عبداللطيف مهنا
تلهث مصر بين جولتي إنتخاباتها الرئاسية. إنقضت الأولى جالبةً معها مفاجآتها. وإذ لم تحسم لمرشحٍ، باتت مصر على موعدٍ قريبٍ مع الثانية… مع الإعادة. وبين الجولتين، تعيش أرض الكنانة حومة جدلٍ يتردد رجعة لدى كامل أمتها من محيطها الى خليجها. هاهي تعيش معها حدثها، كشأنٍ قوميٍ بامتيازٍ، وتشاركها، فيما عدا صناديق الإقتراع، كامل دقائق وقائعه، وكافة شؤونه وشجونه، وتقتسم معها عزيز آماله وحلاوة احلامه، ومرارة عثراته ومؤسف إحباطاته، فتشاركها كل ماتعلقه على إنتخاباتها. لن ندخل في تفاصيل النتائج لجولةٍ إنقضت وكثر لغطها، فهى باتت معروفة وتثير جدلاً سيستمرحتى ما بعد إنقضاء الأخرى القادمة… نكتفي في هذه العجالة بالملاحظات التالية:
سابقاً على التصويت، شارك الإنتقاليون وإعلامهم الرسمي، والفلول وإعلام رجال اعمالهم، أو غالب الإعلام غير الرسمي، وكافة تجليات نفوذ ما تدعى بالدولة العميقة، وكذا الإستطلاعات غير المهنية أو الموجَّهة وذات الغرض، في تصويرالمنافسة تدور فحسب بين إثنين، واحد مفضل لديهم هو عمرو موسى وآخر مرجَّح هو الدكتور عبد المنعم ابو الفتوح. لكنما ما اسفرت عنه الجولة كان تراجع الأول الى المرتبة الخامسة والثاني إلى الرابعة، وكان أن حُسمت جولة الإعادة لصالح إثنين كانا إستطلاعياً وتوقُّعاً في مرتبة هذين المتراجعين، هما الدكتور محمد مرسي أولاً والفريق أحمد شفيق ثانيا…هل حقاً ثمة ماهو المفاجىء في هذا؟! الواقع لا يقول ذلك… لماذا؟
الدكتور محمد مرسي، المرشح الإخواني المتأخر أو البديل، تقف من خلفه ماكنة إنتخابية حزبية منتظمة ومقتدرة تتوزع في عمق المجتمع المصري وتغطي كافة ارجائه، وما حصدته له من أصوات قلت عن الستة ملايين إنما هى وازت موضوعياً ما أعطته له كتلة الإخوان الإنتخابية وأنصارها، وبعض من قوى تيار الإسلام السياسي وليس جميعها، والتي تقاسمها معه، كما هو معروف، الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، وهذه النتيجة تعد أمراً من المفترض أنه ليس بغير المنطقي أو غير المفهوم أو اللامتوقع.
أما الفريق شفيق، الذي تلى سابقه بفارق أصواتٍ قلت عن النصف مليونٍ، فلكونه واحد من رموز النظام الساقط رأساً والباقي جسداً وآخر رؤساء حكوماته، فقد كان من ورائه تحالف واسع فاعل، يبدأ بالعسكر المنحدر من صفوفهم، وما تعبر عنه سطوة الدولة العميقة، والمؤسسات الحكومية، التي لا زالت مباركية الهوى ويعشش فيها ما يعرف بالفلول وبقايا الحزب الوطني المنحل، هذا الذي لا زالت رموزه تصول وتجول في مفاصل الدولة، والذي بدأ في حومة الإنتخابات الأخيرة في إعادة تنظيم صفوفة، ثم رجال الإعمال أو قطط حقبة ما بعد كامب ديفد السمان، ومؤثرات الضخ الإعلامي الرسمي والخاص، وأخيراً مسألة غياب الأمن، أو ما شهد إنفلاتاً مفتعلاً عُلَّق زوراً على مشجب الثورة ويُزيَّن لبسطاء المصريين أن إستتبابه رهن برجل من مثل أحمد شفيق، ثم لا ننسى أنه قد فاز بغالب أصوات الأقباط، هؤلاء اللذين تفزعهم فكرة الدولة الإخوانية، أو يفضلوه على ما يعرف بمرشحي الثورة…إذن، أين تكمن المفاجأة ؟
