسلامية أم قومية؛ والثانية تبحث في الفهم السياسي للبؤس الثقافي لدى المفكرين النقديين، والثالثة تكسر العزلة التي حُصرت النقاشات العربية فيها ودراستها حول الثقافة حتى اليوم.
الكتاب غني بالمعلومات، وخصوصاً أن كسّاب تعرض لأبرز الأعمال الفكرية التي دشنت أدبيات ما بعد الاستعمار، وتوجَّه جزءٌ كبير منها الى مساءلة الدين والثقافة والسلطة والمجتمع والبطركية، أي إن هذه الدراسات الريادية اتجهت شيئاً فشيئاً نحو ما هو بنيوي ومجتمعي، وما عادت تكترث للخطاب الأيديولوجي/ النخبوي، أو أيديولوجيا المطلقات كما يصنفها عبد الله العروي، رغم استمرارية المفاهيم السائدة بشأن التراث والأصالة والمعاصرة التي سيطرت على حقبة الثمانينيات، ولم تؤدِّ الى انتاج أيّ تحول ملموس.
يكشف الكتاب عن أهمية النقد الذاتي للهزائم الثقافية والسياسية والاقتصادية. الإيديولوجيا لم تقدم جواباً لما يسميه هاشم صالح «الانسداد التاريخي» لأن منابعها في الأساس بنيوية، ليس لها علاقة بصراع الأفكار وانتاجها رغم أهمية المكاشفة المعرفية في أكثر من ميدان، لكن الأهم أن النظريات التى تولدت عقب هزيمة 1967 اهتمت في المرتبة الأولى، بمحاسبة ما اصطلح عليه العرب بـ «النكسة». ولا شك في أنّ العمل الذي قام به صادق جلال العظم «النقد الذاتي بعد الهزيمة» أدى الى توضيح مسألتين: أولاهما أن الهزيمة كشفت عن هشاشة النهضة الفكرية، وثانيتهما أنّ استخدام النكسة يعني أن ما حدث كان نوعاً من الظواهر الطبيعية، وهذا ما يرفضه صاحب «نقد الفكر الديني».
تكاد ثنائية الحداثة والنقد الذاتي تسيطر على كافة المساءلات، وخصوصاً الظاهرة الدينية. المفكرون العرب لم يكتفوا بتفكيك الفكر الديني/ الأسطوري، بل قدموا قراءات جديدة في المضمار نفسه تتعلق بالفهم الجديد للإسلام، وبعضهم نادى بـ «علم الكلام الثوري» على شاكلة لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية، وقدموا أيضاً مناقشات بشأن العلمانية، وحددوا أبرز التحديات التي تواجه الخطاب العلماني الحالي، في ظل فورة الإسلاميين منذ سبعينيات القرن الماضي.
ثمة فجوات معرفية كان من المهم للكتابة تخطيها. على سبيل المثال، هي لم تتحدث عن الجهد الكبير الذي قام به الفيلسوف اللبناني ناصيف نصار، ولا سيما أن صاحب «الإشارات والمسالك» استفاض في معالجة العلمانية والنهضة الثانية التي آمن بها، كما أن كسّاب لم تسلط الضوء على أعمال المؤرخ التونسي هشام جعيط، وكان بإمكانها دراسته في الفصل المعنون «النقد في الدين الإسلامي». أما على المستوى المنهجي، فكان من المهم تكثيف المقارنات بين النماذج المدروسة. الى حد ما، اكتفت الباحثة بعرض الأفكار من دون تثميرها، عدا أنّ هناك تعجلاً في معاينة جزء من القضايا، تحديداً تلك التي تتعلق بالمرأة والجندر، والأهم من كل ذلك تغييب قضية جوهرية ترتبط بـ «سوسيولوجيا الجمهور». يبقى أن الكتاب يبرهن على حقيقة مهمة أن العرب فعلاً في مرحلة من البؤس التاريخي. بعدما كان السؤال: النهضة من أين تبدأ؟ أصبحنا اليوم نتساءل: لماذا نحن عالقون في مأزق؟

::::

“الأخبار”

http://www.al-akhbar.com/node/94461