قراءة مختلفة في الحراك الشعبي العربي:

مناقشة في مفاهيم المرحلة[1]

(الجزء الثالث والآخير)

د. مسعد عربيد

 

أولاً: أسباب فشل العلمانية العربية

 

تتعدد تعريفات العلمانية ويكثر فيها الجدل، إلا ان ما نقصده بالعلمانية في سياق هذا البحث هو باختصار ووضوح فصل الدين عن الدولة والحفاظ على المعتقدات الدينية الإيمانية قراراً وخياراً للفرد وعلاقته بالله او بالخالق.

لم تلعب العلمانية العربية، إن كان لنا ان نستخدم هكذا مصطلح مجازاً، دورها المتوخى في تأسيس وعي نقدي لدى الجماهير العربية، بل كثيراً ما إختارت المهمة السهلة اي النقل عن اوروبا والعلمانية الاوروبية وهو ما لا يتوافق مع واقع بلادنا وتراثنا وسياقنا الاجتماعي والتاريخي. ربما لا تكمن المشكلة في أخذ المضمون العلمي والإجتماعي للمصطلح، بل ان المشكلة في أن برادايم العلمانية الناشىء في مجتمعات صناعية متطورة ليس من السهل تطبيقه في مجتمعات غير صناعة وبطريركية. ولا شك أن العمل الحزبي بما يتضمنه من وعي (وتوعية) ثوري حزبي او تطور ثقافي قد يساهم في التعويض، ولكن اذا غاب العاملان، المضمون العملي والإجتماعي للعلمانية، فهناك تكون المشكلة. (انظر تجربة الحزب القومي السوري الإجتماعي).

1) لقد فشلت العلمانية في تقديم التراث الى الجماهير العربية من منظور نقدي، وفي إرساء مفاهيم جديدة في التعامل مع مسألة التراث وأقصد هنا بالتحديد ترسيخ وعي حقيقي بالتراث وجوانبه الثورية والتقدمية والإطلال على نضالات الشعوب في وطننا وفي العالم أجمع.

وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة الى أن هذه الحركات قصرت تقديم المعرفة على مسائل العلمانية وتوفير حيز الجدل بقضاياها، مما أدى الى غياب أو تغييب هذه المعرفة، فكان هذا الغياب واحداً من الأسباب المسؤولة، بالإضافة الى عوامل أخرى، عن الفراغ الذي جاءت التيارات الدينية المتشددة لتملأه.

2) كما فشلت العلمانية في ترسيخ فهم متأصل بمسألة الصراع الوطني والاجتماعي والطبقي، فهم يوضح العلاقات الجدلية بين مكونات وأشكال النضال ويؤكد أن هذا النضال، بكافة أشكاله ومستوياته، هو المشترك الانساني بين الشعوب من أجل خير الانسانية ومستقبلها الأفضل.

لهذين السببين الرئيسيين لم تطور العلمانية العربية مفاهيم تقوم على توجهات تقدمية وتغييرية وثورية تكون جزءاً من المشروع التحرري العربي. لو تم التأسيس لهذه المفاهيم، لكان من شأنها تشد الوعي الشعبي الى الأسباب الجذرية للصراع سواء كان وطنياً تحررياً من قوى الإستعمار الغربي، أم إجتماعياً وطبقياً ضد قوى الظم والإستغلال، ولكان كفيلاً بفهم أطراف الصراع ومكوناته، أي معسكري الأعداء والأصدقاء.

3) لم تطرح الحركات العلمانية العربية (ومعها كافة الاحزاب التقدمية والقومية والاشتراكية) البديل أي لم تطرح تصوراً لأدوات التغيير وألياته. صحيح أنها طالبت بالعلمانية والدولة العلمانية، ولكنها لم تلق الوسيلة لتحقيقها.

4) لا شك أن ربط العلمانية بالإلحاد من قبل القوى المغرضة التي لفقت مثل هذه الأكاذيب والتلفيقات، تسبب في أضرارٍ جسيمة بالعلاقة مع الجماهير الشعبية وخسارة دعم جزءٍ كبير منها، وهو ما خدم في التحليل النهائي مخططات وغايات الرأسمالية والإمبريالية في بلادنا.

لهذه الأسباب مجتمعة، أخفقت الحركات العلمانية في بناء وعي الجماهير وما زالت هذه الهوة تتعمق وتتعاظم وتزداد خطورة. وهذا يعني انها فشلت في تلبية ضرورة تاريخية وشرط أساسي لتحقيق التغيير، كما يعني أيضاَ أنها فشلت في الرد عليها ومقاومة تأثيرات التيارات السلفية والتكفيرية والمفاهيم التي تروج لها هذه التيارات.

