لا يا فريق شفيق !

أحمد الدَبَشْ (*)

فَجَعَنَا الفريق أحمد شفيق؛ المُرشَّح لرئاسة مصر؛ بحديثه؛ في مؤتمرِهِ الصحفيْ، يوم الأحد 3/6/2012؛ حين دعا المصريين في الخارج، إلى أن يُقرِّروا مصير بلدهم؛ وشرعيتهم؛ وأن يختاروا الدولة العصريَّة، التي يُمثِّلها هو؛ و”عاصمتها القاهرة؛ كما كانت؛ وليس فلسطين؛ كما يريد البعض”!

حيث تابَعَ المُرشَّح الرئاسي، خلال المؤتمر الصحفي الذي بثَّته العديد من القنوات الفضائيَّة، ووكالة أنباء الشرق الأوسط، ونقلها موقع التلفزيون المصري؛ قائلاً: “القدس الشرقيَّة عاصمة فلسطين؛ والقاهرة ستظل عاصمة مصر؛ لن تذوب إحداهما في أخرى؛ ولن تتحوَّل إلى إمارة”.

وفي محاولة لتوضيح حديث الفريق أحمد شفيق؛ أعلن أحمد سرحان، المتحدِّث الإعلامي باسم حملة شفيق، “أن تصريحات شفيق كانت واضحة؛ وهي انتقاد لمن يُخطِّطون، لأن تُصبِح مصر جزءًا من امبراطوريَّة، مُتخلِّية عن هويتها الوطنية؛ مؤكدًا أن أحمد شفيق يؤمن بأن على مصر أن تساعد فلسطين؛ بل وتُضحّي من أجلها؛ دون أن يكون هذا على حساب الهويَّة الوطنيَّة المصريَّة”.

كما أضاف سرحان: “إن رؤية شفيق في حل القضية الفلسطينية، تنطلق من ثوابت؛ ارتضاها الشعب الفلسطيني؛ وأرستها القرارات الدوليَّة؛ والمبادرة العربيَّة؛ من إقامة دولة مستقلَّة؛ على حدود ما قبل 1967؛ وعاصمتها القدس الشرقيَّة”!

ما أصابني بالذهول والدهشة؛ الصمت المُطبق داخل القوى، والأحزاب السياسية المصرية، والفلسطينية، على حدٍ سواء؛ وعدم التعليق على حديث شفيق؛ والنأي بالجميع، بعيدًا عن الدفاع عن قضيَّة فلسطين، وكأن الفريق شفيق ومعاونهُ، قد أصابا كبد الحقيقة، حينما أعلنوا ذلك.

فمن مِنَّا طالب الفريق أحمد شفيق، أو غيره من مرشحي الرئاسة المصرية، استبدال عاصمة مصر، من القاهرة إلى القدس؟ ومن مِنَّا طالب بإذابة الشعبَيْن المصريْ، والفلسطينيْ؟ وحتى لو طالبَ بعضنا من مرشحي الرئاسة؛ ومن الثورة المصرية؛ الوقوف مع الشعب الفلسطيني، في مواجهة العدوان، والحصار؛ فهذا حق، والتزاماً وطنياً، وقومياً، في عمومه؛ كما أنه التزام بأولويات الأمن القومي المصري؛ والذي تُمثِّل فلسطين البوابة الشرقية له، وخط دفاعه الأول؛ على وجه الخصوص!

ومن مِنَّا قال إن الثوابت الوطنية؛ التي ارتضاها الشعب الفلسطيني؛ هي إقامة دولة فلسطينية، على حدود 1967؛ وعاصمتها القدس؛ بخلاف عباس وزُمرَتِه؛ القابعون في مقاطعة رام الله! فضلاً عن المبادرة المُسمَّاه بالعربيَّة؛ والتي قَبَرَها شارون، في اليوم التالي، لاجتاح الضفَّة الغربيَّة، حين صَفَعَ أصحابها، بغير أدنى تفكير منهُ.

ما يُثير التعجُّب، والاستهجان؛ أن تُطلَق هذه التصريحات، من رجل عسكريْ؛ رب من أرباب الكُليَّة الجويَّة؛ حاصل على زمالة كُليَّة الحرب العُليا، من أكاديمية ناصر العسكريَّة العُليا؛ وزمالة كُليَّة الحرب‏ العُليا للأسلحة المشتركة بباريس؛ ودكتوراه الفلسفة في الإستراتيجيَّة القوميَّة للفضاء الخارجي!

