مناقشة في مفاهيم المرحلة
(الحلقة الثانية)
د. مسعد عربيد
المأزق:
ثغرات الوعي
بدايةً ينبغي ان نقف عند مفهومين رئيسيين لنحاول الإتفاق على تعريف مقبول لهما في سياق بحثنا هذا:
الوعي: هو القوة المعرفية والإدراكية الرئيسية الدافعة للجماهير والطبقات الشعبية والتي تشكل الرافعة لتحقيق مطالبها ومصالحها. وفي سياق المشروع النهضوي العربي الذي نحن بصدده فلا مناص لهذا الوعي من أن يكون وعياً شعبياً عربياً قومياً نقدياً وثورياً.
بناءاً عليه، باستطاعتنا ان نجزم ان ما نقصده بالوعي وبحسب هذا المفهوم يقع في القلب من الحراك العربي الراهن. وعلى نحو مماثل يمكننا القول إن غياب هذا الوعي أو قصوره هو السبب في ما أخفقت فيه الإنتفاضات العربية. وقد يصح القول هنا أن الحراك العفوي هو في ذاته حالة الوعي وأن سرقة ثماره ونتائجه تؤكد أن هذا الوعي لم يرتق إلى القدرة على الإضطلاع بهمام المرحلة وتعقيداتها وتحدياتها.
المأزق: مأزقنا في فضائه الأوسع هو الإنسداد التاريخي والسياسي والإجتماعي الذي وصلنا اليه في مشروعنا النهضوي والذي يهدف الى الاحتفاظ بحريتنا وسيادتنا وإستقلالنا الوطني من جهة، وتحقيق وحدة الشعوب العربية من جهة ثانية، كشرط لحماية ثرواتنا ومواردنا ووقف النهب الراسمالي لها وتسخيرها لإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والانسانية لشعوبنا.
أما المأزق الذي نعيشه في المرحلة الراهنة فيتمثل في إخفاق الإنتفاضات العربية في الوصول الى أهدافها. فعلى الرغم من زخم الحراك الشعبي وتضحياته خلال السنة الماضية، إلا انه لم يتخذ مساراً تصاعدياً في كل الأوقات او الحالات، بل تعرض للهبوط والسقوط وعاني الكثير من محاولات سرقة إنجازاته وإمتطائه من قبل الحركات الإنتهازية، كما مرّ بالكثير من الكر والفر والإرتداد عن أهدافه.
لهذا، فان الأوضاع التي تمر بها شعوبنا تستدعي وقفةً تأمليةً ونقديةً وعودة الى الجذور والأسباب في نجاحات وإخفاقات هذا الحراك.
السياق التاريخي للوعي القومي العربي
محطات سريعة
جاءت النهضة العربية في الربع الأخير من القرن التاسع عشر رداً على الأوضاع التي سادت المجتمعات العربية آنذاك في ظل الاحتلال العثماني والذي أبقى على وعمّق حالة التخلف الإقتصادي والإجتماعي والسياسي، وتفكيك مجتمعاتنا وإستمرار الهيمنة العسكرية على بلادنا. لعل أخطر ما في التجربة العثمانية في وطننا هي أنه كان استعماراً بكل امتلاء الكلمة، ولكنه كان خطيراً في إحاطة نفسه بالثقافة الدينية الإسلامية التي تبرره وتكفِّر مَنْ ينتقده ويرفضه، الأمر الذي حرك بقاياه وذيوله اليوم لإستعادته! (أنظر تركيا وتآمرها المكشوف والوقح ضد سوريا.)
لقد تأثرت الجذور الفكرية والثقافية لهذه الحركات وطلائعها الفكرية والثقافية والسياسية بالتيارات الاجتماعية والسياسية والفكرية في اوروبا الغربية في الحقبة ذاتها من القرن التاسع عشر. وبعد هدوء جبهات الحرب الامبريالية الاولى 1914 ـ 1918، تنامت حركة النهضة العرببة وتصاعدت على أثر الغزوة الإمبريالية الغربية لبلادنا على أرضية إتفاقية سايكس ـ بيكو المبرمة في ايار من عام 1916، وعقب إنهيار الامبراطورية العثمانية وإنصراف تركيا الى بناء كيانها “الجديد” على هدى توجهات وسياسات كمال أتاتورك.
