نارام سرجون ـــــ سورية
تريثت في الكتابة الى أن تحدثت مع كثيرين لأتأكد من صوابية رؤيتي .. ومن هؤلاء أشخاص مقربون جدا من مركز صناعة القرار السوري .. وقبل أن نغوص في هذا التحليل فانني أنقل لكم أني سمعت كلاما مريحا للغاية .. واحدى هذه العبارات والتي قالها لي شخص موثوق لايعرف المواربة ولا المناورات الكلامية وهي : “تأكد أن المستقبل لنا لأننا نمسك مع حلفائنا مفاتيح الشرق الأوسط الكبرى .. هناك كمّ كبير من الثقة بالنفس وهناك كمّ أكبر من التفاؤل الرزين
وبعد مجزرة الحولة ومسرحية طرد السفراء أمضيت وقتا في تبادل الآراء مع مجموعة الأصدقاء الغربيين الناشطين سياسيا وهم من المجموعات المثقفة المناهضة للنظم المالية والاحتكارات المسيطرة حاليا في الغرب .. وهم أقدر مني على فهم سلوك الغرب وماتحت سياساته وتصريحاته .. وقد اتفق الجميع على أن مسرحية الحولة كانت عملية انقاذ للمعارضة السورية واضطر المحور المعادي لسورية الى قتل الضحايا لنقل دمهم الى الثورة السورية المتهالكة لأنها تحتاج الى نقل دم اسعافي ..
فما وصل من مسح عام لبؤر الثورة الى المكلفين بمتابعة الملف السوري أن هناك تراجعا في الأمل وتململا ويأسا وشعورا باللاجدوى بين المسلحين وبين جمهور الثورة ..لأن الانطباع العام لديهم هو الميل للاقرار بانهيار كل أحلام الثوار في أي مدد وأن الثورة تبدو نفقا بلا نهاية بعد أن اعتقد البعض أنها نزهة في زنقة من زنقات الراحل معمر القذافي ..
والأهم أن هناك ملاحظة لبعض التراجعات الواضحة .. وخاصة بعد أن شاهد الجميع بأم العين كيف فتك الجيش السوري ببؤرة المسلحين في بابا عمرو ولم يجرؤ “ابن امرأة” في العالم كله على التلويح بالتدخل .. ورأوا كيف اختبأ أردوغان كالجرو الصغير خلف تصريحات أوغلو وكيف اكتفى ساركوزي وأوباما بالتنديد والادانة مستنسخين بيانات الجامعة العربية حول القضية الفلسطينية .. فيما كانت السعودية تقصف الجيش السوري بالدعاء عليه .. أما أمير قطر فكان يطلق ردامه الضخم كالقنابل الصوتية..والغازات المسيلة للدموع
وقد نقل الي شخص متابع دقيق أنه حسب نصائح خبراء ممن التقوا بعض القادة الميدانيين للمسلحين في شمال لبنان وطرابلس فان هؤلاء لمسوا أن المزاج العام لهذه البؤر في حال نفسية ليست مطمئنة وأن بعض المسلحين في لحظات حرجة للغاية معنويا بعد أن فقدوا عددا من رفاقهم أو لاحظوا فرار بعضهم وعدم عودته بشكل غامض فيما باتت تصرفات البعض نزقة وعصبية ..وكثيرا مايلجؤون لتهديد بعضهم بالسلاح عند الخلاف في وجهات النظر .. وهم يقولون انهم يخوضون حرب عصابات شاقة قد توجع النظام ولكنهم كمسلحين متناثرين يتعرضون لخسائر معتبرة وهذا النزيف لن يكون في صالحهم لأن مجموعاتهم تتلقى ضربات متواصلة عقب كل عملية .. وهناك من يشيع القول بانتشار العواينية بكثرة بين المقاتلين..ولذلك يقلل المسلحون الآن من عدد المكلفين في كل عملية مسلحة لتقليل احتمال الاختراق وتسريب المعلومات
وهذه الملاحظات أضيفت لملاحظات – كما نقل اليّ – تنتشر صراحة الآن الى خلافات تتسرب من بين كواليس الاجتماعات مع بعض أعضاء مجلس استانبول التي شهدت نقاشات حادة في الآونة الأخيرة وتراشقا بالاتهامات بالعمالة والمسؤولية والفشل .. والتهديد بالانسحاب.. وانتقادات قاسية جدا لبرهان غليون جعلته في احدى الجلسات يخرج عن طوره ويذكّر الجميع أنه أستاذ في السوربون وأنه منح هذه الثورة أعظم كنوزها وهو ” اللحاف العلماني الغربي” الذي غطى فيها لحى الثوار .. وتدفقت نرجسيته المريضة عندما نوّه الى أن اسمه في كفة وأن كل مجالس الثورة في كفة .. وقد وصل الهياج بالبروفيسور السوربوني حدا أنه أطلق كلمات نابية عندما ذكّره أحد الجالسين الغاضبين ساخرا برأي عزمي بشارة به وبقيادته .. ولم يسكت حتى تمت تهدئته .. وترويقه باتصال هاتفي من مكان ما!!!