كما أنه يجب أن لا ننسي؛ أن الطيَّار يرتفع عالياً؛ حيث يرى أُفُقٌ أوسع من زي غيرِه؛ لكنه لا يستطيع أن يقبع منتظراً التعليمات من غرفة العمليَّات على الأرض؛ إذا ما تأزَّم أَمْرْ.

إن قراءة مُتأنِّية، للمراجع العسكريَّة المصريَّة؛ بِدءاً من الفراعنة؛ مروراً بدولة محمد على باشا؛ وصولاً إلى دولة عبد الناصر؛ تؤكِّد أن الأمن القومي المصري، لا يتأتى إلا بالحفاظ على الأمن العربي، عمومًا، وجواره في فلسطين، والسودان، على وجه الخصوص.

الفريق شفيق؛ أتمنى عليك إعادة قراءة تاريخ العسكريَّة المصريَّة؛ وماذا تعني فلسطين بالنسبة لمصر، على كل الأوجه؟ أتمنى أن تعرف أيها الفريق، أن فتوحات الفراعنة، وصلت في إحدى جولاتِها إلى جبال طوروس، لحماية الأمن المصري؛ فيما لم يتخوَّف حينها الفرعون، من إذابة القوميَّة المصريَّة، بالقومية السوريَّة ــ الفلسطينيَّة؛ وهو الأمر الطبيعي، حال قراءة الواقع العربي، بشكل أكثر منطِقيَّة!

أيها الفريق؛ أتمنى أن تقرأ إنثربولوجيا الإنسان العربي؛ لتعرف؛ أنه ليس هناك قوميَّة مصريَّة، منفصلة عن القوميَّة العربيَّة؛ وأن عروبة مصر؛ شاء من شاء، وأبى من أبى؛ جزء لا يتجزأ من التكوين الإنثربولوجي المصري.

فهناك ثمة عامل واحد، له التأثير الأكبر، في صوغ السياسة المصرية، تجاه القضية الفلسطينية؛ إنه العامل الجغرافي ـ السياسي (الجيوبوليتيكي)؛ والذي يحظي بالتمايُز عن (القوميَّة العربيَّة؛ أوالتضامن العربي؛ أوالرابطة الإسلامية…). ويتألَّف ذاك العامل من عنصرَيْن؛ متمايزَيْن؛ ومتكاملَيْن؛ هما الأمن القومي المصري؛ ومكانة مصر في المركز الإقليمي اللائق بها؛ والذي تستحق أن تشغله في منطقتها العربيَّة؛ التي هي جزء لا يتجزأ من صَميمها.

فمصر؛ كما قال عنها العلاَّمة جمال حمدان – في سفرِهِ الرائع “شخصية مصر – دراسة في عبقريَّة المكان”؛ فرعونيَّة هي بالجد؛ لكنها عربية بالأب. غير أن كلاً من الأب والجد من أصل مشترك؛ ومن جد أعلى واحد. فعلاقات القرابة، والنسب، متبادَلَة؛ وسابقة للإسلام؛ بل وللتاريخ. وما كان الإسلامُ، والتعريبُ، إلا إعادة توكيد؛ وتكثيف؛ وتقريب. ولهذا فإن التعريب؛ وإن كان أهم، وأخطر انقطاع في الاستمراريَّة المصريَّة، إلا أنه لا يُمثِّل ازدواجيَّة؛ بل ثنائيَّة؛ فلا تَعارُض؛ ولا استقطاب؛ بين المصرية والعربيَّة؛ إنما هما اللُّحمة؛ والسداة؛ في نسيج قومي واحد.

مصر تحديدًا؛ محكوم عليها بتحرير فلسطين؛ بحق العروبة؛ والزعامة؛ فمصر لا تستطيع أن تنسحب من عروبتها؛ أو تنأى بنفسها عنها؛ حتى لو أرادت. كيف؟! وهي إذا نكصت عن استرداد فلسطين العربيَّة؛ كاملة من البحر إلى النهر؛ وهاودت، وهادنت، وخانت؛ وحكمت عليها بالضياع؛ فتكون بهذا قد حكمت أيضاً على نفسها بالإعدام؛ أو الانتحار، فسيخفق رصيدها الماضي، والقادِم؛ وستخسر نفسها، تاريخًا، وجغرافيا.

:::::

 (*) محامى وباحث فلسطيني في التاريخ القديم.