على أرضية هذه الخلفية التاريخية وإحراز الإستقلال من الإستعمار الغربي، تطورت حركة التحرر العربية في خمسينيات وستينيات وسبعينيات في القرن الماضي لتتزامن مع تطورين أممين هامين:
1) نشوء القطب الإشتراكي المعارض للمعسكر الرأسمالي الغربي بعد إنتصار الإتحاد السوفيتي على النازية وتشكّل منظومة البلدان الإشتراكية في اوروبا الشرقية والصين الشعبية وكوبا لاحقاً.
2) تصاعد موجة حركات التحرر الوطنية في بلدان العالم الثالث في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية.
غياب الوعي العربي
بعد هزيمة حزيران 1967 وسقوط الأنظمة العربية القومية والتقدمية وإنهيار الحالة الحزبية العربية (الناصرية، القوميين العرب، الشيوعيين، البعث رغم بقاء الحزب في الحكم في سوربا والعراق)، إنفتح الباب على مصراعيه أما تطورين كبيرين:
1) تخريب الوعي القومي والنقدي والثوري بل وتغييبه لتحل محله المفاهيم الغيبية والظلامية؛
2) غزو ثقافي رأسمالي تم التخطيط والإعداد له منذ عقود ولكنه تصاعد بشكل مذهل بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والقطب الاشتراكي وإنفراد الرأسمالية الغربية بقطبية وحيدة هيمنت على العالم. وقد شوه هذا الغزو طبيعة الصراع في بلادنا وحقيقة أهداف وغايات النضال العربي وحرفنا عن معاركنا الرئيسية وأشغلنا باخرى جانبية، تحت غطاء كذبة “العولمة الثقافية” والدعوة الى الإنفتاح على الديمقراطية والحداثة وغيرها من الشعارات الزائفة.
فتح هذان التطوران الباب أمام تفكيك مجتمعاتنا مما أدّى الى تأجيج وتغذية التيارات والصراعات الدينية والطائفية والفئوية والمذهبية في البلد الواحد وداخل المجتمع الواحد.
***
مدخل الى إشكالية الوعي العربي
أسئلة
إذا ما كان للأفكار ان تصبح “قوة مادية” فيما لو تسلحت بها الجماهير وفق مقولة ماركس التي إستشرفها منذ ما يناهز قرناً ونصف، فانه لا بد لهذه الأفكار ان تنبع من واقع الجماهير وأن تكون في تناغم مع مصالحها أي ان تكون نتاجاً لوعي شعبي نقدي أصيل وأن تعبر عن المصالح الحقيقية للجماهير.
وعليه يكون السؤال: هل استطاع أصحاب المشروع التغييري في وطننا أن ينتجوا وعياً جذرياَ جديداً من داخل واقع الجماهير العربية نابعاً من تراثها وقيمها أم انهم عمدوا الى إستنطاق أفكار اوروبية جاءت من سياق تاريخي وإجتماعي مختلف ونبعت من واقعٍ مغاير؟
هنا نستطيع ان نمسك بطرف الخيط الذي يدفعنا للإجابة على هذا السؤال ـــــ المعضلة والذي يفرّخ بدوره كثيراً من الأسئلة:
ـ لماذا لم تتحرك الشعوب العربية لأمد طويل رغم طول معاناتها وقسوة الظلم والإستغلال اللذان ألما بها؟
ـ وحتى عندما ملأت الجماهير ساحة التحرير وتدفقت الى الشوارع بالملايين، لماذا لم تملك لا رؤية ولا برنامج ولا قيادة: برنامج يلتقط مصالح الطبقات الشعبية، وقيادة تمثل القوى الاجتماعية من التنظيم السياسي / الحزبي ونقابات ومنظمات جماهيرية.