وكانت النتيجة أن هذا الوضع من الناحية التفاوضية سيضع الحكومة السورية وحلفاءها في وضع تفاوضي قوي لمجرد الشعور بالاسترخاء لظهور تصدع كبير ينمو من هذه التشققات في جسد المعارضة الهش ..وللتراجع النسبي في نسبة العنف .. وكانت تقديرات الناصحين أن السلطة السورية يجب ان تنتقل اليها هذه الحالة بالضغط عبر استفزاز شارعها ودفعه للتململ والشعور بالاحباط وضعف الثقة بالمستقبل عبر حركات استعراضية وبهلوانيات رشيقة .. فالتفجيرات الانتحارية لم تفعل فعلها في توجيه الضغط الشعبي على الدولة بشكل كاف ..ولابد من اثارة النقمة عليه بين جمهوره وعموم السوريين الذين لا أمل في انجذابهم للثورة بتاتا بعد الآن
بعد مجزرة الحولة ..يلاحظ أنه تسارعت ردود الفعل بشكل منسق وحدث بالضبط مثلما حدث في سيناريو قتل رفيق الحريري حيث اتهم السوريون بالعملية وفوجئوا بالتصعيد واضطروا للانسحاب من لبنان .. ولذلك بعد مجزرة الحولة سارع الغرب خلال دقائق الى الدعوة لنقاش الأمر في مجلس الامن ولم تكن الغاية الادانة بقدر ما أنها توطئة اعلامية لتبرير حركة استعراضية هي عملية طرد السفراء والديبلوماسيين السوريين .. وأعادة انتاج نفس عنتريات أول الأزمة السورية من تدخل عسكري وسيناريو شبيه بليبيا..واخراج أردوغان من أذنيه من قبعة الساحر الغربي ليقول كلماته المعتادة عن الصبر وحدود الصبر قبل أن يعاد من أذنيه الى القبعة استعدادا لجولة أخرى .. اذا الغاية ابتزاز سياسي بقصد دفع السوريين الى بعض التراجعات والانسحابات التفاوضية المؤلمة .. وهذا بحد ذاته يمكن استخدامه لتهدئة مخاوف المعارضين وايقاف تدني منسوب الثقة الشديد بالمستقبل الثوري
بالطبع من يفهم السياسة الغربية بعد كل هذا الوقت في الأزمة السورية يعرف أن كل الحديث عن التدخل العسكري المباشر لايشبه الا تهديد الجيش القطري بالتدخل في سورية ..لكن سيستفاد منها على أبعد التقديرات في تبرير تقديم دعم مالي وعسكري “ما” للمعارضة السورية بشكل مشروع ومقونن لأن الغرب لايترك كل شيء للعربان والأتراك وهو يريد الامساك بايقاع اللعبة .. وهو أيضا يريد أن يكون في موقع السيطرة والتحكم بالموازين السياسية داخل المعارضة منذ الآن بعد أن بدأت عملية التفاوض والشد .. فالناتو لن يغامر بحياة عسكري واحد في هذه الأزمات السياسية والمالية الاوروبية .. انما سيدفع المسلحين السوريين للموت أمامه وهو يستعملهم ككاسحات الألغام ..لكنه لن يغامر بالدخول الى الأزمة السورية مباشرة