ولكي تكتمل الصورة، لا بد لنا ان نؤكد الحقيقة المرّة، وهي انه في مقابل عجز الخطاب العلماني العربي (القومي، الشيوعي، الليبرالي…)، نرى أن قوى الدين السياسي ألقت بكل ثقلها في الشارع العربي المتدين ورسخت، منذ ثورة الخميني وقبلها، ردة سلفية دينية لم تترك جانباً من جوانب الحياة الشخصية والجمعية والاجتماعية إلا وتدخلت فيها. ولا نحتاج لأكثر من تفحص صفحات الإعلام والانترنت والفضائيات لنرى السيطرة الكاملة على مدار الساعة للبرامج الدينية والفتاوى وغيرها من أصناف الغيبيات والخزعبلات.

* * *

ثانياَ: فشل الحزبية العربية

لقد أخفقت الحزبية العربية، على اختلافها تنظيماتها ورؤاها وبرامجها، في تحقيق أهدافها المعلنة، وبهذا المعنى فهي مسؤولة عن إنهيار المشروع النهضوي العربي، وإن لم تكن المسؤولة الوحيدة. وبالحزبية العربية أقصد فصائلها الرئيسية التي شغلت ساحة النضال في الوطن العربي وأهمها: الحركات القومية (الناصرية، البعث، القوميون العرب، القومي السوري الاجتماعي) والشيوعية والاشتراكية العربية. وقد تجلي هذا الإخفاق في الظواهر التالية:

● تلقت الناصرية ضربات متتالية منذ هزيمة حزيران 1967 ووفاة عبد الناصر في أيلول 1970 وقدوم المرحلة الساداتية.

● صحيح ان حزب البعث في شعاره المعروف “وحدة حرية إشتراكية” قد أمسك برؤية ثاقبة لمهام المرحلة التي وُلد فيها، وصحيح انه حكم العراق منذ 1968 وحتى احتلاله عام 2003، وانه ما زال يحكم سوريا منذ عام 1963، إلا انه كغيرة من الأحزاب العربية لم يجد الوسيلة ولا الآليات لتطبيق وتحقيق هذه الأهداف.

● أما حركة القوميين العرب فقد تخلت عملياً عن مشروعها القومي على الساحة العربية عندما حلت تنظيمها في اواخر عام 1967 وأسست الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الساحة الفلسطينية وغيرها من التنظيمات في الاقطار العربية الأخرى. وقد تُركت هذه التنظيمات لأمرها في أقطارها دون قيادة قومية أو مشروع قومي.

أما أسباب إخفاق الحزبية العربية فتتعدد ويطول فيها الجدل، وسوف أعرج فيما يلي على أهمها:

1) التأثيرات الكارثية العميقة للتجزئة وقيام الدولة القُطرية التي حسمت موقفها في معسكر العدو، الغرب الراسمالي الامبريالي الذي خلقها وما زال يزودها بمقومات البقاء والحياة (انظر دور السعودية وقطر والخليج منذ احتلال العراق وصولا الى المؤامرة ضد سوريا).

2) تبعية الأنظمة العربية للغرب الراسمالي والتحالف معه في التآمر الخارجي والإستهداف الغربي لبلادنا.

3) الإحتراب بين الفصائل والأحزاب القومية مما تسبب في أضرار كثيرة.

ليس المقصود من سرد هذه الإخفاقات التقليل من دور التنظيم السياسي والحزب والبرنامج والقيادة، والإيحاء للقارئ أو إيصاله الى القناعة بان دورها غير هام كما ذهب الكثيرون من المثقفين والمفكرين والكتّاب خلال الحراك العربي فتفاخروا بان هذه الإنتفاضات الشعبية كانت أصيلة وعفوية حيث أنها تميزت بغياب الإطارات الحزبية وبرفضها للأحزاب والتنظيمات السياسية، بل ان بعض هؤلاء المثقفين ذهب الى حد تفسير هذه الإنتفاضات بانها جاءت رداً على فشل الأحزاب. ولا أخال أن هذه المقولات بريئة أو بعيدة عن الثورة المضادة التي عملت، من بين ما عملت عليه، على حرمان الجماهير من تراثها النضالي، مع إقرارنا بأخطائه وعلاّته وإخفاقاته، والإفادة من هذه التجارب والتضحيات العظيمة. فأية أمة تتنكر لتراثها وتجاربها!

كل هذا في تقديري صبّ في خدمة الدين السياسي، فظل الأقوى والأكثر تنظيما حضوراً في الشارع، وبالتالي الأكثر إشتباكاً بالواقع والتأثير فيه.