ـ لماذا تعالت الشعارات البرّاقة ثم سرعان ما تغير بعضها وتبدل بعضها الآخر ليعكس حالة الضياع والحيرة وفقدان البوصلة السياسية التي نشهدها اليوم؟
ـ لماذا وكيف تم إمتطاء الانتفاضات الشعبية وتضحيات الجماهير وسرقتها من قِبَل قوى الثورة المضادة على تنوعها، كي تسخرها في خدمة مصالحها السياسية والاقتصادية والطبقية. (مثال: قوى الدين السياسي ووصولهم الى مواقع السلطة).
ـ بعبارة اخرى، لو كانت الجماهير مسلحة بالوعي والبرنامج والقيادة، هل كان لقوى الثورة المضادة ان تسرقها وتسخرها لخدمة مصالحها؟
ـ اذا كانت الأمور بنتائجها كما يقولون، فعلينا أن نسأل السؤال الاساسي: أين تأخذنا هذه الهبات الشعبية بالرغم من الإقرار بما أحدثته من تغييرات لا رجعة فيها، هل تأخنا الى الأمام أو الى الوراء؟
ـ كيف وصلنا الى “ثورة” تشدنا الى الوراء وتعود بمجتمعاتنا الى عهود الظلام؟ وكيف أمتلأت دنيانا وفضائياتنا بفتاوي عتاة التخلف؟
ـ كيف إستفقنا ذات صباح لنجد انه لا خلاف لنا مع “اسرائيل” ولا تراجع عن كامب دافيد؟
ـ كيف إستمرئنا مقولة انه لا ضير من التدخل الخارجي في أوطاننا، فتركناهم يحرقون ليبيا، ثم نراهم اليوم يطلبون المصير ذاته لسوريا؟
ـ كيف تكون قوى “الثورة” خائنة ومرتبطة بالغرب (ليبيا)؟ وكيف تكون قوى المعارضة (سوريا) مرتمية في احضان الغرب وسفلة السعودية وقطر والخليج، أي كيف تكون شريكة وضليعة في تدمير الوطن؟
ـ والأدهى، كيف صَدّقنا هذه اللعبة؟ ولماذا لم تثر كل هذه الكوارث إعتراضنا (بإستثناء القلة)؟
ـ أليس في هذا الف دليل على خللٍ وثغراتٍ عميقة في الوعي والفهم؟ ولماذ نستغرب بعد هذا كله تصاعد بل هيمنة التيارات الدينية والسلفية على الشارع والسلطة ومجلس الشعب والإعلام والفكر والثقافة؟ ليس بمقدور فردٍ الإجابة على هذه الأسئلة لوحده، بل هي تحتاج الى مجهود جمعي وشامل. وفي عودة الى مسألة غياب الوعي القومي العربي وأسبابه، فسوف احاول معالجتها من خلال محاور ثلاثة:
1) فشل الحركات العلمانية العربية.
2) فشل الحركات القومية والتقدمية والشيوعية والاشتراكية العربية.
3) وأن أحد الأسباب الرئيسية لهذا الفشل يكمن في (1) خلل فهم هذه الحركات لمسألة التراث العربي ـ الإسلامي و(2) طريقة تعاطيها معه، مما أدى الى عزلتهم عن الجماهير العربية وتقلص قاعدتهم الشعبية، والذي قدم بدوره الساحة خالية لقوى الدين السياسي كي تسرح وتمرح منذ سبعينيات القرن الماضي ولتصل الى وصلت اليه اليوم من سيطرة شبه تامة على الشارع العربي ووعيه وحراكه.
ولكن لا بد قبل ذلك من مدخل موجز يكشف العلاقة بين التراث والوعي الشعبي.
جدلية التراث والوعي
ليس صحيحاً ان الفكر الديني (الإسلامي في حالتنا) كان على الدوام فكراً متطرفاً او سلفياً، كما توحي الأوضاع الراهنة في بلادنا وكما يروج الغرب الرأسمالي ويريدنا ان نصدق. ففي هذا قفز عن حقبات مفصلية من التاريخ العربي والإنساني. إذ ليس هناك شك في أن الدين، بما فيه الإسلام، شكّل حالة تمردية وتغييرية وربما ثورية في مراحله المبكرة وفي سياق الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية والسياسية التي كانت سائدة بين العرب آنذاك. ولو كان الرسول العربي محمد متطرفاً وأصولياً لإنقرضت دعوته في حينها، ولما شهدنا تلك الحضارة العظيمة. فالتاريخ لا يعيش مع ما يناقض حركته.