هذه المدوية حقاً، والتي تقول بوضوحٍ بأنها سوف يكون لها ما بعدها، ولم يكن عنوانها إلا حمدين صباحي… مرشح الفقراء الذي لم تتوفر له ما توفَّرت لحملات منافسيه من إمكاناتٍ ماليةٍ أو ما حظوا به من سبل دعمٍ بيَّنا بعضاً منها آنفاً، حتى أن حملته لم تتمكن من تغطية كافة الأقاليم فكانت شبه الغائبة عن الصعيد مثلاً. ومع هذا أجمع المجمعون على أنه كان بحقٍ حصان هذه الجولة من الإنتخابات الأسود، الذي حل ثالثاً، ولم يكن بفارق ذي بالٍ ما كان بين ما حصل عليه من اصوات وما كان لمن تقدمه، بل ويتفق المتفقون على أنه لولا تلكم الإعتبارات التي قلنا أننا بيَّناها، يضاف لها عدم توَّحد ماعرف بتيار الثورة خلف مرشحٍ واحدٍ، لكان قد حسم حمدين الإنتخابات الرئاسية لصالحه وفي جولتها الأولى. أنه الأمر الذي يسهل تصوُّره ببساطةٍ إذا ما تخيَّلنا مثلاً، أنه لم يتم هذا التحايل الفج لفرض إعادة الفريق شفيق إلى حلبة المنافسة بعد أن أخرجه منها قانون العزل السياسي بحق مرشحي رموز النظام السابق، الأمر الذي بات يثير جدلاً قانونياً لن تحسمه إلا المحكمة الدستورية.. بل ان هناك من ينتظر حمدين صباحي رئيساً إذا ما قضت المحكمة الستورية بصحة القانون أو حتى عدم إختصاصها بالنظر فيه، وبالتالي أُبطلت الإنتخابات فأُعيدت أو أُستثني شفيقاً من المنافسة.
إن سر المفاجأة الصبَّاحية هو هذا الصعود القوي لمناضلٍ قوميٍ ناصريٍ متجددٍ، ومكافحٍ عنيدٍ جاهد طيلة مسيرته النضالية المعروفة ضد كامل ما عنته الحقبة الكامب ديفيدية الثقيلة بأوزارها وكارثيتها على مصر والأمة العربية، وكان خلالها ولا يزال خير من عبَّر عن ضمير الشعب المصري المغيّب، والأكثر إلتصاقاً بفقراء مصر والحامل الدائم لهمومهم والمستشعر بأوجاعهم، والذي دخل السجون لمراتٍ في سبيل ما آمن به وناضل من أجله.
إن لم تأتي الإنتخابات المصرية، لعديد إلتباساتها وتعقيداتها وماتخللها من إعتباراتٍ عرضنا لها، بحمدين صباحي رئيساً، فهو بحقٍ كان الفائز الأكبر فيها. كرسته رمزاً وطوبته زعيماً لتيار ثالث عريضٍ ويتسع، كانت أطرافه، التي باتت تلتف الآن من حوله، قد حصدت متفرقةً في الجولة المنقضية مافاق بكثيرٍ مجموع ما كان للطرفين اللذين فازا بخوض جولة الإعادة من أصواتٍ… رمز، زعيم لتيار يصر على رفض تسميته ثالثاً ويفضلها أولاً. بمعنى آخر، توَّجته موضوعياً في إعتقادنا زعيماً مستقبلياً لمصر المقتربة ورئيساً قادماً لها… من هنا يمكن تفسير لماذا يرفض الحصان الأسود التفاوض مع طرفي الإعادة ولا يلقي بالاً لعروضهما التحالفية السخية أو ما يطرحانه من ضمانات. لعله ترك هذه المهمة لحليفه الراهن أبي الفتوح وسواه من رموز تيار الثورة لانتزاع التنازلات لصالح مصر من كليهما… حمدين صباحي، تيار عريض، حلم مستقبلي واعد، لابد من تأطيره، والعمل على الوصول به، الذي بات الآن متاحاً أكثر لمن يمتلكون مشروعه، لما تدعى بالأغلبية الصامتة… ظاهرة حمدين صباحي تقول للأمة العربية، إن الناصرية بأحلامها القومية الكبرى لا زالت حية في ضمير ووجدان الشعب المصري.