المعارضة السورية في الفنادق الأوروبية وفي منتجعات استانبول والتي تجلس تحت المكيفات وتتلقى الأموال بسخاء وتمارس الفساد المالي على أصوله في سجلات الحسابات “الثورية” والتي حلت مشاكلها المالية وباتت على هامش الاجتماعات تدير أحاديث الشراكات والصفقات التجارية والمشاريع المشتركة للاستثمار هنا وهناك (خارج سورية طبعا) تعرف هذه الحقائق بحذافيرها واهتمامها بمشاريعها الاستثمارية كان مؤشرا على أن النضال الثوري قد وصل الى خواتيمه وأن الثرثرة السياسية صارت وظيفة اعلامية فقط .. ولكن من لايعرف هذه الحقائق هو أولئك المسلحون المغفلون على الأرض الذين يدفعون عائلاتهم الى التشرد بعيدا عنهم وهم يموتون أو يتحولون الى وحوش بشرية هائمة في البراري يقتلون جيرانهم وجنود بلادهم .. ويقتلون بشكل بائس ويعملون عمل كاسحات الألغام للغرب واسرائيل ..وبرنار هنري ليفي
هؤلاء المغفلون سيعطيهم هذا الوهم بأن سحب السفراء هو انجاز ومقدمة للغزو وان الفرج قادم .. وسيستمرون قليلا ويشدون من أزر بعضهم وسيشربون من ماء السراب في واحة الأوهام في الأمم المتحدة .. وسيدفعون لارتكاب المزيد من الأذى ويشتعلون في المعارك كأعواد الثقاب والشموع لانارة درب التحالف الغربي نحو اطلاق حرب أهلية ..حرب أهلية يدفع بها الغرب بشكل حثيث لأنها الأمل الأخير في أن يقتل السوريون بعضهم وأن تتغازل القرى مع القرى بالبنادق بدل ان يتغازل الشبان والصبايا من أبناء الطوائف .. وحيث يتبادل الناس طلقات الرصاص بدل حلوى العيد
مال كثير ..وسلاح كثير .. وغباء منقطع النظير..لايبزه حتى صاحب حكمة “ربي يسر” أبو نظير
على كل حال هذه الألاعيب ستستمر وهذا التهريج سيستمر وهو سيؤلمنا ويدفعنا للتوجم قليلا بين الفينة والفينة ..لكن الخرائط النهائية للعبة انتهت تقريبا والخلاف يشبه النزاع على النقاط الحدودية وعمقها وتداخلها.. وقد بقيت هناك بقعة بيضاء في فم الربيع العربي الأسود والذي سقطت فيه الأسنان تبتسم اسمها سورية تقف كالعظمة في الحلق الغربي
ولأن الثورجيين لايحبون دروس الفلسفة لأنهم لايفهمون الدروس الصعبة ويهرشون رؤوسهم حائرين اثر كل عبارة فلسفية فسأنهي هذا القطعة المنحوتة من أعلى ذروة في قاسيون بعبارة هيراقليطس الشهيرة هدية أخوية مني لهم
ياشباب .. لاجديد تحت الشمس ..لايمكن أن تقفزوا في النهر الواحد مرتين
ولنسهل على الشباب فهم العبارة سنقول لهم : لاجديد في الأزمة السورية … روسيا لن تتغير .. والصين لن تتغير .. وايران لن تتغير .. والشعب السوري الواسع لن يتغير .. وعداء الرئيس الأسد لاسرائيل لن يتغير .. ومحور المقاومة لن يتغير … لكن كل شيء حولكم يتغير .. وأنتم تقفزون في الماء الذي لم يعد نفس الماء الذي قفزتم فيه أول مرة .. لقد جرت مياه كثيرة تحتكم .. انتظروا قليلا فقط
:::::
“الأردن العربي”