لقد شهد تاريخنا فصولاً مضئية لا يجوز إغفالها: ألم يأتي القرامطة والمعتزلة وإخوان الصفا وغيرهم من علماء وفلاسفة وحركات فكرية ونقدية رداً على إستتباع الدين والمؤسسة الدينية للسلطة السياسية؟ ألم يدعوا هؤلاء الى إصلاح الدين وإعمال العقل كي يتوافق مع النقل وإستبعاد كل ما يتنافى مع العقل من نصوص او تأويلها، وتطوير التفسير والإجتهاد الى مجاراة العقل والمنطق والعلم والواقع القائم.
لقد قدمت لنا هذه الحركات، وهو أهم ما خلفته من إرث، فهماً إقتصاديا للصراعات الإجتماعية وهو القادر على تفسير أسباب المظاهر الإجتماعية والإنسانية من فقر وبؤس وإستغلال والعودة بجذورها الى ظروف موضوعية، إقتصادية ـ طبقية ـ إجتماعية، كما انها شرحت لنا ان الصراع الإجتماعي يتمحور حول المصالح الإقتصادية حيث يكون حسم الجوانب الأخرى لهذا الصراع أي الجوانب الإجتماعية والسياسية والثقافية. وتأسيساً على هذا الفهم، صاغت هذه الحركات رؤيتها وبرامجها العملية في النضال من أجل التغيير.
أما مصير هذه الحركات فكلنا يعرفه، إذ هيمن أصحاب السلطة ورفضوا أي جديد وقالوا إن كل جديد بدعة وإن إستقلالية العقل كفر. وهنا تكمن هزيمة العقل في الاسلام وفي تاريخنا والتي ما زلنا نعيش آثارها الوخيمة منذ الف سنة. وهنا إنتصرت الذهنية السلفية التي آذنت بالانسداد الاجتماعي والسياسي والتاريخي لمجتمعاتنا.
* * *
قدمت هذه اللمحة التراثية لتأكيد أمرين هامين لم نوليهما العناية الكافية بالرغم من ان تجاربنا السياسية والحزبية والعلمانية تنطق بهما:
1) ليس كافياً أن نفسر الذهنية السلفية أو التطرف الديني على انها مجرد توظيف سياسي للدين، ثم ننطلق من هذه الحجة لتفسير ودحض ما تقوم به الحركات الدينية او المؤسسات الدينية وعلاقتها بالسياسة والدولة وغيرها من القوى الاجتماعية والسياسية.
2) في تقديري ان هذا ليس كافياً لتوعية أغلبية الناس العاديين والجماهير المسلمة والمؤمنة وتثقيفهم بالدور السياسي والاجتماعي الذي يلعبه الدين والمؤسسة الدينية وتحالفها مع المؤسسة السياسية كأداة في أيدي تلك المؤسسة والطبقة الحاكمة من أجل تعميق الظلم والإستغلال. بل أرى انه من الضروري تقديم تعريف وتوعية شاملة بالجوانب الثورية والتقدمية للتراث العربي ـ الإسلامي وإلقاء الأضواء على نضالات وإنجازات الحركات والتيارات والنزعات الثورية والتغييرية عبر مراحل تاريخنا وتراثنا المختلفة.
وإسمحوا لي هنا أن أستطرد الى مسألة على جانبٍ كبير من الأهمية: لا بد انكم لاحظتم المحاولات المتعددة والمتكررة لإلغاء وطمس الطابع العربي لهذا التراث وإنكار دور العرب فيه من خلال تسمية بالاسلامي دون العربي او وضع مفردة الاسلامي قبل العربي. والحق انه تراث عربي ـ إسلامي بشهاد التاريخ عبر كافة حقباته ووقائعه منذ قيام النبي العربي بنشر الدعوة الإسلامية في أرض العرب وصولاً الى المساهمات الكبيرة التي قدمها العرب لهذا التراث وللتراث الإنساني بشكل عام.