نخلص من تحليل مواقف الحركات العلمانية والنهضوية العربية، وهنا بيت القصيد، بان الفراغ الذي تركته هذه القوى في الشارع العربي لم يكن نتيجة للإنحسار السياسي والاجتماعي لهذه القوى فحسب، بل نتيجة لإنحرافٍ في نهجها وتحليلها وقصورٍ في فهمها وتقاعسٍ في التأسيس لوعي نقدي ثوري لدى الجماهير العربية.

* * *

بعد شرح أسباب فشل الحركات القومية والعلمانية العربية، ننتقل الى قوى الدين السياسي وهيمنتها على مقاليد الأمور بعد إنتفاضات الشعوب العربية وخصوصا في تونس ومصر وليبيا وها هي تحاول القيام بالمثل في سوريا. وسوف نتناول هذه الحركات في محورين:

ـ الأول، نستعرض فيه بعض عناصر ومكونات الذهنية الدينية؛

ـ والثاني، نسلط فيه الضوء على ركائز الدين السياسي والسمات العامة لحركات الإسلام السياسي.

اولاً: مكونات العقل الديني/السلفي

ملاحظات عامة

ليس الدين او الإسلام هو موضوعنا اليوم، ولكننا نطرق الدين في سياق هذا البحث من حيث توظيفاته في السياسة والمجتمع وإستخدامه كآلية لتحقيق غايات سياسية واجتماعية.

وعليه، دعونا في البدء نفرّق بين مسألتين منفصلتين:

اولاً، التفريق بين الإسلام كتدين وعقيدة إيمانية وعلاقة الفرد بالله، من جهة، والدين والإسلام عموماُ كمفهوم إجتماعي وسياسي أي الدين في وظائفه الإجتماعية والسياسية، من جهة أخرى.

ثانياً، التفريق بين الإسلام من جهة، وتفسيرات الفقهاء له، من جهة أخرى.

هناك خلط دفين وخبيث ومتعمد في ثقافتنا وخطابنا وعقولنا في هذه المسائل، وهنا يكمن احد الاسباب الرئيسية لتخوف الناس من نقد رجال الدين والمؤسسة الدينية، إضافة الى سببين آخرين:

أ) ان الفقهاء ورجال المؤسسة الدينية يستطيعون في كل الأوقات تكفيرمَنْ يختلف معهم والدعوة الى قتله.

ب) ان هناك ملايين الناس الجاهلة أو المُجهلة او كلاهما التي تصدقهم دون مسائلة ودون إعمال العقل والمنطق.

لهذين السببين، إضافة الى الخوف والترهيب والقمع والتكفير والتجهيل، لا يستطيع أحد أن ينتقد الذهنية الدينية ولا أن يواجه المشكلة الطائفية والمذهبية التي تنخر الجسد العربي وتهدد مجتمعاتنا بتفكيكلها وزعزعة تماسكها.

أما مخاطر هذه الذهنية فتتمثل بايجاز شديد فيما يلي:

1) تزعم الذهنية الدينية أنها تقف على فقه معصوم لا يخطأ ولا يتبدل ولا يتغير مهما تغيرت الأوضاع والظروف. وهذا في ترجمته العملية يعني شلل المرحلة وإحتقانها.

2) يلغي النص الديني العقل الذي يستسلم له ويخلق من حوله حالة من الخوف والرعب والتحاشي، ويولد فينا حيرة تبقينا سجناء المعنى الحرفي لهذا النص أو عرضة للتفسير والتأويل وفق رغبة ومصالح الفقهاء.

3) لا تتوقف فتاوي الفقهاء عند إغتيال الفكر والعقل والنقد فحسب، بل تتجاوزه الى تكفير الآخر وإلغائه وتُحلَّ دمه مما يؤدي الى تأجيج التناحرات الطائفية والمذهبية. كيف لا وقد ملأ الفقهاء أمثال القرضاوي وغيره فضائنا الروحي والثقافي والسياسي الإعلامي وأضحى مشهداً يومياً في حياتنا. وحيث أن بيئتنا العربية تتسم بتعددية الإثنيات والقوميات والأديان والطوائف، فانه من شأن هذه التعددية، في ظل تسلط الذهنية السلفية التي تلغي الآخر وتكفره، أن تضاعف المخاطر من حيث أنها تؤسس للتعصب الطائفي كعقيدة راسخة على الصعيدين الشعبي والرسمي.

4) كل هذه العوامل مجتمعة، وغيرها الكثير مما لا يسعنا الآن ان نغوص به، تفضي الى حالة الإنسداد التي نعيشها اليوم، وهو إنسداد على عدة مستويات:

أ ـ الإنسداد الفكري واللاهوتي بين النص الديني والذهنية الدينية من جهة، وحرية الفكر والنقد وإعمال العقل والمنطق من جهة أخرى.