التراث وتكوين الوعي
لماذا يهمنا التراث العربي ـ الإسلامي وما هي أهمية التعامل معه؟
وما علاقة التراث بتكوين الوعي أو تشكيل وعيٍ عربيٍ جديد، نقدي ثوري قادر على إنجاز التغيير المنشود؟
الجواب في الحقيقة بسيط بقدر ما هو بليغ:
أ) لأن الإسلام يشكّل العقيدة الدينية للطبقات الشعبية في الوطن العربي أي الأغلبية السكانية في بلادنا، ولأن تراثنا يشكّل موروثها ووعائها الثقافي والحضاري وهو المدخل الطبيعي والحقيقي للعلاقة مع الجماهير الشعبية.
ب) وتأسيساً على هذه الحقائق، نستطيع أن نبني ونطوّر وعياً جماهيرياً نابعاً من قيم الطبقات الشعبية العريضة وتراثها وواقعها المادي الموضوعي، ومعبراً عن مصالحها. بعبارة اخرى وعياً قادراً على إحداث النقلة وأن يشكل الرافعة الاجتماعية ـ السياسية في عملية التغيير وإنجاز أهدافه.
من هنا نخلص الى أن دراسة التراث من هذا المنظور، ليست مجرد “ردة فعل” على التيارات والحركات السلفية والتكفيرية، بل مهمة وضرورة موضوعية وتاريخية تأتي في الأساس تعبيراً عن إضطلاع القوى التغييرية بمسؤولياتها التاريخية في تقديم التراث لجماهير الشعب من أجل التأسيس لفهم موضوعي وتحليل عملي مرتبط بالواقع، ولكي تتضمن إيصال هذا الفهم للجماهير وصياغة برنامجها النضالي الذي لا يمكن ان يكتمل دون وعي نقدي يشكّل الضمانة لنجاحات وإنجازات المشروع والقدرة على مواجهة تحدياته واستمراريته.
- * *
كيف تعاملنا مع مسالة التراث؟
ينطوي هذا السؤال على شقين:
أ) كيف تعاملت القوى النهضوية (التقدمية والقومية والاشتراكية والعلمانية وكافة القوى التي تتبنى مشروعاً قومياً نهضوياً) مع مسألة التراث؟
ب) هذا من ناحية. ومن الناحية الثانية، كيف تعاملت هذه القوى النهضوية مع قوى الدين السياسي في الصراع السياسي والإجتماعي المحتدم منذ عقود، بالطبع لا نقصد التعامل من منظور العقيدة الإيمانية للفرد بل من منظور الفكر والصراع السياسي بينهما، أي بين الحركات القومية والنهضوية من جهة، وحركات الدين السياسي، من جهة اخرى؟
لو راجعنا معالجة القوى العربية القومية والعلمانية لهذه المسألة عبر القرن الماضي وخاصة نصفه الثاني، فانه سرعان ما يتبين لنا أن هذه القوى لم تمنح هذه المسألة العناية الكافية وتجاوزتها لعقود طويلة، مما أدى الى وقوع التراث (وفهمه وتفسيره وتوعية الجماهير به) رهينة للنظرات الغيبية، وهو ما عزز بدوره حضور وتأثير العناصر السلفية والتكفيرية بين الحركات الاسلامية، فكان الثمن هذا التصحر الفكري الذي اصاب جماهيرنا وأدى الى إخلاء الساحة لقوى الدين السياسي وإنفرادها بجماهير الشعب وخاصة الفقيرة منها والمهمشة والمظلومة.
في الحلقة الثالثة والأخيرة سأتناول فشل الحركات العلمانية والقومية العربية في التعامل مع مسألة التراث مما ترك الساحة خالية لسيطرة قوى الدين السياسي (الإسلام السياسي).