ب ـ أما العقل السلفي فيأخذنا من الإنسداد الفقهي الى الإنسداد الإجتماعي والتاريخي. (انظر تونس ومصر وليبيا ).

5) أما الأمر الذي يدعو الى المزيد من القلق فهو ان “وعي” عامة الناس أو على الأقل الأغلبية منها لا يختلف عن هذه التيارات ولا يبدى أي معارضة لها.

كل هذه الإشكاليات تطرح السؤال التالي ولعله أخطر أسئلة المرحلة وأكثرها تعقيداً: كيف نتعامل مع هذا؟ وكيف نعالج أمراُ تكرس في العقل الجمعي منذ أكثر من الف سنة؟

الدين السياسي

السمات العامة لحركات الدين السياسي

 

1) الرؤية القُطْرية: حيث تقوم الرؤية السياسية لهذه الحركات على مفاهيم تجزئة الوطن العربي وترسيخ الدولة القُطرية كياناً وأنظمة وثقافة.

2) معاداة القومية العربية فكرةً ومشروعاً: فقد عارضت هذه الحركات، عبر العقود الثمانية الأخيرة منذ تأسيس أقدم تنظيماتها، حركة الاخوان المسلمين عام 1928، الوحدة والقومية العربية وتآمروا عليها وتحالفوا مع قوى الإستعمار ضدها خلال كافة مراحل عملها السياسي.

3) ان هدف هذه الحركات ومشروعها إسلامي عالمي وليس عربياً قومياً نهضوياً.

4) قد يختلف الإخوان (أو ما يسميه الغرب الإسلام المعتدل) والسلفيون في شؤون الدين والفقه والدين ولكن ليس بينهم خلافاً جوهرياَ في تعاطيهم مع السياسة، فكلاهما يوظف الدين من أجل الوصول الى السلطة السياسية.

5) تشكل الحركات الاسلامية وخصوصا الإخوان القوة الأكثر حضوراً وتماسكاً من حيث التنظيم السياسي والقدرة على التنسيق والتواصل مع الشارع العربي والتأثير عليه.

6) علاقة الغرب بالاسلاميين: تتسم العلاقة بين الحركات الاسلامية السياسية، قوى الدين السياسي والتطرف الديني والأصولية، وبين الغرب الرأسمالي بالتناغم والتناقض في آن وهو أمر يتطلب بعض التوضيح:

ـ في الظاهر يشن الغرب حربه على الإسلام والتطرف والأصولية على كافة لمستويات؛

ـ وفي الباطن يرى الغرب في هذه القوى مصلحة ومطلباً إستراتيجياً إمبريالياً، وهو يغذيها ويسلحها سواء على نحو مباشر او عن طريق عملائه المحليين من الأنظمة العربية العميلة والمرتبطة به، كما انه يعزز الإسلاميين كبديل للانظمة العربية العميلة.

بعبارة أخرى، وبالرغم من التناقض الظاهري بين الغرب والإسلام السياسي، فان التحليل الموضوعي من منظور تلاقي وخدمة الأهداف السياسية لكل من الطرفين، يؤكد أن التناغم قائم بينهما. وهذا لا يعني ان تلاقي المصالح وتناغمها يكون دوماً وبالضرورة بوتيرة واحدة أو في كافة الحالات وفي مختلف مراحل النضال السياسي (مصر مثالاً).

خاتمة

في الختام نلخص المعضلة الرئيسية والتي تكثف المأزق الراهن كما يلي:

اذا كان الإسلام هو العقيدة الدينية لأكثرية شعوبنا، واذا كان الدين السياسي (الإسلام السياسي) يدّعي تمثيل العقيدة السياسية الاجتماعية لهذه الجماهير، واذا كانت الحركات القومية والعلمانية العربية قد فشلت، وإن كان الفصل بين الدين والدولة امرٌ بعيد المنال في المدى المنظور، فما هي تصورات الحل؟

الحل أو ربما الجزء المركزي منه يكون في مشروع بناء وتطوير وعي شعبي عربي قومي نقدي وثوري. ولهذا نقول أن المعركة الكبيرة لم تبداً بعد، لاننا لم نخض حتى الآن المعركة الحقيقية: معركة الوعي… وعي الشعوب. عندها سيكون لنا النصر… لان ثورة بدون وعي وبدون برنامج اجتماعي وسياسي وإقتصادي هي ثورة في مهب الريح، وسوف تبقى في خطر.

 


[1]   طرحت الأفكار الرئيسية في هذه الدراسة في محاضرة لنقابة الصحفيين العرب الأميركيين عُقدت في 3 أيّار (مايو) 2012 في مدينة لوس انجلس ـ الولايات المتحدة.